الإثنين ديسمبر 8, 2025

معاصي القلب

   قال المؤلف رحمه الله: (فصل) ومن معاصي القلب الرياء بأعمال البر أي الحسنات وهو العمل لأجل الناس أي ليمدحوه ويحبط ثوابها وهو من الكبائر.

   الشرح أن في هذه الجملة بيان معصية من معاصي القلب وهي الرياء وهو من الكبائر قال الله تعالى ﴿يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس﴾ [سورة البقرة/264] وقال تعالى ﴿فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا﴾ [سورة الكهف/110] أي لا يراء بعمله. والرياء هو أن يقصد الإنسان بأعمال البر كالصوم والصلاة وقراءة القرءان والحج والزكاة والصدقات والإحسان إلى الناس مدح الناس وإجلالهم له، وقد يكون بإظهار نحول وصفرة وتشعث وخفض صوت ليظن أنه شديد الاجتهاد في العبادة، أو بتقليل الأكل وعدم المبالاة بلبسه ليظن أنه مشتغل عن لبسه بما هو أهم، أو بإكثار الذكر وملازمة المساجد ليظن أنه صوفي مع أنه مفلس من حقيقة التصوف، فإذا زاد على ذلك قصد مبرة الناس له بالهدايا والعطايا كان أسوأ حالًا لأن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، أو بطلب كثرة الزوار له كأن يطلب من نحو عالم أو ذي جاه أن يزوره ويأتي إليه إيهامًا لرفعته وتبرك غيره به، أو بلقاء كثير من أهل الفضل افتخارًا بهم وترفعًا على غيره.

   وكذا الزوج إن أحسن لزوجته أو هي أحسنت إليه لطلب محمدة الناس فهذا رياء، وأما الذي يعمل الإحسان ليحبه الناس لا ليمدحوه ولا للسمعة فلا يعد عمله رياءً لكن لا ثواب له أما إذا أراد أن يقبل الناس منه النصيحة فعندئذ يثاب. والرياء يطلق عليه الشرك الأصغر فقد روى الحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الرياء فإنه الشرك الأصغر» وهو من أكبر الكبائر لوصفه صلى الله عليه وسلم إياه بأنه الشرك الأصغر.

   وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملًا أشرك فيه معي غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك». ومعنى قوله أنا أغنى الشركاء عن الشرك أي لا يليق بي أن يشرك بي، وقوله وهو للذي أشرك معناه جزاؤه ذلك الذي أراده أي أن يمدحه الناس.

   وفي الصحيحين من حديث جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به». ومعنى «من سمع سمع الله به» أن الذي يعمل الحسنات ليتحدث الناس عنه بها يفضحه الله تعالى، ومعنى «ومن يرائي يرائي الله به» أي يبين الله للملائكة أنه يرائي.

قال النووي: «لو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس والاحتراز من تطرق ظنونهم الباطلة لانسد عليه أكثر أبواب الخير وضيع على نفسه شيئًا عظيمًا من مهمات الدين وليس هذا طريقة العارفين»، ولقد أحسن من قال: سيروا إلى الله عرجًا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة.

وروى البيهقي عن هلال بن يسار أنه قال: قال عيسى ابن مريم صلوات الله عليه: «إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته وليمسح شفتيه ويخرج إلى الناس حتى كأنه ليس بصائم وإذا أعطى بيمينه فليخفه عن شماله [أي ما لم يكن مصلحة في إظهارها]، وإذا صلى أحدكم فليسدل ستر بابه فإن الله تعالى يقسم الثناء كما يقسم الرزق». وعن ذي النون قال: «قال بعض العلماء ما أخلص العبد لله إلا أحب أن يكون في جب لا يعرف» اهـ.

وروى الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من قام بمسلم مقام رياء وسمعة أقامه الله تعالى يوم القيامة مقام رياء وسمعة» معنى هذا الحديث أن الذي يرتكب هذه المعصية وهي أن يقصد رفع شأن نفسه عند الناس وتهشيم شخص ءاخر ظلمًا يريد أن يفخم نفسه لينظر إليه بعين الإجلال ليحمد ويهشم الآخر فهذا ذنبه عظيم والله تبارك وتعالى يفضحه يوم القيامة ويكشف حاله أي يكشف حال هذا الإنسان الذي يتكلم على مسلم بما يظهر به لنفسه النزاهة وعلو المقام والرفعة أي رفعة القدر بتهشيم ذلك الإنسان وفضحه بين الناس، يقال عنه يوم القيامة إن فلانًا قام يوم كذا مقام كذا فتكلم عن نفسه بما فيه رفع شأنه وما فيه تهشيم فلان. فالفضيحة في ذلك اليوم تكون شديدةً على النفس في ذلك الملإ العظيم يوم يجمع الله الأولين والآخرين.

والرياء يحبط ثواب العمل الذي قارنه، فإن رجع عن ريائه وتاب أثناء العمل فما فعله بعد التوبة منه له ثوابه، وأي عمل من أعمال البر دخله الرياء فلا ثواب فيه سواء كان جرد قصده للرياء أو قرن به قصد طلب الأجر من الله تعالى.

فلا يجتمع الثواب والرياء لحديث أبي داود والنسائي بالإسناد إلى أبي أمامة قال جاء رجل فقال يا رسول الله أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال «لا شىء له» فأعادها ثلاثًا كل ذلك يقول «لا شىء له»، ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا له وما ابتغي به وجهه» وجود الحافظ إسناده. قال سفيان الثوري «ما عالجت شيئًا أشد علي من نيتي» معناه أصعب المعاصي إخراجًا من القلب هو الرياء وهذا صحيح لأن النفس مجبولة على حب المدح، هذا يبني مدرسةً ليقال عنه فاعل خير وهذا يدرس ليقال عنه عالم وهذا يجاهد ليقال عنه بطل وكذلك سائر الأشياء، والمخلصون قلة. ءاخر شىء يخرج من قلب الصوفي هو الرياء فالذين يسلمون من الرياء قلة قليلة. وقد صدر البخاري كتابه الصحيح بحديث «إنما الأعمال بالنيات» وأقامه مقام الخطبة له إشارةً منه إلى أن كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل [أي لا ثواب له فيه] لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة ولهذا قال عبد الرحمٰن بن مهدي: لو صنفت كتابًا في الأبواب لجعلت حديث عمر بن الخطاب «إنما الأعمال بالنيات» في كل باب، وعنه أنه قال: من أراد أن يصنف كتابًا فليبدأ بحديث «إنما الأعمال بالنيات» فالنفس مجبولة على الرياء والتخلص منه من أصعب الأشياء عليها فإن النفس لا تطهر طهارةً تامةً من الرياء إلا بعد مجاهدة.

   قال المؤلف رحمه الله: والعجب بطاعة الله وهو شهود العبادة صادرةً من النفس غائبًا عن المنة.

   الشرح أن من معاصي القلب التي هي من الكبائر أن يشهد العبد عبادته ومحاسن أعماله صادرةً من نفسه غائبًا أي غافلًا عن تذكر أنها نعمة من الله عليه، أي أن الله هو الذي تفضل عليه بها فأقدره عليها وألهمه فيرى ذلك مزيةً له. فالعجب بطاعة الله معناه أن يعجب الإنسان بطاعاته بحيث إنه يرى تعظيم نفسه وينسى أن الله هو الذي قدره على هذه الطاعات، غائبًا عن المنة أي ينسى نعمة الله عليه. والعجب لا يبطل الثواب إلا إذا كان مقارنًا للعمل، أما إذا حصل بعد الانتهاء من العمل فلا يحبط الثواب لكنه حرام.

   وحكي عن الإمام الشافعي أنه قال: إذا خفت على عملك العجب فاذكر رضى من تطلب وفي أي النعيم ترغب ومن أي عقاب ترهب وأي عاقبة تشكر وأي بلاء تذكر فإنك إذا فكرت في واحدة من هذه الخصال صغر في عينك عملك.

   وقد سأل بعض أئمة خراسان الشيخ شهاب الدين السهروردي فقال: القلب مع الأعمال يداخله العجب ومع ترك الأعمال يخلد إلى البطالة فأجابه بقوله: لا تترك الأعمال وداو العجب بأن تعلم أن ظهوره من النفس فاستغفر الله فإن ذلك كفارته ولا تدع العمل رأسًا.

   قال المؤلف رحمه الله: والشك في الله.

   الشرح أن من معاصي القلب الشك في الله أي في وجوده أو قدرته أو وحدانيته أو حكمته وعدله أو في علمه أو غير ذلك من صفاته فالشك هنا يضر العقيدة ولو كان مجرد تردد ما لم يكن خاطرًا يرد على القلب بلا إرادة قال الله تعالى ﴿إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا﴾ [سورة الحجرات/15] دلت الآية على أن من شك في وجود الله أو قدرته أو نحو ذلك ليس بمؤمن وأن الإيـمان لا يحصل إلا بالجزم وأن التردد ينافيه.

   ويختلف حكم التردد في الإيـمان وما يلحق به عن حكم التردد في فعل المعاصي البدنية لأن التردد في الإيـمان ونحوه يمنع صحة الإيـمان فيخرج به صاحبه إلى الكفر، وأما التردد في المعاصي البدنية فإن العبد معفًى عن المؤاخذة به ما لم يصل إلى العزم قال صلى الله عليه وسلم «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا أو يتكلموا» رواه البخاري [في صحيحه]. فالهم بالمعصية لا يؤاخذ به العبد والهم هو التردد في الفعل، أفعل أو لا أفعل، أما العزم فهو الجزم على الفعل.

   قال العلماء: الهم هو أن يميل إلى المعصية من غير أن يعزم فإن عزم استحق المؤاخذة والعقوبة في الآخرة، وقال بعض لا يؤاخذ بالعزم أيضًا ما لم يعمل أو يتكلم فإن عمل أو تكلم يؤاخذ وهذا القول ضعيف غير معتمد.

   إذا هم الإنسان بمعصية فليعالج نفسه حتى لا يقع فيها فإن لم تطعه نفسه الأمارة له بالسوء على ذلك فليجاهدها بقدر الإمكان فإنها حينئذ أكبر أعدائه لقصدها به الهلاك الأبدي، وقد ورد في حديث غير ثابت: أعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك. معناه أيها الإنسان عدو كبير لك نفسك التي بين جنبيك أي إن أطعتها في هواها تهلكك فينبغي للمؤمن أن يخالف نفسه لأن النفس ميالة إلى الشر، كثير من المعاصي والمهالك سببها مطاوعة هوى النفس ليس كل الشر من الشيطان بل نفس الشخص إن اتبعها في هواها تهلك الشخص كما يهلك الشخص اتباع وساوس الشيطان، كثير من الشر من طاعة النفس في هواها ومخالفة النفس فيه حفظ دين الشخص وعرضه والعرض معناه سمعته وهو شامل لشرفه ولسلامة ذكره بين الناس. اجتمع وليان فوجد أحدهما الآخر متربعًا في الهواء فقال له الآخر بم وصلت إلى هذا المقام فقال له بمخالفة نفسي. قال البوصيري:

   وخالف النفس والشيطان واعصهما     فإن هما محضاك النصح فاتهم

   أي لو قالا لك إن هذا هو النصيحة لا يصدقانك معناه اتهمهما فعلينا بمخالفة شياطين الجن وشياطين الإنس وهوى النفس. بعض النفوس ميالة إلى الشر وبعض النفوس ميالة إلى الخير ثم ينضاف إلى ذلك وسوسة الشيطان، قال الله تعالى ﴿ونهى النفس عن الهوى﴾ [سورة النازعات/40] أي روحه. وفي حديث خطبة النكاح «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» رواه أبو داود [في سننه] أحيانًا نفس الشخص قد تدعوه للكفر أو حب المال أو الزعامة، وبعض الناس تدعوهم نفوسهم إلى الخير ولو كانوا قاصرين عن الولاية، النفس الأبية تترفع عن الخبائث والدناءات. أحيانًا الملائكة يجرون الخير على لسان المؤمن، معناه حقيقةً يجعلونه يتكلم بالخير وهذا كان يحصل كثيرًا مع سيدنا عمر أكثر من غيره. ففي الحديث «إن الحق لينطق على لسان عمر» رواه الترمذي [في سننه] معناه أحيانًا الملك يتكلم على لسان عمر.

   فائدة قال أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه: إن الشيطان له حديث بكلام خفي مع نفس الإنسان في الصدر، الأذن لا تسمعه هو يحدث النفس فتفهم عنه لكنه لا يعلم الغيب. الشيطان يقول له قل كذا قل كذا بحيث لا تسمع الأذن ولكنه لا يعلم الغيب لا يعلم بما يحدث به الشخص نفسه.

   قال المؤلف رحمه الله: والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله.

   الشرح أن من المعاصي القلبية التي هي من الكبائر الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله.

   فأما الأمن من مكر الله فقد فسره بعض الشافعية بأنه الاسترسال في المعاصي مع الاتكال على الرحمة فهذا من المعاصي الكبائر مما لا ينقل عن الملة، وهو عند الحنفية [أي الأمن من مكر الله] كفر ناقل عن الملة كما قال ذلك أبو جعفر الطحاوي والنسفي وغيرهما من الحنفية وتفسيره عندهم اعتقاد أن الله لا يعذب على المعاصي بعد ثبوت الإيـمان بالمرة. فالذي يقول أنا واجب لي دخول الجنة والفوز ولا يجوز عكسه فقد كفر لأنه يكون جعل أن تكون عاقبته غير ذلك مستحيلًا.

   وأما القنوط من رحمة الله فتفسيره عند الشافعية أن يسيء الظن بالله فيعتقد أن الله لا يغفر له البتة وأنه لا محالة يعذبه وذلك نظرًا لكثرة ذنوبه مثلًا فهو بهذا المعنى كبيرة من الكبائر لا ينقل عن الإسلام. أما عند الحنفية فهو اعتقاد أن الله لا يغفر ذنوب العصاة فهو عندهم كفر ناقل عن الإيـمان كما صرح بذلك الطحاوي وغيره فعلى هذا عدوه كفرًا. ومعنى هذا أن الخوارج كفار لأنهم يعتقدون أن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار وفيه أيضًا تكفير المعتزلة لأنهم يعتقدون أنه لا يغفر لمن مات مرتكبًا للكبيرة لقولهم إنه ليس بمسلم ولا كافر.

   وطريق النجاة الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن أن يكون خائفًا راجيًا يخاف عقاب الله على ذنوبه ويرجو رحمة الله أما عند الموت فيغلب الرجاء على الخوف.

   قال المؤلف رحمه الله: والتكبر على عباده وهو رد الحق على قائله واستحقار الناس.

   الشرح أن من معاصي القلب التي هي من الكبائر التكبر على عباد الله وهو رد الحق على قائله مع العلم بأن الصواب مع القائل لنحو كون القائل صغير السن فيستعظم أن يرجع إلى الحق من أجل أن قائله صغير السن أو لأنه من الخاملين والمردود عليه من المشهورين البارزين ونحو ذلك.

   واستحقار الناس أي ازدراؤهم كأن يتكبر على الفقير وينظر إليه نظر احتقار أو يعرض عنه أو يترفع عليه في الخطاب. وقد نهى الله تعالى عباده عن التكبر قال الله تعالى ﴿ولا تصعر خدك للناس﴾ [سورة لقمان/18] أي ولا تعرض عنهم متكبرًا، والمعنى أقبل على الناس بوجهك متواضعًا ولا تولهم شق وجهك وصفحته كما يفعله المتكبرون. ﴿ولا تمش في الأرض مرحًا﴾ أي لا تمش لأجل المرح والأشر أي لا تمش مشية الكبر والفخر.

   وروى مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد». وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم «اللهم أحيني مسكينًا» أي متواضعًا [أخرجه الترمذي في سننه]، وروى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله تعالى». وقال بعض الأكابر «كن أرضًا تكن لله أرضى» اهـ، فالذي يضع أواني الذهب أو الفضة في خزانة مثلًا بحيث يراها الناس للفخر أي حتى يقول الناس ما أغناه يوجد عنده شىء ليس عند غيره فعليه ذنب كبير. كل شىء يفعله الإنسان للفخر من لباس جميل ومركب جميل فهو حرام، وكذلك الذي يبني بناءً فخمًا للفخر حتى يقال ما أجمل بيت فلان ذنبه كبير، أما الذي يلبس ثوبًا أنيقًا للتجمل فقط فهو جائز.

   والفخر معناه أن يفعل ذلك ليعجب به الناس أي يريد أن يكون له اختصاص عند الناس بالنظر إليه والتفخيم، والله تعالى لا يحب الفخر في الثياب وفي الأثاث وفي المسكن وما أشبه ذلك.

   وقد ورد في الحديث الذي رواه البخاري في الأدب بأن المتكبرين يحشرون يوم القيامة كأمثال الذر [أي النمل الأحمر الصغير] يطؤهم الناس بأقدامهم. وقال سيدنا علي رضي الله عنه «ما لابن ءادم والفخر أوله نطفة وءاخره جيفة» معناه كيف يفعل ذلك وهو يعرف أن أوله نطفة وءاخره جيفة. والجيفة الجسم لا روح فيه. وقد روى الحافظ ابن حجر في الأمالي بإسناد حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنكم لتغفلون عن أفضل العبادة التواضع» معنى الحديث أن التواضع من أعظم العبادات عند الله. فالتواضع مطلوب مع الكبار والصغار والأغنياء والفقراء لوجه الله وهو يدعو للتآلف، وأما التكبر فهو مذموم في وجه المؤمن وغير المؤمن لأن الأنبياء لما دعوا الكفار إلى الدين ما كانوا متكبرين عليهم لأنهم لو كانوا متكبرين في وجوه الكفار لنفروا عنهم، وأحوال النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء تدل على ذلك فقد كان رجل من اليهود في المدينة عامل النبي صلى الله عليه وسلم ببيع إلى أجل ثم جاء اليهودي إلى النبي قبل حلول الأجل فقال «يا بني عبد المطلب إنكم مطل»، فلم يعنفه النبي ولا أظهر الغضب منه ليدعوه ذلك إلى التفكر في شأن الرسول من حيث تواضعه وحلمه فيميل إلى الدخول في الإسلام ثم أمر النبي بوفاء دينه على وجه الإحسان. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكفهر في وجه هذا اليهودي الذي أهانه من ذمه وذم عشيرته لأن كلامه شامل له ولعشيرته، فكأنه قال أنت يا محمد وعشيرتك تماطلون الدين فأسلم هذا اليهودي لأنه أراد أن يمتحنه هل يجد فيه العلامات التي هي مذكورة في بعض الكتب القديـمة من صفة محمد، فلما رءاها كلها أسلم. وحصل لسيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه شبيه بذلك فإنه كان ذات يوم يمشي مع جمع من مريديه فعلم بذلك يهودي كان يسمع أن السيد أحمد الرفاعي حليم متواضع فأراد أن يمتحنه هل هو كما يصفه الناس أم لا فأتى إليه وقال له «يا سيد أنت أفضل أم الكلب أفضل» فقال السيد رضي الله عنه «إن نجوت على الصراط فأنا أفضل» فأسلم اليهودي وأسلم أهله وكثير من معارفه، فلولا أنه تواضع معه لم يسلم، فلو كان ظهر في وجهه أنه غضب كأن اكفهر في وجهه أو قال له كلمة شتم ما رغب في الإسلام لكن أعجبه شدة حلمه وتواضعه فاعترف في نفسه بأن دين هذا السيد صحيح.

   تنبيه قول بعض الناس «التكبر على المتكبر صدقة» ضلال مبين والعياذ بالله تعالى لأن الله أمر عباده بالعفو والإحسان والتواضع فيجب تحذير الناس من هذه العبارة. وقائل هذه الكلمة إن أراد أنه بمجافاته يزجره عن التكبر يكون صدقةً حقيقةً فلا ضرر عليه لكن هذه العبارة لا تجوز لأن التكبر كيفما كان حرام.

قال المؤلف رحمه الله: والحقد وهو إضمار العداوة بالعزم على إيقاع ضرر بمسلم وإذا عمل بمقتضاه ولم يكرهه كان معصيةً أخرى.

الشرح أن من معاصي القلب الحقد وهو من الكبائر في بعض صوره لا مطلقًا وهو مصدر حقد يحقد وهو إضمار العداوة للمسلم مع العزم على العمل بمقتضاه بالقول أو بالفعل من غير مخالفة ما يستشعر به في نفسه من ذلك بالكراهية كأن يقول في نفسه إن تمكنت من فلان أفعل به كذا وكذا مما فيه إضرار به، فإذا لم يعمل بمقتضى ذلك وكره ما خطر له من إيقاع الضرر بالمسلم ولم يعزم عليه لا يكون معصيةً ما لم يعمل أو يتكلم. ففي الصحيح: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت الناس بما يحب أن يؤتى إليه» رواه مسلم [في صحيحه] والبيهقي وغيرهما. وأما مجرد الجريان بالقلب فهو مما يكثر الابتلاء به فتحريـمه من دون هذا القيد فيه عسر فمجرد أنه يرد على قلبه لكن لا يريد أن ينفذه بأن يشتمه مثلًا أو يوقع به ضررًا لا يكون معصيةً [وهذا هو المراد من قول بعض المصنفين الحقد هو إضمار العداوة للمسلم إذا عمل بمقتضاه ولم يكرهه فإن العزم بالقلب هو عمل قلبي] أما إذا جزم أن يؤذيه ويضره ولو لم يفعل فعليه معصية.

   قال المؤلف رحمه الله: والحسد وهو كراهية النعمة للمسلم واستثقالها إن لم يكرهه وعمل بمقتضاه.

الشرح أن من معاصي القلب الحسد وهو من الكبائر في بعض صوره لا مطلقًا [تنبيه مهم لا يجوز أن يقع من نبي أن يصيب أحدًا بالعين لأن الإصابة بالعين تصحبها نظرة الحسد التي تدل على دناءة نفس وهذا مستحيل على الأنبياء] قال الله تعالى ﴿ومن شر حاسد إذا حسد﴾ أي أستجير بالله من شر الحاسد إذا أظهر حسده فالحاسد لا يؤثر حسده إلا إذا أظهره أما إذا لم يظهر الحسد فلا يتأذى به إلا الحاسد لاغتمامه بنعمة غيره. والحسد هو أن يكره الشخص النعمة التي أنعم الله بها على المسلم دينيةً كانت أو دنيويةً وتمني زوالها واستثقالها له، وإنما يكون معصيةً إذا لم يكرهه أي إذا لم يستشعر بكراهية ذلك مخالفةً لنفسه، ومحله أيضًا إن عمل بمقتضاه. قال بعض السلف «لا يعصي إلا إذا عمل بمقتضاه». ومثال العمل بمقتضاه أن يذهب للناس ويقول لا تعاملوه حتى لا يزيد ماله، وأما مجرد تمني زوال النعمة الدنيوية عن المسلم دون العمل بمقتضاه فليس حسدًا محرمًا، فالحسد الذي هو حرام هو تمني زوال النعمة عن المسلم مع السعي لذلك بالقول أو بالفعل بالبدن أما إذا لم يقترن به ذلك فليس فيه معصية.

فالذي يتمنى أن تزول النعمة عن شخص مسلم وتتحول إليه لأن له مالًا حلالًا كثيرًا مثلًا أو لأن له زوجةً جميلةً أو لأن له أولادًا كثيرين مطيعين أو لأن له صفات جميلةً فيكره له هذا ويتمنى أن لو صارت إليه هذه النعمة ثم يسعى في هذا الشىء فقد وقع في الحسد المحرم، أما إن كان في قلبه تمنى أن لو زالت هذه النعمة عن هذا المسلم كأن قال في قلبه يا ليت هذه الزوجة فارقته أو مات عنها لكن في الظاهر ما عمل شيئًا فهذا ليس معصيةً إلا إذا عمل بالفعل كأن ذهب إلى زوجته فقال لها هذا الرجل خبيث حتى تكرهه وتطلب منه الطلاق، أو قال لأهلها هذه بنتكم زوجها لا يعرف لها حقها حتى يحركوها لتنفصل عنه ثم يتزوجها هو. وكذلك لو تمنى زوال نعمة دينية غير واجبة عن المسلم من غير العمل بمقتضاه لا يكون حسدًا محرمًا، أما إن تمنى له الوقوع في المعصية أو تمنى له ترك واجب أو تمنى له أن يكون فاسقًا فهذا يكون عاصيًا بتمنيه هذا وإن لم يسع.

أما الغابط فهو الذي يتمنى مثل نعمة صاحبه من غير أن تزول عنه، والحاسد هو الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له دون غيره وهو كقوله تعالى ﴿ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض﴾ [سورة النساء/32]، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضر الغبطة؟ قال: «لا إلا كما يضر العضاه الخبط» والعضاه من شجر الشوك.

قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه «الحسد تمني الشخص زوال النعمة عن مستحق لها أعم من أن يسعى في ذلك أو لا فإن سعى كان باغيًا، وإن لم يسع في ذلك ولا أظهره ولا تسبب في تأكيد أسباب الكراهة التي نهي المسلم عنها في حق المسلم نظر فإن كان المانع له من ذلك العجز بحيث لو تمكن لفعل فهذا مأزور [أي عليه ذنب]، وإن كان المانع له من ذلك التقوى فإنه يعذر لأنه لا يستطيع دفع الخواطر النفسانية فيكفيه في مجاهدتها أن لا يعمل بها ولا يعزم على العمل بها، وقد أخرج عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية رفعه «ثلاث لا يسلم منها أحد الطيرة والظن والحسد» قيل فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال «إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ»، وعن الحسن البصري قال ما من ءادمي [معناه غالب بني ءادم] إلا وفيه الحسد فمن لم يجاوز ذلك إلى البغي والظلم لم يتبعه منه شىء» اهـ.

وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا» فيفهم من هذا الحديث أن من داء القلب الحسد والتباغض، وهذا ضرره كبير لأنه خلاف التعاون على البر والتقوى، لأن المسلمين إذا تحاسدوا وتباغضوا يتقاعسون عن البر.

   والأمر الذي يعين على الخلاص من التباغض والتحاسد والتدابر هو مخالفة النفس فإن مخالفة النفس تعين على ما يرضي الله وهؤلاء الأولياء ما صاروا أولياء إلا بمخالفة النفس هواها لأن النفس تحب التكاسل عن مشقة الطاعات. وأما التدابر فهو أن يولي ظهره للمسلم، هذا يقبل إليه وذاك يدبر عنه أو يصرف وجهه إلى الناحية الأخرى للإشعار بأنه يكرهه، وهذا فيه إيذاء للمسلم. وقد قيل إن الحسد هو أول معصية عصي الله بها في الجنة [أي حسد إبليس لنبي الله ءادم عليه السلام] وأول معصية عصي بها في الأرض [أي حسد قابيل هابيل ثم قتله له]، قال الله تعالى ﴿أم يحسدون الناس على ما ءاتاهم الله من فضله﴾ [سورة النساء/54].

فائدة قال الله تعالى ﴿ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض﴾ [سورة النساء/32] لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما ينبغي لكل من بسط في الرزق أو قبض فعلى كل واحد أن يرضى بما قسم له ولا يحسد أخاه على حظه وليتذكر الواحد منا قوله عليه الصلاة والسلام «إذا نظر أحدكم إلى من هو فوقه في المال والخلق فلينظر إلى من هو دونه فإنه أحرى أن لا يزدري نعمة الله عليه» رواه مسلم وغيره.

وقد مدح الله أصحاب الصفة وهم نحو من أربعمائة رجل من مهاجري قريش لم تكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر فكانوا في صفة المسجد وهي سقيفته يتعلمون القرءان بالليل ويرضخون النوى بالنهار [أي يدقونها ويكسرونها يعلفونها الإبل] وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى قال الله تعالى ﴿يحسبهم الجاهل﴾ أي بحالهم ﴿أغنياء من التعفف﴾ مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة ﴿تعرفهم بسيماهم﴾ من صفرة الوجوه ورثاثة الحال ﴿لا يسألون الناس إلحافًا﴾ [سورة البقرة/273] أي لا يسألون الناس ولا يلحون في السؤال، فهو نفي للسؤال والإلحاح، والإلحاح هو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشىء يعطاه. وفي الحديث «إن الله يحب الحيي الحليم المتعفف ويبغض البذي السائل الملحف» أي الملح وقيل معناه أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحوا.

فائدة إن مما أثبته الشرع الشريف من الأسباب العادية العين فقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العين تضر أي بقضاء الله وقدره. ولا تحصل الإصابة بالعين إلا من نظرة حسد أو عجب أما النظرة البريئة فلا يحصل منها الإصابة بالعين. قال بعض العلماء وهو القاضي أبو بكر ابن العربي إذا لم يتكلم العائن أي الشخص الذي يصيب بعينه أي يضر بعينه بما يدل على الإعجاب بالشخص أو الشىء الذي أعجبه لا يحصل الضرر، إنما يحصل الضرر إذا تكلم الشخص العائن وقال بعضهم يحصل الضرر لو لم يتكلم، فالذي ينكر الإصابة بالعين فقد خالف الشريعة لأن الرسول أثبت ذلك فقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق [أي شىء ثابت] فلو كان شىء سابق القدر سبقته العين» معناه لو كان شىء يغلب قدر الله تعالى لسبقت العين القدر لكن لا شىء يغلب قدر الله، معناه العين لها تأثير كبير. ويفهم من الحديث أنه لا شىء يؤذي أو ينفع إلا بمشيئة الله. والقرءان أيضًا أثبت الإصابة بالعين قال الله تعالى ﴿وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر﴾ [سورة القلم/51] المعنى يا محمد إن الكفار يكادون يصيبونك أي يضرونك بأعينهم لكن الله يحفظك، فهم من شدة غيظهم وحسدهم لو تنفذ لهم لأكلوه بأعينهم لكن الله حفظه من أن ينضر بأعينهم مهما غضبوا منه ومهما حسدوه. وقد حصل في أيام النبي صلى الله عليه وسلم أن اثنين من أصحابه خرجا معه في سفرة مع أصحابه فتجرد أحدهما من ثيابه أي مما سوى العورة ليغتسل من ماء المطر المتجمع بين الصخور، فرفيقه لما نظر إلى بياض جسمه وحسن منظره قال: «والله ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء» أي جلد بنت عذراء أي ما رأيت مثل هذا الجسد في الحلاوة والحسن، فصرع أي وقع في الحال على الأرض، فأخبر الرسول بذلك فغضب وقال: «لأي شىء يضر أحدكم أخاه، لماذا لم يبرك عليه» أي لماذا لم يقل اللهم بارك فيه ولا تضره أو نحو ذلك، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له فتعافى وقام كأنه لم يكن به شىء. فهذا الصحابي لو لم ينطق بلسانه ما كان أصابه بالعين، لكن الشخص عندما يعجب بشىء بجمال شخص بجمال عينه أو يده أو نشاطه في المشي فيتكلم يخلق الله الضرر في الشخص المنظور إليه تلك النظرة الخبيثة، والشيطان أيضًا تلك الساعة يلاحظ أن هذا الإنسان ضرب هذا الإنسان بعينه فيصيب ذلك الإنسان فيزداد الضرر في هذا الشخص كما دل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «العين حق يحضرها الشيطان وحسد بني ءادم» رواه أحمد [في مسنده].

   أما لو قال الشخص عند النظر إلى الشىء الذي يعجبه: اللهم بارك فيه ولا تضره ونحو ذلك، فلا يحصل ضرر للشخص يكون حصن ذلك الإنسان.

   وقد روى الحاكم [في المستدرك] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من وجد في نفسه أو ماله أو ولده ما يعجبه فليدع بالبركة فإن العين حق» فيفهم من هذا الحديث أيضًا أن الشخص قد يصيب نفسه بالعين إذا نظر إلى نفسه نظرة العجب والكبر وتكلم عن نفسه على هذا الوجه.

   ثم إن كثيرًا من إصابات الجن للبشر إنما تكون في المغتسل وفي الخلاء فإذا قال الإنسان قبل أن يضع رجله في الخلاء بسم الله أو قال بسم الله الذي لا إله إلا هو، وعند التجرد للاغتسال قال مثل ذلك يكون حفظ نفسه من إصابة الجن له وهو في هذا المكان.

   كان في زمن سيدنا علي رضي الله عنه امرأة اغتسلت في مكان يبال فيه من غير أن تتحصن فإذا بها تنصرع على الأرض فأخبر سيدنا علي رضي الله عنه فرقاها فقامت وليس بها شىء.

   وقد روى البزار في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب الله وقدره بالأنفس» المعنى أن أكثر من يمرض مرضًا يؤدي إلى الموت في أمتي من العين ومعنى بعد كتاب الله وقدره أي مع كتاب الله وقدره، على حسب قضاء الله وقدره يكون، ومعنى قوله بالأنفس أي بالأعين فيفهم من ذلك أن كثيرًا من الأمراض المعضلة التي لا ينجح فيها علاج الأطباء تكون من العين.

   ويحسن إذا أراد الشخص أن يحصن ولده أن يقول: «أعيذك بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» فقد روى البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوذ به الحسن والحسين بلفظ «أعيذكما».

   فإن كان له عدة أولاد يحصنهم جملةً فيقول أعيذكم، وإن شاء يحصن كل واحد منهم بمفرده.

   وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته الطريقة التي يعالج بها من أصيب بالعين فقال «العين حق فإذا استغسلتم فاغسلوا» رواه مسلم. المعنى أنه إذا أصيب شخص بالعين فوقع عليه الضرر فليغسل الذي أصابه أطراف جسمه أي وجهه ويديه وركبتيه ونحو ذلك كهيأة الذي يتوضأ ثم يؤخذ هذا الماء في إناء ثم يصب على المريض من خلفه ثم يرمى هذا الإناء مقلوبًا خلف المصاب رأسه إلى الأرض وأسفله إلى فوق فيتعافى المصاب بإذن الله.

   وعلامة العين أن الإنسان قد يكون بحالة الصحة لا يشكو شيئًا فإذا به يصاب على الفور بسخونة أو وجع العين أو فالج أو حمى أو غير ذلك من الأمراض وقد يعمى كما حصل للقارىء المشهور الشيخ محمد رفعت المصري صاحب الصوت الجميل فقد قيل إنه في صغره كان يمشي مع أبيه فأعجب رجل بحسن عينيه فقال هذا كأولاد الملوك، فمن هناك أصيب حتى عمي وبقي عمره أعمى.

   وقد روى سيدنا علي رضي الله عنه أن الحسن والحسين أصيبا بالعين فمرضا فاكتأب رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أصابهما فجاءه جبريل فقال له يا محمد إني أراك مكتئبًا فقال «إن الحسن والحسين مصابان» فقال له عوذهما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «بم أعوذهما» فقال له قل «اللهم ذا السلطان العظيم والمن القديم، ذا الرحمة الكريم، ولي الكلمات التامات والدعوات المستجابات عاف حسنًا وحسينًا من أنفس الجن وأعين الإنس» رواه ابن عساكر [في تاريخ مدينة دمشق]. فرقاهما رسول الله بما علمه جبريل من هذا التعويذ فقاما يلعبان ما بهما شىء.

   فإن قرأ الشخص هذا الدعاء لنفسه يقول عافني وإن كان الذي أصيب بالعين ولده أو زوجته يقول عاف فلانًا أو فلانة، فقد روي عن سيدنا علي أنه قال: «عوذوا بهؤلاء الكلمات أنفسكم ونساءكم وأولادكم» رواه البيهقي. وهذا التعويذ الذي علمه جبريل لرسول الله وإذا حصن الشخص نفسه به ينفعه حتى قبل أن يصاب بالعين.

   ومعنى المن القديم أي الإحسان القديم لأن إحسان الله تعالى قديم أزلي، فالله تعالى محسن أزلًا وأبدًا ولو لم يكن في الأزل مخلوق يصيبه أثر الإحسان بعد وجوده هذا على مذهب الماتريدية وإلا فإحسان الله أثر إرادة الإنعام. ومعنى ذا الرحمة الكريم أي يا ربنا الموصوف بالرحمة أنت كريم. وولي الكلمات التامات أي مستحقها وهي ألفاظ القرءان والأذكار التي يمجد الله بها ويقدس، والكلمات التامات هي الكلمات التي ما فيها نقص، ومن أنفس الجن معناه من الضرر الذي يصيب الإنسان بسبب الجن، وأعين الإنس أي والضرر الذي يلحق بسبب أعين الإنس.

   فالذي لا يصدق بوجود الإصابة بالعين فهو فاسق لكن لا يكفر إلا أن يكون إنكاره على وجه العناد للشرع فيكفر بذلك.

   ثم إن من نظر إلى ءاخر نظرة حسد فأصابه بالعين من غير قصد منه وقع في الكراهة حيث إنه لم يدع له بالبركة، وأما إن كان يعتقد أنه يصيبه بالعين ففعل ذلك فعليه معصية.

   قال المؤلف رحمه الله: والمن بالصدقة ويبطل ثوابها.

   الشرح أن من معاصي القلب التي هي من الكبائر المن بالصدقة وهو أن يعدد نعمته على ءاخذها كأن يقول له ألم أفعل لك كذا وكذا حتى يكسر قلبه، أو يذكرها لمن لا يحب الآخذ اطلاعه عليه وهو يحبط الثواب ويبطله قال الله تعالى ﴿يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى﴾ [سورة البقرة/264]. وإنما عدها من معاصي القلب لأن المن أصلًا في القلب لأن المان يقصد إيذاء الشخص فيتفرع من ذلك العمل البدني وهو ذكر إنعامه على الشخص بلسانه.

   وأما إذا أحسن الشخص لآخر وذاك أساء إليه فقال له ألم أحسن إليك بكذا وكذا ليكف أذاه عنه فيجوز إذا لم يكن على وجه الكبر والكسر له.

   قال المؤلف رحمه الله: والإصرار على الذنب.

   الشرح أن من المعاصي القلبية الإصرار على الذنب وعد هذا من معاصي القلب لأنه يقترن به قصد النفس معاودة ذلك الذنب وعقد القلب على ذلك ثم يستتبع ذلك العمل بالجوارح. والإصرار الذي هو معدود من الكبائر هو أن تغلب معاصيه طاعته أي بالنسبة لما مضى وليس بالنسبة ليومه فقط فإن هذه المعاصي الصغيرة تصير كبيرةً واحدةً [فيلزمه التوبة من الإصرار الذي هو كبيرة ومن تلك الصغائر]. وأما مجرد تكرار الذنب الذي هو من نوع الصغائر والمداومة عليه فليس بكبيرة إذا لم يغلب ذلك الذنب طاعاته، هكذا قيد جماعة من الشافعية والحنفية فليس الإصرار الذي يعد كبيرةً أن يكرر الشخص معصيةً من الصغائر كالنظر المحرم أيامًا متواليةً من غير أن تصل إلى أن تكون أكثر من حسناته كما يظن ذلك كثير.

   قال المؤلف رحمه الله: وسوء الظن بالله وبعباد الله.

   الشرح قال الله تعالى ﴿يا أيها الذين ءامنوا ٱجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم﴾ [سورة الحجرات/12].

   قال الزجاج «هو ظنك بأهل الخير سوءًا فأما أهل الفسق فلنا أن نظن فيهم مثل الذي ظهر منهم» اهـ، والإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب قال تعالى ﴿ولا تجسسوا﴾ [سورة الحجرات/12] أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم.

  ومن معاصي القلب سوء الظن بالله وهو أن يظن بربه أنه لا يرحمه بل يعذبه، وأما سوء الظن بعباده فهو أن يظن بعباده السوء بغير قرينة معتبرة. فلا يجوز أن تظن بمسلم شيئًا قبيحًا بدون قرينة معتبرة كأن تقول إذا حصلت سرقة لعل فلانًا هو الذي سرق، أو تقول لعل فلانًا هو يرتكب الفاحشة. والقرينة المعتبرة كأن يكون في غرفة وله في هذه الغرفة مال ومعه شخص ءاخر ليس معه غيره في هذه الغرفة ثم خرج هو من الغرفة وعاد إليها فوجد أن المال قد فقد وكان متيقنًا من أنه لم يدخل هذه الغرفة غيره وغير الذي كان معه فظن بهذا الشخص أنه سرق المال، فينبغي تحسين الظن بعباد الله ولا سيما الصالحين وتأويل ما يظهر منهم بتأويل حسن ما كان إلى ذلك سبيل.

   وقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» فالظن الذي ذمه رسول الله هو الظن بلا قرينة معتبرة، أما إذا شهد عندك عدلان أن فلانًا عمل كذا مما هو شنيع يجوز أن تظن به، وأما إن شهد عندك واحد فقط فلا يجوز لك أن تجزم، لكن قال العلماء إذا كانت تخاف مفسدة يعمل بخبر الواحد الثقة ما يؤدي إلى منعها كأن أخبرك ثقة واحد بأن الجماعة الفلانية [أي من الجماعات المفسدة] تريد أن تعمل مفسدة كذا.

   ولا يبنى على إلهام الولي حكم في ذلك لأن كشف الولي قد يخطئ ولذلك قال علماء الأصول «إلهام الولي ليس بحجة». وقال الإمام الجنيد رضي الله عنه «ربما تظهر لي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة» معناه إذا ورد لي وارد أن فلانًا فعل كذا لا أعتبره حجةً.

   قال المؤلف رحمه الله: والتكذيب بالقدر.

   الشرح أن من معاصي القلب التكذيب بالقدر وهو كفر وذلك بأن يعتقد العبد أن شيئًا من الأشياء مما هو من الجائزات العقلية يحصل بغير تقدير الله. وقد فسر القدر بالتدبير، ومعناه أن الله دبر في الأزل الأشياء فإذا وقعت تكون على حسب تقديره الأزلي. وقد اختلفت عبارات العلماء في تفسيره فقد قال بعضهم: إنه إيجاد الله الأشياء على مقدار مخصوص على وفاق علمه الأزلي، وهذا التفسير معروف عند الأشعرية فهو عند هؤلاء من صفات الأفعال.

   والتكذيب بالقدر كفر فمن قال إن الله تعالى لم يقدر أعمال العباد فهو مكذب لله ولرسوله ولكتابه قال الله تعالى ﴿إنا كل شىء خلقناه بقدر﴾ [سورة القمر/49].  

   قال المؤلف رحمه الله: والفرح بالمعصية منه أو من غيره.

   الشرح أن من معاصي القلب الفرح بالمعصية الصادرة منه أو من غيره، فمن علم بمعصية حصلت من غيره ولو في مكان بعيد لم يشهده ففرح بذلك فقد عصى الله. فمن علم أن فلانًا شرب خمرًا أو ضرب مسلمًا ظلمًا ونحو ذلك يجب عليه أن يكره ذلك. وأما الفرح بكفر الغير فهو كفر. من فرح بمعصية الغير لأنها معصية لله فهي كبيرة وأما إن فرح بمعصية لا لذلك فهي صغيرة هذا في الفرح بالصغيرة أما الفرح بالكبيرة فهو كبيرة في الحالين.

   قال المؤلف رحمه الله: والغدر ولو بكافر كأن يؤمنه ثم يقتله.

   الشرح الغدر من المعاصي المحرمة وهو من قسم الكبائر وذلك كأن يقول لشخص: أنت في حمايتي أو أنت في أماني أو لا تخف ثم يفتك به هو أو يدل عليه من يفتك به.

   ومن الغدر المحرم الذي هو من الكبائر أن يغدر بالإمام بعد أن يبايعه بأن يعود محاربًا له أو يعلن تمرده على طاعته وذلك متفق على حرمته إن كان ذلك الإمام راشدًا، وأما إذا كان غاشمًا ظالمًا فالغدر به حرام عند الجمهور أيضًا، وقال بعض الفقهاء يجوز الخروج عليه، والصواب ما عليه الجمهور لما يترتب على الخروج على هذا الإمام الظالم من الفتن وذلك لحديث مسلم أن فضالة قال بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا ننازع الأمر أهله قال «إلا أن تروا كفرًا بواحًا».

   وأما الغدر بالكافر فهو أنه إذا أمن الكافر الإمام أو غيره من المسلمين بأن قيل له لا بأس عليك، أو أنت ءامن ولو بكناية غير صريحة يفهم منها الكافر الأمان فيحرم الغدر به بالقتل أو نحوه. وليعلم أن الأمان المقرر شرعًا صحته للكافر الحربي هو تأمينه لمدة أربعة أشهر فيبطل هذا الأمان بعد أربعة أشهر فيبلغ مأمنه أي يرد إلى ناحيته أي إلى بلاده بلاد الكفر ثم يعود إلى حكم الحرابة. ولا يجوز للحاكم أو غيره أن يؤمن الكافر لأكثر من أربعة أشهر، أما الهدنة فأقصاها عشر سنوات ومعناها لا نقاتلكم ولا تقاتلوننا فإن نقضوا العهد الذي أخذ عليهم جاز قتالهم.

   ومن الغدر المحرم أن يعامل المسلم الكافر بالبيع والشراء فيخونه في الوزن أو الكيل، وأن يضيع وديعةً استودعه إياها الكافر فيتلفها أو يجحدها، وأن يشتري منه شيئًا بثمن مؤجل ثم يجحده.

   قال المؤلف رحمه الله: والمكر.

   الشرح أن من معاصي القلب المكر، والمكر والخديعة بمعنًى واحد وهو إيقاع الضرر بالمسلم بطريقة خفية، فقد أخرج الطبراني في معجمه [المعجم الكبير] مرفوعًا «المكر والخداع في النار» فمن مكر بأحد من المسلمين فقد وقع في الإثم.

   قال المؤلف رحمه الله: وبغض الصحابة والآل والصالحين.

   الشرح أن من معاصي القلب بغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من لقوه في حياته صلى الله عليه وسلم مع الإيـمان به سواء طالت صحبة الصحابي له صلى الله عليه وسلم أو لم تطل ومات على ذلك، ولو تخللت بين صحبته له وبين موته على الإسلام ردة لأن بعض من صحبه ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام فهؤلاء يعدون صحابةً يحتج بما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقبل منهم ذلك كما يحتج بغيرهم من الذين ثبتوا على الإسلام. فالذي يبغض كل الصحابة يكفر. وأما إن أبغض بعضًا منهم فلا يكفر. وأما الآل فالمراد بهم هنا أقاربه صلى الله عليه وسلم المؤمنون وأزواجه، وأما الصالحون فالمراد بهم الأتقياء فيستغنى بذكر الصالحين عن ذكر العلماء لأن العلماء العاملين هم الصالحون لأنهم أفضل من غيرهم من العلماء. وأما بغض بعض الأفراد من فساق المسلمين فليس حرامًا.

   قال المؤلف رحمه الله: والبخل بما أوجب الله والشح والحرص.

   الشرح من معاصي القلب البخل بما أوجب الله تعالى كالبخل عن أداء الزكاة للمستحقين، ومنه البخل عن دفع نفقة الزوجة والأطفال، والبخل عن نفقة الأبوين المحتاجين، والبخل عن مواساة القريب مع حاجته، ويرادفه الشح وهو بمعناه إلا أن الشح يخص بالبخل الشديد، وقريب من ذلك الحرص لأن الحرص هو شدة تعلق النفس لاحتواء المال وجمعه على الوجه المذموم كالتوصل به إلى الترفع على الناس والتفاخر وعدم بذله إلا في هوى النفس.

   قال المؤلف رحمه الله: والاستهانة بما عظم الله والتصغير لما عظم الله من طاعة أو معصية أو قرءان أو علم أو جنة أو [عذاب] نار.

   الشرح من معاصي القلب قلة المبالاة بما عظم الله تعالى من الأمور كأن يحتقر الجنة كقول بعض الدجاجلة المتصوفة: الجنة لعبة الصبيان، ويقول بعضهم الجنة خشخاشة الصبيان، وهذا حكمه الردة. وما يروون عن رابعة رضي الله عنها أنها قالت الكعبة هو الصنم الأكبر هو من جملة ما افتري به على الصالحين. كما افتري على أبي يزيد البسطامي أنه قال سبحاني ما أعظم شأني. وما لا يصل إلى ذلك من الاستهانة فحكمه في العصيان على حسبه [ومما افتري على الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه ونفعنا به بعد وفاته مما أدخله عليه مشبهة الحنابلة الذين يعتقدون أن الله قاعد على العرش في كتابه المسمى الغنية مقالتان خبيثتان ليروجوهما على الناس باسم الشيخ عبد القادر إحداهما أن الله في جهة السماء مع أن أهل السنة كلهم يقولون الله موجود بلا مكان، والأمر الآخر أن حروف الهجاء قديـمة أزلية ليست مخلوقةً ومرادهم بذلك أن الله يتكلم كما نحن نتكلم بالحرف والصوت وأهل السنة يقولون الله متكلم بكلام ليس بصوت ولا حرف، أزلي أبدي كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه في كتابه «الفقه الأكبر»: نحن نتكلم بالآلات والحروف والله يتكلم بلا ءالة ولا حرف.

ثم إن الشيخ رضي الله عنه بعد وفاته ابن ابن له يسمى عبد السلام كذب على الشيخ رضي الله عنه وأدخل في طريقته ما ليس منها، عمل رسالةً سماها المعراجية أدخل فيها كلامًا لم يقله الشيخ، وقال إن الشيخ قال قدمي على رقبة كل ولي لله في الوجود وهذا لم يقله الشيخ، وإنما هذا عبد السلام افتراه على الشيخ انظر تاريخ الخلفاء العباسيين، ثم رجل ءاخر بعد الشيخ بنحو مائة سنة من أهل مصر يقال له علي الشطنوفي عمل كتابًا يقال له بهجة الأسرار كذب على الشيخ عبد القادر وقال عنه ما لم يقله، هذا الكتاب أكثر ما فيه كذب على الشيخ، ويوجد كتاب صنفه بعض أهل بغداد يسمى الفيوضات الربانية فيه كلام كذب لم يقله الشيخ، فيه أن الله تعالى كلم الشيخ عبد القادر فقال له يا غوث الأعظم أكل الفقراء أكلي وشربهم شربي ونحو هذا الكلام، فجعل الشيخ عبد القادر كليم الله مثل موسى. الله تعالى لم يسمع كلامه أحدًا من البشر غير موسى بالطور وسيدنا محمد ليلة المعراج فيجب التحذير من هذه الأشياء ولا يجوز السكوت عن التحذير منها. وقد انتشر هذا الكتاب الأخير في الصومال والحبشة وله وجود في الجزائر وبعض البلدان].

   وأما الاستهانة بالمعصية فكأن يرى ما توعد الله به عباده من العقاب في الآخرة شيئًا هينًا ومن ذلك قول بعضهم جهنم مستشفًى أي محل طبابة وعلاج وتنظيف ليست محل عقاب وتعذيب وذلك إلحاد وكفر، وذلك قول جماعة أمين شيخو الذين زعيمهم اليوم عبد الهادي الباني الدمشقي فعلى زعمهم التعذيب لا يجوز وصف الله به، ويقولون ﴿شديد العقاب﴾ [سورة غافر/3] معناه شديد التعقب، ويقولون إن الأنبياء لم يقتل أحد منهم وقول الله ﴿وقتلهم الأنبياء﴾ [سورة ءال عمران/181] معناه قتل الكفار دعوتهم، ويقولون لا يصابون بجروح بسلاح الكفار، بل يقولون حتى الأولياء مستحيل أن يصابوا بأذًى. وينكرون أن النبي كسرت رباعيته وشج وجهه، ويقولون الله شاء السعادة لجميع خلقه، ويقولون علم الدين يؤخذ من قلوب مشايخهم النقشبنديين من قلب إلى قلب ليس من الكتب.

   تنبيه لا يجوز أن يقال عن معصية من المعاصي كبيرة أو صغيرة «معليش» وهي في اللغة العامية معناها لا بأس بذلك، فمن قال عن معصية وهو يعلم أنها معصية هذه الكلمة بمعنى لا بأس فهو تكذيب للدين فيكون مرتدا. وأما من قالها عن معصية صغيرة ويفهم منها أنها ليست ذنبًا كبيرًا ولا يفهم منها استحسان فعل المعصية فلا يكفر.

   ومن جملة المعاصي القلبية الاستهانة بشىء من القرءان أو بشىء من علم الشرع أو بشىء من علم الدين أو بالجنة أو [عذاب] النار وقد ذكرنا بعض الأمثلة للاستهانة بالجنة والنار، وأما الاستهانة بالقرءان فكمثل ما رواه الإمام عبد الكريم القشيري في الرسالة أن عمرو بن عثمان المكي صوفي مكة في عصره رأى الحلاج الحسين بن منصور يكتب شيئًا فقال له ما هذا فقال أي الحلاج هذا شىء أعارض به القرءان فمقته بعد أن كان يحسن به الظن وصار يلعنه حتى بعد أن غادر الحلاج مكة، ويكتب في التحذير منه إلى الناحية التي يحل بها الحلاج، وكالذي حصل من بعض التجانية في الحبشة من إظهار الاستغناء بصلاة الفاتح عن القرءان حتى قال قائلهم بكلامهم ما معناه: ما لكم تحملون هذا الرغيف الثقيل يعني القرءان ونحن بغنية عنه بصلاة الفاتح التي هي كلمة وجيزة وهي هذه الصيغة: اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق الخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى ءاله وصحبه حق قدره ومقداره العظيم، وهي في الأصل من تأليف الشيخ مصطفى البكري الصوفي ثم استعملها كثير من التجانية واعتبروا المرة الواحدة منها تعدل ستة ءالاف ختمة من القرءان، فادعوا أن ذلك مما شافه به النبي صلى الله عليه وسلم يقظةً الشيخ أبا العباس التجاني الذي تنتسب إليه التجانية على أننا لا نجزم بأن الشيخ أبا العباس هو القائل لما يقولونه لأنه يحتمل أن يكون ما ينسبون إليه مفترًى عليه.

   ومن ضلالات التجانية قولهم إن أبا العباس التجاني أفضل من جميع الأولياء من لدن ءادم إلى قيام الساعة. وهذا ضد قول الله تعالى ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾ [سورة التوبة/100]، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول «خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» وهو حديث صحيح مشهور رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وروى مسلم وأبو نعيم في «حلية الأولياء» وغيرهما أن رسول الله قال «إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر من قرن ثم من مراد» فقول التجانية هذا مخالف للقرءان والحديث.

   ثم إنهم ينسبون هذا وما سواه من الكذب مما يدعون أنه من مزايا شيخهم ومزايا طريقتهم إلى الرسول، يدعون أن أبا العباس اجتمع برسول الله يقظةً فعلمه هذه الأشياء، والرسول لا يقول بعد وفاته شيئًا يخالف ما تقرر من قوله في حياته، ومن ضلالاتهم قولهم إن فيهم جماعةً لا يجيء القطب شعرةً منهم وهم بهذا خالفوا قول الله تعالى ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ [سورة الحجرات/13] كما أنهم خالفوا ذلك في قولهم إن الواحد بمجرد دخوله في طريقتهم يصير أفضل من القطب من غيرهم. ومن أقوال التجانية الفاسدة قولهم إن من زار وليا حيا أو ميتًا انقطع من طريقتنا أي ما لم يكن هذا الشخص من طريقتهم، فإن أنكروا هذه الأشياء التي رويناها عنهم يقال لهم كتبكم تشهد عليكم فأحضروها.

   وقد كان شيخنا الشيخ أحمد عبد الرحمٰن شديد الإنكار على التجانية حتى عرف بذلك وذاع صيته ثم قيل إنه قال بأنه رأى الشيخ أبا العباس التجاني في الرؤيا وهو مستقبل للقبلة فصار يعتقد فيه أنه على خلاف هذه الطائفة المنتسبة له وأنه مستقيم إنما الضلال من المنتسبين إليه.

   وقد أخبرني رجلان أحدهما خريج الأزهر الشريف والآخر شيخ موريتاني أن بعض الخونة حرف أصول الشيخ أبي العباس فأدخل فيه ما لم يقله ثم طبع هذا المحرف وذلك بتواطىء مع الغزاة المحتلين للمغرب وأخفى الأصل فدب الخلاف بين المنتسبين للتجانية وذلك إرضاءً للكفار الذين كانوا يحكمون المغرب في ذلك الوقت. وأما كتبهم التي نشروها التي هي منحرفة عن أصل الشيخ أبي العباس فمنها كتاب «جواهر المعاني» وكتاب «الفتح الرباني» وكتاب «الغنية» وشرحها وكتاب «رماح حزب الرحيم على نحور حزب الرجيم» ولهم كتيب صغير يذكرون فيه أورادهم وفيما بينها هذا اللفظ: اللهم صل على سيدنا محمد عين ذاتك الغيبية، وهذا كفر صريح لا يقبل التأويل لأنه جعل الرسول عين ذات الله وهذا من أكفر الكفر مثل قول اليهود عزير ابن الله فيجب وجوبًا مؤكدًا الحذر من هؤلاء والتحذير منهم. وإننا ننصحهم بأن يتركوا هذه الكتب ويفتشوا عن أصل الشيخ أبي العباس رحمه الله ويعملوا به. وإننا نعلمهم أن العلماء والأولياء ليس كل ما يقوله أحدهم صوابًا بل لا بد أن يكون في كلامهم ما يؤخذ به وما يترك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما من أحد منكم إلا يؤخذ من قوله ويترك غير النبي» رواه الطبراني في المعجم الأوسط. وقال الحافظ زين الدين العراقي حديث حسن. فالولي مهما علت مرتبته ليس كالنبي، النبي يؤخذ بكل ما يقوله في أمر الدين وأما غير النبي لا بد أن يخطىء لكن إن كان وليا لا يخطىء خطأً هو كفر إنما يخطىء خطأً دون الكفر كما قال سيدنا عمر رضي الله عنه وهو أفضل ولي من أولياء البشر بعد الأنبياء وبعد أبي بكر رضي الله عنهما «أخطأ عمر وأصابت امرأة»، وذلك أنه قال لا تغالوا في مهور نسائكم فأيما رجل بلغني أنه زاد في صداق امرأة على أربعمائة درهم أخذته ووضعته في بيت المال فقالت امرأة فقيهة ليس لك ذلك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول ﴿وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم إحداهن قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا﴾ [سورة النساء/20] فقال عمر «أصابت امرأة وأخطأ عمر فأنتم وشأنكم في مهور نسائكم» اهـ معناه من شاء يدفع الكثير ومن شاء يدفع القليل، فليعلم أن الولي ولو كان شيخ طريقة كالشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ أبي الحسن الشاذلي لا يجل عن الخطإ فينبغي للمنتسبين للطرق أن يعرفوا أن كل عالم وكل شيخ يجوز عليه الخطأ.

   إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله يذكر في كتابه في بعض المسائل أن الصواب كذا وكذا ويغلط والده في قوله في هذه المسئلة، وأبوه كان من كبار العلماء الأجلاء في المذهب الشافعي له مؤلفات وكان من جلالة قدره بين الناس في العلم والورع أن قال بعض العلماء فيه «لو كان بعد رسول الله نبي لكان أبا محمد» أي والد إمام الحرمين لأنه كان يكنى أبا محمد واسمه عبد الله بن يوسف.