مَعاصِي الْبَطْنِ
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ.
الشَّرْحُ أَنَّ هَذَا فَصْلٌ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ مَعَاصِي الْبَطْنِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ أَكْلُ الرِّبَا وَالْمَكْسِ وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَكُلِّ مَأْخُوذٍ بِمُعَامَلَةٍ حَرَّمَهَا الشَّرْعُ.
الشَّرْحُ أَنَّ هَذَا الْفَصْلَ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْفُصُولِ عُقِدَ لِبَيَانِ مَعَاصِي الْجَوَارِحِ فَكُلُّ مَالٍ يَدْخُلُ عَلَى الشَّخْصِ بِطَرِيقِ الرِّبَا أَكْلُهُ حَرَامٌ، وَالْمُرَادُ بِالأَكْلِ هُنَا الِانْتِفَاعُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ أَكْلًا وَاصِلًا لِلْبَطْنِ أَوِ انْتِفَاعًا بِاللُّبْسِ أَوِ انْتِفَاعًا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ بِأَنْوَاعِ الِانْتِفَاعَاتِ. وَمَا كَانَ وَاصِلًا إِلَى يَدِ الشَّخْصِ مِنْ طَرِيقِ الرِّبَا مِنَ الْمَالِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الآخِذُ وَالْعَامِلُ فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ الْكِتَابَةِ لِعُقُودِ الرِّبَا بَيْنَ الْمُتَرَابِيَيْنِ وَمِثْلُهُمَا الدَّافِعُ لِحَدِيثِ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ءَاكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ «وَشَاهِدَهُ» فَاللَّعْنُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ شَمَلَ الْكَاتِبَ إِنْ كَانَ يَكْتُبُ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ وَالشَّاهِدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ أَنْوَاعِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَكْلُ الْمَكْسِ وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ السَّلاطِينُ الظَّلَمَةُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ عَلَى الْبَضَائِعِ وَالْمَزَارِعِ وَالْبَسَاتِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَكْلُ الْغَصْبِ أَيِ الْمَغْصُوبِ، وَالْغَصْبُ هُوَ الِاسْتِيلاءُ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ ظُلْمًا اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ فَخَرَجَ مَا يُؤْخَذُ مِنَ النَّاسِ بِحَقٍّ كَالَّذِي يَأْخُذُهُ الْحَاكِمُ لِسَدِّ الضَّرُورَاتِ مِنْ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِي لِذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ غَصْبًا بَلْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَاكِمُ مِنْ أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ مَا تَقْتَضِيهِ الضَّرُورَاتُ وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إِلَى أَنْ لا يَتْرُكَ لَهُمْ إِلَّا نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ النِّظَامِ الإِسْلامِيِّ وَأَيُّ نِظَامٍ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا.
وَمِنْ ذَلِكَ أَكْلُ السَّرِقَةِ وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً لَيْسَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقُوَّةِ. وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ أَكْلُ كُلِّ مَالٍ مَأْخُوذٍ بِمُعَامَلَةٍ حَرَّمَهَا الشَّرْعُ مِمَّا مَرَّ بَيَانُهُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ أُنَاسًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَحَدُّ شَارِبِهَا أَرْبَعُونَ جَلْدَةً لِلْحُرِّ وَنِصْفُهَا لِلرَّقِيقِ وَلِلإِمَامِ الزِّيَادَةُ تَعْزِيرًا.
الشَّرْحُ مِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ شُرْبَ الْخَمْرِ وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَهِيَ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عُمَرُ «مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» أَيْ غَيَّرَهُ رَوَاهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ الأَشْرِبَةِ. وَأَمَّا حَدُّ الْخَمْرِ فَهُوَ فِي الأَصْلِ بِالنِّسْبَةِ لِشَارِبِهَا الْحُرِّ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً وَلِلرَّقِيقِ عِشْرُونَ ثُمَّ إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ جَازَ إِلَى الثَّمَانِينَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنْهَا أَكْلُ كُلِّ مُسْكِرٍ.
الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ أَكْلَ كُلِّ مُسْكِرٍ. وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الإِسْكَارَ هُوَ تَغْيِيرُ الْعَقْلِ مَعَ الإِطْرَابِ أَيْ مَعَ النَّشْوَةِ وَالْفَرَحِ وَأَمَّا مَا يُغَيِّرُ الْعَقْلَ بِلا إِطْرَابٍ وَكَذَلِكَ مَا يُخَدِّرُ الْحَوَاسَّ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ الْعَقْلِ فَلا يُسَمَّى خَمْرًا وَلَكِنَّهُ حَرَامٌ فَالْمُخَدِّرَاتُ كَالْحَشِيشَةِ وَالأُفْيُونِ وَنَحْوِهِمَا لَيْسَتْ مُسْكِرَةً وَلَكِنَّ تَحْريِمَهَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء/ 29] أَفْهَمَتْنَا الآيَةُ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي بِالإِنْسَانِ إِلَى الْهَلاكِ فَهُوَ حَرَامٌ أَنْ يَتَعَاطَاهُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَكُلِّ نَجِسٍ وَمُسْتَقْذَرٍ.
الشَّرْحُ أَكْلَ النَّجَاسَاتِ مِنْ جُمْلَةِ مَعَاصِي الْبَطْنِ كَالدَّمِ الْمَسْفُوحِ أَيِ السَّائِلِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ. وَكَذَلِكَ الْمُسْتَقْذَرُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ وَذَلِكَ كَالْمُخَاطِ وَالْمَنِيِّ وَأَمَّا الْبُصَاقُ فَيَكُونُ مُسْتَقْذَرًا إِذَا تَجَمَّعَ عَلَى شَىْءٍ مَثَلًا بِحَيْثُ تَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ أَيْ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْفَمِ أَمَّا مَا دَامَ فِي الْفَمِ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْتَقْذَرِ وَكَذَلِكَ الْبَلَلُ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْمُسْتَقْذَرِ بِالنِّسْبَةِ لِلأَكْلِ وَنَحْوِهِ فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ. وَالْمُسْتَقْذَرُ هُوَ الشَّىْءُ الَّذِي تَعَافُهُ النَّفْسُ أَيْ تَنْفِرُ مِنْهُ طَبِيعَةُ الإِنْسَانِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ أَوِ الأَوْقَافِ عَلَى خِلافِ مَا شَرَطَ الْوَاقِفُ.
الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ مَعَاصِي الْبَطْنِ أَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالنَّصِّ. قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ فَلا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ بِمَالِ الْيَتِيمِ عَلَى خِلافِ مَصْلَحَتِهِ.
وَمِنْهَا أَكْلُ مَالِ الأَوْقَافِ عَلَى مَا يُخَالِفُ شَرْطَ الْوَاقِفِ بِأَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ شَرْطِ الْوَاقِفِ فَمَنْ وَقَفَ بَيْتًا لِسَكَنِ الْفُقَرَاءِ فَلا يَجُوزُ لِلأَغْنِيَاءِ أَنْ يَسْكُنُوهُ وَمَنْ وَقَفَ بَيْتًا لِسَكَنِ طَلَبَةِ الْحَدِيثِ فَلا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْكُنُوهُ وَمَنْ وَقَفَ بَيْتًا لِسَكَنِ حَفَظَةِ الْقُرْءَانِ فَلا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَسْكُنُوهُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْمَأْخُوذِ بِوَجْهِ الِاسْتِحْيَاءِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ.
الشَّرْحُ مِنْ جُمْلَةِ مَعَاصِي الْبَطْنِ أَكْلُ مَا يُؤْخَذُ هِبَةً مِنَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ كَأَنْ يَكُونَ أَعْطَاهُ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ أَوِ اسْتِحْيَاءً مِمَّنْ يَحْضُرُ ذَلِكَ الْمَجْلِسَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ حَدِيثِ «لا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» رَوَاهُ الدَّارَ قُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فَالَّذِي يَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ مُسْلِمٍ بِطَرِيقِ الْحَيَاءِ حَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهُ وَلا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ.