(يُسْتَثْنَى مِنَ الْكُفْرِ اللَّفْظِىِّ حَالَةُ سَبْقِ اللِّسَانِ أَىْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِشَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ) فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلامٍ غَيْرِ كُفْرِىٍّ فَأَخْطَأَ لِسَانُهُ فَخَرَجَ مِنْهُ كَلامٌ كُفْرِىٌّ مِنْ دُونِ قَصْدٍ مِنْهُ لِلنُّطْقِ بِهِ (بَلْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ أَنْ يَقُولَهُ بِالْمَرَّةِ) فَلا يَكْفُرُ وَذَلِكَ كَأَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَقُولَ »وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ« فَيَسْبِقُ لِسَانُهُ فَيَقُول »وَمَا أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ« فَلا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ فِى هَذَا. وَقَدْ مَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَبْقِ اللِّسَانِ بِرَجُلٍ فَقَدَ دَابَّتَهُ فِى الصَّحْرَاءِ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِى ظِلِّهَا فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ فَقَالَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِى وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِى صَحِيحِهِ (وَحَالَةُ غَيْبُوبَةِ الْعَقْلِ أَىْ عَدَمِ صَحْوِ الْعَقْلِ) فَمَنْ غَابَ عَقْلُهُ فَنَطَقَ وَهُوَ فِى هَذِهِ الْحَالِ بِكَلامٍ كُفْرِىٍّ لا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ بِسَبَبِ هَذَا وَذَلِكَ لِارْتِفَاعِ التَّكْلِيفِ عَنْهُ حِينَذَاكَ وَيَشْمَلُ هَذَا النَّائِمَ وَالْمَجْنُونَ وَنَحْوَهُمَا (وَحَالَةُ الإِكْرَاهِ فَمَنْ نَطَقَ بِالْكُفْرِ بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ) مِمَّا يُفْضِى إِلَى الْمَوْتِ (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ فَلا يَكْفُرُ) وَأَمَّا غَيْرُ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ لا يُشْتَرَطُ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ انْشِرَاحُ الصَّدْرِ وَلا مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ لِحَدِيثِ »إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِى بِهَا فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا« رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَحَسَّنَهُ وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَقُولُ سَيِّدُ سَابِق الَّذِى فَتَحَ لِلنَّاسِ بَابًا مِنَ الْكُفْرِ وَاسِعًا وَوَرَّطَ بِهِ خَلْقًا كَثِيرًا فَإِنَّهُ يَقُولُ الأَلْفَاظُ الْكُفْرِيَّةُ لا تُؤَثِّرُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ شَارِحًا صَدْرَكَ بِهَا وَنَاوِيًا مَعْنَاهَا وَمُعْتَقِدًا فَإِنَّهُ جَعَلَ بِقَوْلِهِ هَذَا كُلَّ الْعِبَادِ فِى حُكْمِ الْمُكْرَهِ وَاللَّهُ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْمُكْرَهَ فِى كِتَابِهِ بِحُكْمٍ خَاصٍّ (قَالَ تَعَالَى ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ﴾) وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُكْرَهَ بِالْقَتْلِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يُفْضِى إِلَى الْمَوْتِ إِذَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ تَحْتَ الإِكْرَاهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ عِنْدَ نُطْقِهِ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ الْكُفْرِىِّ لَيْسَ عَلَيْهِ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلا يُعَذَّبُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ وَلَكِنَّ الْمُكْرَهَ إِذَا ثَبَتَ فَلَمْ يُجِبِ الْكُفَّارَ لِمَا أَرَادُوا مِنْهُ فَقَتَلُوهُ يَكُونُ قَدْ فَازَ بِالشَّهَادَةِ وَ(حَالَةُ الْحِكَايَةِ لِكُفْرِ الْغَيْرِ فَلا يَكْفُرُ الْحَاكِى كُفْرَ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الرِّضَى وَالِاسْتِحْسَانِ وَمُسْتَنَدُنَا فِى اسْتِثْنَاءِ مَسْئَلَةِ الْحِكَايَةِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾. ثُمَّ الْحِكَايَةُ الْمَانِعَةُ لِكُفْرِ حَاكِى الْكُفْرِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِى أَوَّلِ الْكَلِمَةِ الَّتِى يَحْكِيهَا عَمَّنْ تَكَلَّمَ بِكُفْرٍ أَوْ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْكَلِمَةَ عَقِبَهَا وَقَدْ كَانَ نَاوِيًا أَنْ يَأْتِىَ بِأَدَاةِ الْحِكَايَةِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ فَلَوْ قَالَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ قَوْلُ النَّصَارَى أَوْ قَالَتْهُ النَّصَارَى فَهِىَ حِكَايَةٌ مَانِعَةٌ لِلْكُفْرِ عَنِ الْحَاكِى. وَ)يُسْتَثْنَى مِنَ الْكُفْرِ اللَّفْظِىِّ (حَالَةُ كَوْنِ الشَّخْصِ مُتَأَوِّلًا بِاجْتِهَادِهِ فِى فَهْمِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ الْمُتَأَوِّلُ إِلَّا إِذَا كَانَ تَأَوُّلُهُ فِى الْقَطْعِيَّاتِ فَأَخْطَأَ فَإِنَّهُ لا يُعْذَرُ كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ قَالُوا بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَأَزَلِيَّتِهِ كَابْنِ تَيْمِيَةَ. وَأَمَّا مِثَالُ مَنْ لا يَكْفُرُ مِمَّنْ تَأَوَّلَ فَهُوَ كَتَأَوُّلِ الَّذِينَ مَنَعُوا الزَّكَاةَ فِى عَهْدِ أَبِى بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ (بِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ) عَلَيْهِمْ (فِى عَهْدِ الرَّسُولِ لِأَنَّ صَلاتَهُ كَانَتْ عَلَيْهِمْ سَكَنًا لَهُمْ – أَىْ رَحْمَةً وَطُمَأْنِينَةً – وَطُهْرَةً وَأَنَّ ذَلِكَ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ لِذَلِكَ لِأَنَّ هَؤُلاءِ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ﴾ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ خُذْ أَىْ يَا مُحَمَّدُ الزَّكَاةَ لِتَكُونَ إِذَا دَفَعُوهَا إِلَيْكَ سَكَنًا لَهُمْ وَأَنَّ هَذَا لا يَحْصُلُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلا يَجِبُ عَلَيْهِمْ دَفْعُهَا لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَهُوَ الْمَأْمُورُ بِأَخْذِهَا مِنْهُمْ وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّ الْحُكْمَ عَامٌّ فِى حَالِ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا قَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ كَمَا قَاتَلَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ فِى دَعْوَاهُ النُّبُوُّةَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمُ) الزَّكَاةَ (قَهْرًا بِدُونِ قِتَالٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا ذَوِى قُوَّةٍ فَاضْطُرَّ إِلَى الْقِتَالِ. وَكَذَلِكَ الَّذِينَ فَسَّرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ بِأَنَّهُ تَخْيِيرٌ وَلَيْسَ تَحْرِيمًا لِلْخَمْرِ فَشَرِبُوهَا لِأَنَّ عُمَرَ مَا كَفَّرَهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ »اجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ ثُمَّ إِنْ عَادُوا فَاقْتُلُوهُمْ« اهـ رَوَاهُ ابْنُ أَبِى شَيْبَةَ) أَىْ إِنْ عَادُوا إِلَى اسْتِحْلالِ الْخَمْرِ أَمَّا فِى زَمَانِنَا هَذَا فَلا عُذْرَ لِمَنْ يُنْكِرُ حُرْمَةَ الْخَمْرِ مِمَّنْ كَانَ يَعِيشُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مُتَأَوِّلًا الآيَةَ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُ تَحْرِيمُ الْمُسْلِمِينَ لَهَا وَ(إِنَّمَا كَفَّرُوا الآخَرِينَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلامِ لِتَصْدِيقِهِمْ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِى ادَّعَى الرِّسَالَةَ)، وَالَّذِى يُصَدِّقُ مَنْ يَدَّعِى النُّبُوَّةَ بَعْدَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ فَهُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ لِقَوْلِ اللَّهِ ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ وَلِقَوْلِ النَّبِىِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ »وَخُتِمَ بِىَ النَّبِيُّونَ« رَوَاهُ مُسْلِمٌ (فَمُقَاتَلَتُهُمْ لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ تَأَوَّلُوا مَنْعَ الزَّكَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ لِأَخْذِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِى أَمْوَالِهِمْ وَذَلِكَ كَقِتَالِ الْبُغَاةِ) الظَّالِمِينَ الَّذِينَ تَمَرَّدُوا عَلَى الْخَلِيفَةِ (فَإِنَّهُمْ لا يُقَاتَلُونَ لِكُفْرِهِمْ بَلْ يُقَاتَلُونَ لِرَدِّهِمْ إِلَى طَاعَةِ الْخَلِيفَةِ كَالَّذِينَ قَاتَلَهُمْ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ فِى الْوَقَائِعِ الثَّلاثِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَوَقْعَةِ صِفِّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَوَقْعَةِ النَّهْرَوَانِ مَعَ الْخَوَارِجِ) وَهَؤُلاءِ لَيْسَ لَهُمْ حُكْمُ الْمُرْتَدِّينَ (عَلَى أَنَّ مِنَ الْخَوَارِجِ صِنْفًا هُمْ كُفَّارٌ حَقِيقَةً فَأُولَئِكَ لَهُمْ حُكْمُهُمُ الْخَاصُّ) وَالْخَوَارِجُ هُمْ أَوَّلُ فِرْقَةٍ شَذَّتْ فِى الِاعْتِقَادِ عَنْ مُعْتَقَدِ الصَّحَابَةِ فَقَاتَلَهُمْ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ فَأَبَادَهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَمِنْ ضَلالاتِهِمْ تَكْفِيرُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ (قَالَ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ الْعِرَاقِىُّ فِى نُكَتِهِ »وَقَالَ شَيْخُنَا أَيْضًا يَعْنِى الْبُلْقِينِىَّ يَنْبَغِى أَنْ يُقَالَ بِلا تَأْوِيلٍ لِيَخْرُجَ الْبُغَاةُ وَالْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ وَيَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ دِمَائِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُكَفِّرُوهُمْ« اهـ. وَهَذَا شَاهِدٌ مِنْ مَنْقُولِ الْمَذْهَبِ لِمَسْئَلَةِ التَّأْوِيلِ بِالِاجْتِهَادِ) وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِى الْخَوَارِجِ مِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَهُمْ بِلا اسْتِثْنَاءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَّرَ فِرْقَةً مِنْهُمْ مَخْصُوصَةً. فَالَّذِينَ كَفَّرُوهُمْ جُمْلَةً اعْتَمَدُوا عَلَى حَدِيثِ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ »يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لا يَعُودُونَ إِلَيْهِ« رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ظَاهِرُهُ يَشْهَدُ بِتَكْفِيرِهِمْ لِأَنَّ فِيهِ وَصْفَ الرَّسُولِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الإِسْلامِ خُرُوجَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ أَىْ كَمَا يُصِيبُ السَّهْمُ الطَّرِيدَةَ وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِسُرْعَةٍ. (وَمِمَّا يَشْهَدُ مِنَ الْمَنْقُولِ فِى مَسْئَلَةِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّأَوُّلِ وَحِكَايَةِ الْكُفْرِ قَوْلُ شَمْسِ الدِّينِ الرَّمْلِىِّ فِى شَرْحِهِ عَلَى مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ فِى أَوَائِلِ كِتَابِ الرِّدَّةِ فِى شَرْحِ قَوْلِ النَّوَوِىِّ الرِّدَّةُ قَطْعُ الإِسْلامِ بِنِيَّةٍ أَوْ قَوْلِ كُفْرٍ مَا نَصُّهُ »فَلا أَثَرَ لِسَبْقِ لِسَانٍ أَوْ إِكْرَاهٍ وَاجْتِهَادٍ وَحِكَايَةِ كُفْرٍ«) وَالِاجْتِهَادُ فِى هَذَا الْبَابِ مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّخْصَ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ وَيَصِلَ إِلَيْهِ فَقَالَ كَلِمَةً شَاذَّةً كَهَؤُلاءِ الَّذِينَ قَالُوا الزَّكَاةُ كَانَتْ فِى زَمَنِ الرَّسُولِ فَرْضًا لِأَنَّ الرَّسُولَ عِنْدَمَا يَدْعُو لِلْمُزَكِّى دُعَاؤُهُ هَذَا سَكَنٌ لِلْمُزَكِّينَ أَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَقَدِ انْقَطَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ وَاجِبَةً، مِثْلُ هَذَا يُقَالُ لَهُ اجْتِهَادٌ وَيُقَالُ لَهُ تَأْوِيلٌ أَيْضًا فَهَؤُلاءِ لا نُكَفِّرُهُمْ لِأَنَّ الَّذِى يَجْتَهِدُ فِى غَيْرِ الْقَطْعِىِّ يُقَالُ غَلِطَ وَلا يُكَفَّرُ أَمَّا مَنِ اجْتَهَدَ فِى الْقَطْعِيَّاتِ فَأَخْطَأَ فَلا يُعْذَرُ (وَقَوْلُ الْمُحَشِّى أَىْ صَاحِبِ الْحَاشِيَةِ عَلَى الشَّرْحِ نُورِ الدِّينِ عَلِىٍّ الشَّبْرَامَلِّسِى الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَسَبْعٍ وَثَمَانِينَ عِنْدَ قَوْلِ الرَّمْلِىِّ »وَاجْتِهَادٍ« مَا نَصُّهُ »أَىْ لا مُطْلَقًا كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِمَا سَيَأْتِى مِنْ نَحْوِ كُفْرِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلالِ«. قَالَ الْمُحَشِّى الآخَرُ عَلَى الرَّمْلِىِّ أَحْمَدُ بنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الْمَعْرُوفُ بِالْمَغْرِبِىِّ الرَّشِيدِىِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَسِتٍّ وَتِسْعِينَ قَوْلُهُ »وَاجْتِهَادٍ« أَىْ فِيمَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى خِلافِهِ بِدَلِيلِ كُفْرِ نَحْوِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مَعَ أَنَّهُ بِالِاجْتِهَادِ اهـ وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَمْنَعُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ التَّكْفِيرَ فَلْيَجْعَلْ طَالِبُ الْعِلْمِ قَوْلَ الرَّشِيدِىِّ الْمَذْكُورَ فِيمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى ذُكْرٍ يَعْنِى أَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ فِى قَلْبِهِ لِأَنَّهَا مُهِمَّةٌ لِأَنَّ التَّأَوُّلَ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ لا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ عَنْ صَاحِبِهِ) كَابْنِ تَيْمِيَةَ الَّذِى اجْتَهَدَ فَقَالَ الْعَالَمُ أَزَلِىٌّ بِجِنْسِهِ أَىْ لَمْ يَتَقَدَّمِ اللَّهُ جِنْسَ الْعَالَمِ بِالْوُجُودِ بَلْ قَالَ وَهَذَا كَمَالٌ لِلَّهِ ذَكَرَ هَذَا فِى كِتَابِ شَرْحِ حَدِيثِ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ وَهَذَا قَوْلٌ مِنْهُ بِأَنَّ اللَّهَ مَا خَلَقَ جِنْسَ الْعَالَمِ إِنَّمَا خَلَقَ الأَفْرَادَ الْمُعَيَّنَةَ وَقَالَ أَيْضًا عَنِ الْعَرْشِ إِنَّ جِنْسَهُ قَدِيمٌ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ أَىْ لَمْ يَسْبِقْهُ الْعَدَمُ كَمَا أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْبِقْهُ الْعَدَمُ فَقَدْ سَاوَى بِقَوْلِهِ هَذَا جِنْسَ الْعَالَمِ مَعَ اللَّهِ وَأَىُّ كُفْرٍ وَشِرْكٍ هَذَا. نَقَلَ هَذَا عَنْهُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ الثِّقَةُ جَلالُ الدِّينِ الدَّوَّانِىُّ فِى شَرْحِ الْعَضُدِيَّةِ فَلا يُخَلِّصُهُ اجْتِهَادُهُ هَذَا مِنَ الْكُفْرِ، فَالْمُتَأَوِّلُ فِى الْقَطْعِيَّاتِ لا يُعْذَرُ إِذَا أَخْطَأَ وَإِلَّا لَلَزِمَ تَرْكُ تَكْفِيرِ النَّصَارَى لِأَنَّهُمْ عَلَى حَسَبِ زَعْمِهِمِ اجْتَهَدُوا، وَالْبُوذِيُّونَ أَيْضًا اجْتَهَدُوا عَلَى حَسَبِ زَعْمِهِمْ فَرَأَوْا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ فَدَانُوا بِهِ، فَالَّذِى يَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مُتَأَوِّلٍ يُعْذَرُ مَهْمَا كَانَ تَأَوُّلُهُ فَقَدْ عَطَّلَ الشَّرِيعَةَ (وَقَوْلُنَا فِى الْخَوَارِجِ بِاسْتِثْنَاءِ بَعْضِهِمْ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُكَفَّرُوا لِثُبُوتِ مَا يَقْتَضِى التَّكْفِيرَ فِى بَعْضِهِمْ كَمَا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ رَوَوْا أَحَادِيثَ الْخَوَارِجِ. وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ سَيِّدِنَا عَلِىٍّ مِنْ أَنَّهُ قَالَ »إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا« فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ لِلْحُكْمِ عَلَى جَمِيعِهِمْ بِالإِسْلامِ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ إِسْنَادًا عَنْ عَلِىٍّ وَقَدْ قَطَعَ الْحَافِظُ الْمُجْتَهِدُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِىُّ بِتَكْفِيرِهِمْ وَغَيْرُهُ) كَالْقَاضِى عِيَاضٍ وَالْقُرْطُبِىِّ (وَحُمِلَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلافِ أَحْوَالِ الْخَوَارِجِ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْكُفْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَصِلْ وَهَذِهِ الْمَسْئَلَةُ بَعْضُهُمْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالِاجْتِهَادِ وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ عَنْهَا بِالتَّأْوِيلِ فَمِمَّنْ عَبَّرَ بِالتَّأْوِيلِ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ الشَّافِعِىُّ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِىُّ الَّذِى قَالَ فِيهِ صَاحِبُ الْقَامُوسِ »عَلَّامَةُ الدُّنْيَا« وَعَبَّرَ بَعْضُ شُرَّاحِ مِنْهَاجِ الطَّالِبِينَ بِالِاجْتِهَاد وكلتا الْعِبَارَتَين لا بُدَّ لَهُمَا مِنْ قَيْدٍ مَلْحُوظٍ. وَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُتَأَوِّلٍ يَمْنَعُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ التَّكْفِيرَ فَلا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ ذَلِكَ مُطْلَقٌ لِأَنَّ الإِطْلاقَ فِى ذَلِكَ انْحِلالٌ وَمُرُوقٌ مِنَ الدِّينِ. أَلا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالْفَلْسَفَةِ مَرَقُوا مِنَ الدِّينِ بِاعْتِقَادِهِمُ الْقَوْلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِهِمْ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْمُحَدِّثُ الْفَقِيهُ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِىُّ فِى شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمُ الْفَرِيقَ الْقَائِلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ بِمَادَّتِهِ وَصُورَتِهِ وَالْفَرِيقَ الْقَائِلَ بِأَزَلِيَّةِ الْعَالَمِ بِمَادَّتِهِ أَىْ بِجِنْسِهِ فَقَطْ مَا نَصُّهُ »وَقَدْ ضَلَّلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِى ذَلِكَ وَكَفَّرُوهُمْ«. وَكَذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لا يَضُرُّ مَعَ الإِيمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لا تَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ حَسَنَةٌ إِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ اجْتِهَادًا وَتَأْوِيلًا لِبَعْضِ النُّصُوصِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا فَلَمْ يُعْذَرُوا) فَإِنَّهُمْ تَأَوَّلُوا هَذِهِ الآيَةَ ﴿وَهَلْ نُجَازِى إِلَّا الْكَفُورَ﴾ حَمَلُوهَا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا لا عُقُوبَةَ فِى الآخِرَةِ إِلَّا عَلَى الْكَافِرِ وَهَذَا التَّأَوُّلُ لا يَنْفَعُهُمْ (وَكَذَلِكَ ضَلَّ فِرَقٌ غَيْرُهُمْ وَهُمْ مُنْتَسِبُونَ إِلَى الإِسْلامِ كَانَ زَيْغُهُمْ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ بِالتَّأْوِيلِ نَسْأَلُ اللَّهَ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ).
(قَاعِدَةٌ اللَّفْظُ الَّذِى لَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالآخَرُ لَيْسَ كُفْرًا وَكَانَ الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ كُفْرٌ ظَاهِرًا لا يُكَفَّرُ قَائِلُهُ حَتَّى يُعْرَفَ مِنْهُ أَىُّ الْمَعْنَيَيْنِ أَرَادَ، فَإِنْ قَالَ أَرَدْتُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ وَأُجْرِىَ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ وَإِلَّا فَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ) مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ كَلِمَةَ النَّبِىِّ فِى اللُّغَةِ تَأْتِى بِمَعْنَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ الْمُرْتَفِعَةِ وَتَأْتِى بِمَعْنَى مَنْ أُوحِىَ إِلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَلَوْ قَالَ شَخْصٌ الصَّلاةُ عَلَى النَّبِىِّ مَكْرُوهَةٌ وَأَرَادَ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ الشَّخْصَ لا يَخْشَعُ فِى صَلاتِهِ عَلَيْهَا فَكَلامُهُ صَحِيحٌ وَأَمَّا إِنْ أَرَادَ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِىِّ أَىْ مُحَمَّدٍ مَكْرُوهَةٌ فَهُوَ كُفْرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ لِلشَّرِيعَةِ قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ لَهُ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ وَكَانَ كُلُّ مَعَانِيهِ كُفْرًا وَكَانَ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنْهَا غَيْرَ كُفْرٍ لا يُكَفَّرُ إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ مِنْهُ إِرَادَةُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ وَهَذَا هُوَ الَّذِى ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيِّينَ فِى كُتُبِهِمْ) وَقَدْ ذُكِرَ لِلَّفْظِ الَّذِى لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ بَعْضُهَا كُفْرٌ وَبَعْضُهَا لَيْسَ كُفْرًا مِثَالٌ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ الْحَسَنِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فِى فَتَاوَى قَاضِيخَان وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قِيلَ لَهُ صَلِّ فَقَالَ لا أُصَلِّى فَإِنْ أَرَادَ لا أُصَلِّى لِأَنِّى قَدْ صَلَّيْتُ لا يَكْفُرُ وَإِنْ أَرَادَ لا أُصَلِّى لِقَوْلِكَ لا يَكْفُرُ وَكَذَا إِنْ أَرَادَ لا أُصَلِّى أَنَا مُتَكَاسِلٌ لا يَكْفُرُ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لا يُصَلِّى لِأَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِهَا كَفَرَ (وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِى الْكَلِمَةِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ وَقَوْلٌ وَاحِدٌ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ أُخِذَ بِتَرْكِ التَّكْفِيرِ فَلا مَعْنَى لَهُ) وَهُمْ يُورِدُونَ ذَلِكَ فِى الْكَلِمَةِ الصَّرِيحَةِ فِى الْكُفْرِ (وَلا يَصِحُّ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَى مِالِكٍ وَلا إِلَى أَبِى حَنِيفَةَ كَمَا نَسَبَ سَيِّدُ سَابِق) فِى كِتَابِهِ فِقْهِ السُّنَّةِ (شِبْهَ ذَلِكَ إِلَى مَالِكٍ وَهُوَ شَائِعٌ عَلَى أَلْسِنَةِ بَعْضِ الْعَصْرِيِّينَ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ) فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَا كَانَ مِنَ الْكَلامِ فِيهِ اسْتِخْفَافٌ بِالدِّينِ أَوْ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ نُكَفِّرُ قَائِلَهُ وَلَوْ خَالَفَ فِى ذَلِكَ أَلْفُ إِنْسَانٍ وَلا نَنْظُرُ إِلَى كَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ وَإِنَّمَا نَنْظُرُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْحَقِّ (قَالَ الْعُلَمَاءُ أَمَّا الصَّرِيحُ أَىِ الَّذِى لَيْسَ لَهُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدٌ يَقْتَضِى التَّكْفِيرَ فَيُحْكَمُ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ) وَلا يُقْبَلُ لَهُ تَأْوِيلٌ إِلَّا إِذَا كَانَ لا يَفْهَمُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ الَّتِى قَالَهَا فَعِنْدَئِذٍ لا يُكَفَّرُ، فَمَنْ حَصَلَ مِنْهُ كُفْرٌ صَرِيحٌ يُنْظَرُ إِلَى فَهْمِهِ وَلا يُنْظَرُ إِلَى قَصْدِهِ فَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ وَقَالَ لَمْ أَقْصِدْهُ كَفَرَ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ تَأَوُّلُهُ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمِ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ لا يَكْفُرُ وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَأَمَّا مَنْ حَصَلَ مِنْهُ كَلامٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ أَحَدُهُمَا كُفْرٌ وَالآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا يُنْظَرُ إِلَى قَصْدِهِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ كَفَرَ وَإِلَّا فَلا يَكْفُرُ. أَمَّا اللَّفْظُ الصَّرِيحُ (كَقَوْلِ أَنَا اللَّهُ) فَيُحْكَمُ عَلَى قَائِلِهِ بِالْكُفْرِ (حَتَّى لَوْ صَدَرَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ وَلِىٍّ فِى حَالَةِ غَيْبَةِ عَقْلِهِ يُعَزَّرُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُكَلَّفًا تِلْكَ السَّاعَةَ قَالَ ذَلِكَ عِزُّ الدِّينِ ابْنُ عَبْدِ السَّلامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ يُؤَثِّرُ فِيمَنْ غَابَ عَقْلُهُ كَمَا يُؤَثِّرُ فِى الصَّاحِى الْعَاقِلِ وَكَمَا يُؤَثِّرُ فِى الْبَهَائِمِ فَإِنَّهَا إِذَا جَمَحَتْ فَضُرِبَتْ تَكُفُّ عَنْ جُمُوحِهَا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَاقِلَةٍ. كَذَلِكَ الْوَلِىُّ الَّذِى نَطَقَ بِالْكُفْرِ فِى حَالِ الْغَيْبَةِ عِنْدَمَا يُضْرَبُ أَوْ يُصْرَخُ عَلَيْهِ يَكُفُّ لِلزَّاجِرِ الطَّبِيعِىِّ عَلَى أَنَّ الْوَلِىَّ لا يَصْدُرُ مِنْهُ كُفْرٌ فِى حَالِ حُضُورِ عَقْلِهِ إِلَّا أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ لِأَنَّ الْوَلِىَّ مَحْفُوظٌ مِنَ الْكُفْرِ بِخِلافِ الْمَعْصِيَةِ الْكَبِيرَةِ أَوِ الصَّغِيرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عَلَى الْوَلِىِّ لَكِنْ لا يَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ بَلْ يَتُوبُ عَنْ قُرْبٍ. وَقَدْ يَحْصُلُ مِنَ الْوَلِىِّ مَعْصِيَةٌ كَبِيرَةٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ لَكِنْ لا يَمُوتُ إِلَّا وَقَدْ تَابَ كَطَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرِ بنِ الْعَوَّامِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا خَرَجَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ بِوُقُوفِهِمَا مَعَ الَّذِينَ قَاتَلُوهُ فِى الْبَصْرَةِ فَذَكَّرَ عَلِىٌّ كُلًّا مِنْهُمَا حَدِيثًا، أَمَّا الزُّبَيْرُ فَقَالَ لَهُ أَلَمْ يَقُلْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ »إِنَّكَ لَتُقَاتِلَنَّ عَلِيًّا وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ«) رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِى الْمُسْتَدْرَكِ (فَقَالَ نَسِيتُ فَذَهَبَ مُنْصَرِفًا عَنْ قِتَالِهِ ثُمَّ لَحِقَهُ فِى طَرِيقِهِ رَجُلٌ مِنْ جَيْشِ عَلِىٍّ فَقَتَلَهُ. فَتَابَ بِتَذْكِيرِ عَلِىٍّ لَهُ فَلَمْ يَمُتْ إِلَّا تَائِبًا. وَأَمَّا طَلْحَةُ فَقَالَ لَهُ عَلِىٌّ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِىٌّ مَوْلاهُ«) أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِىُّ فِى سُنَنِهِ (فَذَهَبَ مُنْصَرِفًا فَضَرَبَهُ مَرْوَانُ بنُ الْحَكَمِ فَقَتَلَهُ، وَهُوَ أَيْضًا تَابَ وَنَدِمَ عِنْدَ ذِكْرِ عَلِىٍّ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ. فَكُلٌّ مِنْهُمَا مَا مَاتَ إِلَّا تَائِبًا. وَكِلا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ بَلِ الْحَدِيثُ الثَّانِى مُتَوَاتِرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ الإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ أَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ مَغْفُورٌ لَهُمَا لِأَجْلِ الْبِشَارَةِ الَّتِى بَشَّرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ بِهَا مَعَ ثَمَانِيَةٍ ءَاخَرِينَ فِى مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَهَذَا مِنَ الإِمَامِ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ إِثْبَاتٌ أَنَّهُمَا أَثِمَا. وَكَذَلِكَ قَالَ فِى حَقِّ عَائِشَةَ لِأَجْلِ أَنَّهَا مُبَشَّرَةٌ أَيْضًا وَكَانَتْ نَدِمَتْ نَدَمًا شَدِيدًا مِنْ وُقُوفِهَا فِى الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِىٍّ حَتَّى كَانَتْ حِينَ تَذْكُرُ سَيْرَهَا إِلَى الْبَصْرَةِ وَوُقُوفَهَا مَعَ الْمُقَاتِلِينَ لِعَلِىٍّ تَبْكِى بُكَاءً شَدِيدًا يَبْتَلُّ مِنْ دُمُوعِهَا خِمَارُهَا وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ أَيْضًا. وَقَالَ فِى غَيْرِهِمَا مِنْ مُقَاتِلِى عَلِىٍّ مِنْ أَهْلِ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَمِنْ أَهْلِ صِفِّينَ الَّذِينَ قَاتَلُوا مَعَ مُعَاوِيَةَ عَلِيًّا »مُجَوَّزٌ غُفْرَانُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ« كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بنُ فُورَك عَنْ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ فِى كِتَابِهِ مُجَرَّدِ مَقَالاتِ الأَشْعَرِىِّ، وَابْنُ فُورَك تِلْمِيذُ تِلْمِيذِ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ وَهُوَ أَبُو الْحَسَنِ الْبَاهِلِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمَا يَظُنُّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنْ أَنَّ الْوَلِىَّ لا يَقَعُ فِى مَعْصِيَةٍ فَهُوَ جَهْلٌ فَظِيعٌ. فَهَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةُ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ).
(قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ) عَبْدُ الْمَلِكِ (الْجُوَيْنِىُّ) فِى كِتَابِ الإِرْشَادِ (»اتَّفَقَ الأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ أَىِ الْكُفْرِ وَزَعَمَ أَنَّهُ أَضْمَرَ تَوْرِيَةً) أَىْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَعْنًى بَعِيدًا عَنِ الْمَعْنَى الْمُتَبَادِرِ مِنَ الْكَلِمَةِ لا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ (كُفِّرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا«) أَىْ يَكُونُ كَافِرًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَىْ فَلا يَنْفَعُهُ التَّأْوِيلُ الْبَعِيدُ كَالَّذِى يَقُولُ [بِعَامِيَّةِ بَعْضِ الْبِلادِ] يِلْعَن رَسُولَ اللَّهِ وَيَقُولُ قَصْدِى بِرَسُولِ اللَّهِ الصَّوَاعِقُ) وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يُؤَوَّلُ كُلُّ لَفْظٍ مُنْحَرِفٍ وَإِنَّمَا يُؤَوَّلُ مَا كَانَ تَأْوِيلُهُ قَرِيبًا وَأَمَّا مَا كَانَ صَرِيحًا فِى الْمَعْنَى الْفَاسِدِ فَلا يُؤَوَّلُ فَالْحَذَرَ مِنْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُؤَوِّلُونَ الصَّرِيحَ لِمَنْ يَفْهَمُ مَعْنَاهُ (وَقَدْ عَدَّ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ كَالْفَقِيهِ الْحَنَفِىِّ بَدْرِ الرَّشِيدِ) فِى رِسَالَتِهِ فِى الأَلْفَاظِ الْمُكَفِّرَاتِ (وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْقَرْنِ الثَّامِنِ الْهِجْرِىِّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً فَيَنْبَغِى الِاطِّلاعُ عَلَيْهَا فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يَقَعْ فِيهِ فَلْيُحْذَرْ فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَخَذَ لِسَانَهُ وَخَاطَبَهُ) قَائِلًا (يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ »أَكْثَرُ خَطَايَا ابْنِ ءَادَمَ مِنْ لِسَانِهِ«) رَوَاهُ الطَّبَرَانِىُّ فى الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ (وَمِنْ هَذِهِ الْخَطَايَا الْكُفْرُ وَالْكَبَائِرُ) وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنَ الْكَلامِ مَا هُوَ خَيْرٌ كَذِكْرِ اللَّهِ وَأَفْضَلُهُ التَّهْلِيلُ كَسَبَ ثَوَابًا وَأَنَّ مَنْ أَمْسَكَ لِسَانَهُ عَمَّا فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَقَدْ حَفِظَ نَفْسَهُ وَسَلِمَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ لِسَانَهُ فَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلْهَلاكِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَهَالِكِ سَبَبُهَا اللِّسَانُ، فَإِنْ مَاتَ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّهُ يَنْدَمُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ النَّدَمُ (وَفِى حَدِيثٍ ءَاخَرَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ« رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ) وَمَعْنَى حَدِيثِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ لا يَرَى أَنَّ فِيهَا ذَنْبًا وَلا يَرَاهَا ضَارَّةً لَهُ يَسْتَوْجِبُ بِهَا النُّزُولَ إِلَى قَعْرِ جَهَنَّمَ كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ التِّرْمِذِىِّ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنْشَرِحَ الْبَالِ أَوْ غَيْرَ مُنْشَرِحٍ، وَقَعْرُ جَهَنَّمَ مَسَافَةُ سَبْعِينَ عَامًا وَذَلِكَ مَحَلُّ الْكُفَّارِ لا يَصِلُهُ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ.