مَا يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ
(يَجِبُ لِلأَنْبِيَاءِ الصِّدْقُ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ) وَقَدْ كَانَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْرُوفًا بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ بِالأَمِينِ لِمَا عُرِفَ بِهِ مِنَ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالنَّزَاهَةِ لَمْ تُجَرَّبْ عَلَيْهِ كَذْبَةٌ قَطُّ كُلَّ الْمُدَّةِ الَّتِى قَضَاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ وَهِىَ أَرْبَعُونَ سَنَةً فَالْكَذِبُ نَقْصٌ يُنَافِى مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ (وَتَجِبُ لَهُمُ الْفَطَانَةُ) أَىِ الذَّكَاءُ فَكُلُّهُمْ كَانُوا أَذْكِيَاءَ فُطَنَاءَ أَصْحَابَ عُقُولٍ كَامِلَةٍ قَوِيَّةِ الْفَهْمِ (وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْبَلادَةُ وَالْغَبَاوَةُ) فَلَيْسَ فِيهِمْ بَلِيدٌ أَىْ مَنْ هُوَ ضَعِيفُ الْفَهْمِ لا يَفْهَمُ الْكَلامَ بِسُرْعَةٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُكَرَّرَ عَلَيْهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ وَلا مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ لِمَنْ يُعَارِضُهُ بِالْبَيَانِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ غَبِىٌّ أَىْ فَهْمُهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَغْبِيَاءَ لَنَفَرَ النَّاسُ مِنْهُمْ لِغَبَاوَتِهِمْ وَاللَّهُ حَكِيمٌ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِيُبَلِّغُوا النَّاسَ مَصَالِحَ ءَاخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ وَالْبَلادَةُ تُنَافِى هَذَا الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ (وَتَجِبُ لَهُمُ الأَمَانَةُ) فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ فِى الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَالأَحْوَالِ فَإِذَا اسْتَنْصَحَهُمْ شَخْصٌ لا يَكْذِبُونَ عَلَيْهِ فَيُوهِمُونَهُ خِلافَ الْحَقِيقَةِ وَإِذَا وَضَعَ عِنْدَهُمْ شَخْصٌ شَيْئًا لا يُضَيِّعُونَهُ (فَالأَنْبِيَاءُ سَالِمُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ) أَىِ الَّتِى تَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةِ النَّفْسِ كَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا (وَهَذِهِ هِىَ الْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ لَهُمْ) وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِى لَكِنْ يُنَبَّهُونَ فَوْرًا لِلتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِىَ بِهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ وَءَايَاتٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ وَيَجِبُ لَهُمُ الصِّيَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الرَّذَالَةُ) كَاخْتِلاسِ النَّظَرِ إِلَى الأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ نَحْوُ خَمْسِ تَأْوِيلاتٍ وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِى ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ مَرْبُوطٌ بِمَا بَعْدَهُ بِـ﴿لَوْلا أَنْ رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مَا هَمَّ يُوسُفُ بِالْمَرَّةِ لِأَنَّهُ رَأَى الْبُرْهَانَ أَمَّا لَوْ لَمْ يَرَ الْبُرْهَانَ لَهَمَّ وَالْبُرْهَانُ هُوَ الْعِصْمَةُ أَىْ أَنَّهُ أُلْهِمَ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الشَّىْءِ وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى النُّبُوَّةَ فَلَمْ يَهُمَّ هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِى تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ. وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ مَعْنَى ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ أَىْ هَمَّتْ بِأَنْ تَدْفَعَهُ لِيَزْنِىَ بِهَا وَهَمَّ يُوسُفُ بِدَفْعِهَا لِيَخْلُصَ مِنْهَا وَهَذَا التَّفْسِيرُ شَبِيهٌ بِمَا ذُكِرَ ءَانِفًا وَالْخُلاصَةُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ لا يَقَعُونَ فِى الزِّنَـى وَلا يَهُمُّونَ بِهِ (وَ)كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ (السَّفَاهَةُ) كَالَّذِى يَقُولُ أَلْفَاظًا شَنِيعَةً (وَ)كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ (الْجُبْنُ) فَالأَنْبِيَاءُ هُمْ أَشْجَعُ خَلْقِ اللَّهِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ »كُنَّا إِذَا حَمِىَ الْوَطِيسُ فِى الْمَعْرَكَةِ نَحْتَمِى بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ« فَقَدْ أَعْطَى اللَّهُ نَبِيَّنَا قُوَّةَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنَ الأَشِدَّاءِ. أَمَّا الْخَوْفُ الطَّبِيعِىُّ فَلا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ الْخَوْفُ الطَّبِيعِىُّ مَوْجُودٌ فِيهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ النُّفُورِ مِنَ الْحَيَّةِ فَإِنَّ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ تَقْتَضِى الْهَرَبَ مِنَ الْحَيَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلُ التَّخَوُّفِ مِنْ تَكَالُبِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْتُلُوهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ (وَ)كَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ (كُلُّ مَا يُنَفِّرُ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ) وَمِمَّا يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الْجُنُونُ وَتَأْثِيرُ السِّحْرِ فِى عُقُولِهِمْ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الرَّسُولَ أَثَّرَ السِّحْرُ فِى عَقْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ (وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَرَضٍ مُنَفِّرٍ) فَاللَّهُ تَعَالَى لا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الأَمْرَاضَ أَمَّا الْمَرَضُ الْمُؤْلِمُ الشَّدِيدُ حَتَّى لَوْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُ الإِغْمَاءُ أَىِ الْغَشْىُ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الأَمْرَاضُ الْمُنَفِّرَةُ فَلا تَجُوزُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ هَذَا أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ الَّذِى ابْتَلاهُ اللَّهُ بَلاءً شَدِيدًا اسْتَمَرَّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا وَفَقَدَ مَالَهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ عَافَاهُ اللَّهُ وَأَغْنَاهُ وَرَزَقَهُ الْكَثِيرَ مِنَ الأَوْلادِ بَعْضُ النَّاسِ الْجُهَّالِ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ وَيَقُولُونَ إِنَّ الدُّودَ أَكَلَ جِسْمَهُ فَكَانَ الدُّودُ يَتَسَاقَطُ ثُمَّ يَأْخُذُ الدُّودَةَ وَيُعِيدُهَا إِلَى مَكَانِهَا مِنْ جِسْمِهِ وَيَقُولُ يَا مَخْلُوقَةَ رَبِّى كُلِى مِنْ رِزْقِكِ الَّذِى رَزَقَكِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ هَذَا ضَلالٌ مُبِينٌ (فَمَنْ نَسَبَ) ذَلِكَ (إِلَيْهِمْ) أَوْ نَسَبَ (الْكَذِبَ أَوِ الْخِيَانَةَ أَوِ الرَّذَالَةَ أَوِ السَّفَاهَةَ أَوِ الْجُبْنَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَقَدْ كَفَرَ).