(مَا جَاءَ فِى بَدْءِ الْخَلْقِ)
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا سُئِلَ) مِنْ قِبَلِ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ رَحَلُوا إِلَيْهِ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ (عَنْ بَدْءِ الأَمْرِ) أَىْ عَنْ أَوَّلِ الْمَخْلُوقَاتِ (كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ) فَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ مَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ جَوَابِ سُؤَالِهِمْ فَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودٌ بِلا ابْتِدَاءٍ لا يُشَارِكُهُ فِى ذَلِكَ شَىْءٌ ءَاخَرُ وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ لَهُ بِدَايَةٌ وَبَعْدَ هَذَا أَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ فَقَالَ (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) أَىْ حَدَثَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فَكَلِمَةُ كَانَ هُنَا لِلْحُدُوثِ كَمَا تَقُولُ أَمْس ِكَانَ الْمَطَرُ أَىْ حَدَثَ وَوُجِدَ وَأَمَّا كَانَ الأُولَى فَهِىَ لِلأَزَلِيَّةِ وَيُصَرِّحُ هَذَا الْحَدِيثُ بِأَنَّ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ الْعَرْشُ وَالْمَاءُ وَيُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَاءَ سَبَقَ الْعَرْشَ فِى الْوُجُودِ وَهُوَ مَا صُرِّحَ بِهِ فِى غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ كَحَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ اهـ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكَتَبَ فِى الذِّكْرِ كُلَّ شَىْءٍ) أَىْ أَجْرَى الْقَلَمَ الأَعْلَى فَكَتَبَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كُلَّ مَا يَحْصُلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِتَفَاصِيلِهِ فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَلَمَ وَاللَّوْحَ وُجِدَا بَعْدَ الْمَاءِ وَالْعَرْشِ وَهُوَ كَذَلِكَ. وَيُفْهَمُ تَقَدُّمُ وُجُودِ الْقَلَمِ عَلَى وُجُودِ اللَّوْحِ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِىُ وَغَيْرُهُ (ثُمَّ) أَىْ بَعْدَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (خَلَقَ) اللَّهُ (السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) اﻫ أَىْ خَلَقَهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ الأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالثُّلاثَاءِ وَالأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا قَدْرُ أَلْفِ سَنَةٍ بِتَقْدِيرِ سِنِينِنَا هَذِهِ وَفِى ءَاخِرِ الْيَوْمِ السَّادِسِ أَىْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ خَلَقَ اللَّهُ سَيِّدَنَا ءَادَمَ فَمَكَثَ فِى الْجَنَّةِ مِائَةً وَثَلاثِينَ عَامًا ثُمَّ أُهْبِطَ إِلَى الأَرْضِ فَعَاشَ فِيهَا مَا أَتَمَّ بِهِ أَلْفَ عَامٍ ثُمَّ تُوُفِّىَ عَلَيْهِ صَلاةُ اللَّهِ وَسَلامُهُ. وَالْحَدِيثُ (رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ. أَجَابَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ اللَّهَ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ أَىْ أَزَلِىٌّ وَلا أَزَلِىَّ سِوَاهُ وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى فَفِى الأَزَلِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى) فَلَيْسَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالَمِ أَزَلِيًّا بِلا بِدَايَةٍ وَلَيْسَ نَوْعُ الْعَالَمِ أَوْ جِنْسُهُ أَزَلِيًّا بِلا بِدَايَةٍ بَلِ الْعَالَمُ بِأَفْرَادِهِ وَجِنْسِهِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ ثُمَّ كَانَ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَخْلِيقِهِ (وَ)هَذَا هُوَ اعْتِقَادُ الْمُسْلِمِينَ وَشِعَارُ الْمُوَحِّدِينَ قَاطِبَةً مَنْ خَالَفَهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِى عِيَاضٌ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَالتَّقِىُّ السُّبْكِىُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الأَئِمَّةِ فَلا عِبْرَةَ بِاعْتِرَاضِ ابْنِ تَيْمِيَةَ عَلَى نَقْلِ ابْنِ حَزْمٍ الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَسِرُّ الأَمْرِ أَنَّ أَحْمَدَ بنَ تَيْمِيَةَ كَانَ يَعْتَقِدُ أَزَلِيَّةَ نَوْعِ الْعَالَمِ كَمَا يَقُولُ الْفَلاسِفَةُ الْمُحْدَثُونَ وَلِذَلِكَ اعْتَرَضَ عَلَى ابْنِ حَزْمٍ وَقَدْ بَيَّنَ الزَّرْكَشِىُّ فِى تَشْنِيفِ الْمَسَامِعِ بُطْلانَ اعْتِقَادِ الْفَلاسِفَةِ سَوَاءٌ مَنْ قَالَ مِنْ مُتَقَدِّميِهِمْ بِقِدَمِ أَفْرَادٍ مِنَ الْعَالَمِ وَمَنْ قَالَ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ بِقِدَمِ نَوْعِ الْعَالَمِ ثُمَّ قَالَ وَكَفَّرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَضَلَّلُوهُمْ اﻫ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَوْلُنَا أَهْلَ السُّنَّةِ (اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ أَىْ مُخْرِجُهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ وَمَعْنَى خَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ أَنَّهُ أَخْرَجَ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ. وَ)كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَزَلِىٌّ بِلا ابْتِدَاءٍ فَإِنَّ (اللَّهَ تَعَالَى حَىٌّ لا يَمُوتُ) فَلا يَفْنَى وَلا يَبِيدُ (لِأَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ أَىْ أَبَدِىٌّ فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ إِذْ لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْعَدَمُ لَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ) كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِىِّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
(وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ اللَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ التَّكْفِيرُ قَطْعًا لِأَنَّهُ نَسَبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْعَدَمَ قَبْلَ الْوُجُودِ وَلا يُقَالُ ذَلِكَ إِلَّا فِى الْحَوَادِثِ أَىِ الْمَخْلُوقَاتِ) لِأَنَّ الَّذِى يَحْتَاجُ إِلَى الْخَالِقِ لِيُبْرِزَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ هُوَ الَّذِى لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ثُمَّ وُجِدَ وَأَمَّا الأَزَلِىُّ الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى خَالِقٍ يَخْلُقُهُ فَإِذَا خَطَرَ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ فِى الْبَالِ فَعِلاجُهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ أَنْ يَنْحُوَ عَنْ هَذَا بِغَيْرِهِ أَىْ أَنْ يَصْرِفَ فِكْرَهُ عَنْ هَذَا الْخَاطِرِ وَيَدْفَعَهُ بِالْمُعْتَقَدِ الصَّحِيحِ وَيَشْغَلَهُ بِغَيْرِهِ مِمَّا يُفِيدُ وَلِيَقُلْ مَعَ ذَلِكَ ءَامَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أَوْ ءَامَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ فَإِنَّهُ يَقْطَعُهُ عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ. الْخَاطِرُ هُوَ مَا لا تَمْلِكُ مَنْعَهُ مِنْ أَنْ يَرِدَ عَلَى قَلْبِكَ وَيَكُونُ بِلا إِرَادَةٍ فَلا يُكْتَبُ عَلَيْكَ وَلا تُؤَاخَذُ بِهِ مَهْمَا كَانَ سَيِّئًا طَالَمَا كَرِهْتَهُ وَلَمْ تَتْبَعْهُ وَأَمَّا إِذَا أَوْرَثَ الْخَاطِرُ شَكًّا فِى الْحَقِّ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ فَقَدِ انْقَلَبَ مَا فِى الْقَلْبِ مِنْ مُجَرَّدِ خَاطِرٍ يَخْطُرُ بِلا إِرَادَةٍ إِلَى تَرَدُّدٍ بِإِرَادَةٍ فَيَضُرُّ.
(فَاللَّهُ تَعَالَى وَاجِبُ الْوُجُودِ أَىْ لا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ عَدَمُهُ) كَمَا سَيَأْتِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى زِيَادَةُ بَيَانِ ذَلِكَ (فَلَيْسَ وُجُودُهُ كَوُجُودِنَا الْحَادِثِ لِأَنَّ وُجُودَنَا بِإِيجَادِهِ تَعَالَى وَ)ذَلِكَ أَنَّ (كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ جَائِزُ الْوُجُودِ أَىْ يُمْكِنُ عَقْلًا وُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمٍ وَإِعْدَامُهُ بَعْدَ وُجُودِهِ بِالنَّظَرِ لِذَاتِهِ فِى حُكْمِ الْعَقْلِ) وَسَيَأْتِى بَيَانُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
(وَاعْلَمْ أَنَّ أَقْسَامَ الْمَوْجُودِ ثَلاثَةٌ الأَوَّلُ أَزَلِىٌّ أَبَدِىٌّ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَطْ أَىْ لا بِدَايَةَ) لِوُجُودِهِ فَلَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ (وَلا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ) فَلا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ وَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِ عَدَمٌ كَمَا قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ كَمَا هُوَ وَيَكُونُ عَلَى مَا كَانَ (وَحُكْمُ مَنْ يَقُولُ إِنَّ هُنَاكَ شَيْئًا أَزَلِيًّا سِوَى اللَّهِ التَّكْفِيرُ قَطْعًا وَلِذَلِكَ كَفَرَتِ الْفَلاسِفَةُ بِاعْتِقَادِهِمُ السَّفِيهِ أَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ أَزَلِىٌّ لِأَنَّ الأَزَلِيَّةَ لا تَصِحُّ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَطْ) كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
(وَالثَّانِى) مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودِ مَوْجُودٌ (أَبَدِىٌّ لا أَزَلِىٌّ أَىْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةٌ وَلا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَهُمَا مَخْلُوقَتَانِ أَىْ لَهُمَا بِدَايَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لَهُمَا أَىْ أَبَدِيَتَانِ فَلا يَطْرَأُ عَلَيْهِمَا خَرَابٌ أَوْ فَنَاءٌ) وَلا يَنْقَطِعُ نَعِيمُ الْجَنَّةِ وَلا يَتَوَقَّفُ عَذَابُ الْكُفَّارِ فِى النَّارِ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَنَصِّ الْحَدِيثِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ وَذَلِكَ (لِمَشِيئَةِ اللَّهِ بَقَاءَهُمَا) فَبَقَاؤُهُمَا لَيْسَ بِالذَّاتِ بَلْ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا (أَمَّا مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُمَا فَيَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْفَنَاءُ عَقْلًا) لَكِنْ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ فَإِنَّهُمَا لا تَفْنَيَانِ فَلا تَشَابُهَ بَيْنَ بَقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لِأَنَّ بَقَاءَهُ تَعَالَى ذَاتِىٌّ وَبَقَاءَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ ذَاتِيًّا بَلْ بِغَيْرِهِمَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّيْخِ مُحْيِى الدِّينِ بنِ عَرَبِىٍّ لا مَوْجُودَ بِذَاتِهِ إِلَّا اللَّهُ اﻫ وَمَا أَبْشَعَ قَوْلَ بَعْضِ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ لا مَوْجُودَ إِلَّا اللَّهُ.
(وَالثَّالِثُ) مِنْ أَقْسَامِ الْمَوْجُودِ مَوْجُودٌ (لا أَزَلِىٌّ وَلا أَبَدِىٌّ أَىْ أَنَّ لَهُ بِدَايَةٌ وَلَهُ نِهَايَةٌ وَهُوَ كُلُّ مَا فِى هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِ فَلا بُدَّ مِنْ فَنَائِهِمَا وَفَنَاءِ مَا فِيهِمَا مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلائِكَةٍ) وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الرَّحْمٰنِ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ أَىْ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَى الأَرْضِ يَفْنَى وَفَنَاءُ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ هُوَ بِمُفَارَقَةِ أَرْوَاحِهِمْ لِأَجْسَادِهِمْ فَهَذَا نَصٌّ فِى فَنَاءِ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ وَأَمَّا فَنَاءُ بَاقِى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِى السُّورَةِ نَفْسِهَا ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ أَىْ يَبْقَى ذَاتُهُ سُبْحَانَهُ فَإِنَّ الْوَجْهَ هُنَا مَعْنَاهُ الذَّاتُ أَىْ يَبْقَى رَبُّكَ.
فَائِدَةٌ. ذَكَرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَشْيَاءَ غَيْرَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ خُلِقَتْ لِلْبَقَاءِ فَلا تَفْنَى مِنْهَا الْعَرْشُ وَالْمَاءُ الَّذِى تَحْتَهُ وَالْقَلَمُ وَاللَّوْحُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الْعَرْشِ هَلْ يَفْنَى فَقَالَ لا لِأَنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ اﻫ فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ أَحْمَدَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِى يُعَرِّفُ الْعَرْشَ بِأَنَّهُ سَقْفُ الْجَنَّةِ وَأَنَّهُ بَاقٍ لا يَفْنَى بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُ وَبَيْنَ مَنِ انْتَسَبَ إِلَيْهِ زُورًا فَعَرَّفَ الْعَرْشَ بِأَنَّهُ مُسْتَقَرُّ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلا وَزَعَمَ أَنَّهُ يَفْنَى كُلَّ مُدَّةٍ وَيُخْلَقُ غَيْرُهُ
سَارَتْ مُشَرِّقَةً وَسِرْتُ مُغَرِّبًا شَتَّانَ بَيْنَ مُشَرِّقٍ وَمُغَرِّبِ
(وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَرَتْ عَادَةُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذِكْرِ أَنَّ الْحُكْمَ الْعَقْلِىَّ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاثَةٍ) أَىْ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ بِحُكْمٍ مِنْ ثَلاثَةٍ (الْوُجُوبِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَالْجَوَازِ) فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الأَمْرُ وَاجِبًا عَقْلِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِيلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جَائِزًا (وَقَالُوا الْوَاجِبُ) الْعَقْلِىُّ (مَا لا يُتَصَوَّرُ عَدَمُهُ) أَىْ مَا لا يَتَصَوَّرُ الْعَقْلُ عَدَمَهُ أَىْ مَا لا يَقْبَلُ الْعَدَمَ أَوِ الِانْتِفَاءَ أَصْلًا لِذَاتِهِ (وَهُوَ اللَّهُ وَصِفَاتُهُ) الْقَائِمَةُ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ (وَالْمُسْتَحِيلُ) الْعَقْلِىُّ هُوَ (مَا لا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ وَقَدْ يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالْمُمْتَنِعِ) عَقْلًا وَهُوَ مَا يُحَتِّمُ الْعَقْلُ انْتِفَاءَهُ وَلا يَقْبَلُ وُجُودَهُ أَىْ هُوَ مَا لا يَقْبَلُ الْوُجُودَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ فَيُقَالُ مَثَلًا الشَّرِيكُ لِلَّهِ مُسْتَحِيلٌ عَقْلِىٌّ أَىْ لا يَجُوزُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ. وَأَمَّا الْمُسْتَحِيلُ الْعَادِىُّ فَهُوَ مَا يَجُوزُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ لَكِنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ لا يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَادَةِ كَوُجُودِ جَبَلٍ مِنْ زِئْبَقٍ مَثَلًا فَإِنَّهُ لا يَكُونُ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا (وَ)أَمَّا (الْجَائِزُ) الْعَقْلِىُّ وَيُقَالُ لَهُ الْمُمْكِنُ الْعَقْلِىُّ فَهُوَ (مَا يُتَصَوَّرُ فِى الْعَقْلِ وُجُودُهُ) تَارَةً (وَعَدَمُهُ) تَارَةً أُخْرَى فَبِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ بِحُكْمِ الْعَقْلِ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بَعْدَ عَدَمٍ وَإِعْدَامُهُ بَعْدَ وُجُودٍ وَهَذَا الْحُكْمُ يَنْطَبِقُ عَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ (وَلِذَلِكَ) أَىْ لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ الثَّلاثَةِ (يَصِفُونَ اللَّهَ بِالْوَاجِبِ الْوُجُودِ) لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لا يَقْبَلُ الْعَدَمَ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ وَلا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ تَعَالَى حُكْمُ جَوَازِ الْوُجُودِ أَوِ اسْتِحَالَتِهِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.