خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكوّر الليل على النهار، تذكرة لأولي القلوب والأبصار، وتبصرة لذوي الألباب والاعتبار، الذي هدى من خلقه من اصطفاهم فزهّدهم في هذه الدار، وشغلهم بمراقبته وإدامة التفكر والادّكار، وملازمة الاتعاظ والأذكار، ووفقهم للدأب في طاعته والتأهب لدار القرار، والحذر مما يُسخطه ويُوجب دار البوار، والمحافظة على ذلك مع تغير الأحوال والأطوار.
والصلاة والسلام على محمد النبي العربي المختار، الذي اصطفاه ربه وجعله إمامًا للمتقين وسيدًا للأبرار، وقدره وفضله على كافة الخلق بالاصطفاء والاختيار، وعلى ءاله وصحابته الطيبين الطاهرين أهل المحبة والأسرار، وعلى من سار خلفهم من الزاهدين والصوفية الأخيار.
أما بعد، لقد جعل الله هذه الطائفة سادة الأمة، وفضلهم على سائر خلقه بعد أنبيائه ورسله، وجعلهم للناس هداة ورحمة، فكان منهم الأولياء والعلماء والسادة الأئمة، فهم رضي الله عنهم نقطةُ البيكار، ومصابيح الأنوار، ومعدن الأسرار، يتبعون الحق ويدورون معه حيث دار، فهم الغياث للخلق، المختارون للطريق الحق، حملوا لواء العلم والعمل، وتجنبوا مهالك الجهل والكسل، قاموا بما عليهم من التكليف، وطلبوا المغفرة من التواب اللطيف، ثم رجعوا إليه سبحانه وتعالى بصدق الافتقار، وسلكوا طريق الفقر والانكسار، ومنعوا نفوسهم عن الكبرياء والتشوف، وهذبوها بالكياسة والرياضة والتصوف، فهم إلى الله فقراء، وفي بواطنهم سلاطين أمراء، هجروا المنام، وقللوا من الطعام، واحتملوا الأذى من الأنام، واجتنبوا الذنوب والآثام، وصلّوا بالليل والناس نيام، فهم من خشية الله عيونهم دامعة، وقلوبهم إليه خاشعة، وهم على ذلك يرون ما هم فيه من الفضل فضلاً منه عليهم، قد ساقه الرب الكريم إليهم، فلم يتكلوا على ما حصل لهم من الأعمال، أو صفا لهم من الأحوال، علمًا منهم أنه سبحانه يفعل ما يشاء، ويختار ما يريد، ليس عليه حق لأحد وثوابه فضل عليهم وعذابه للمخالفين عدل منه.
واعلم أيها الأخ الفاضل أن أهل هذه الطائفة الأفاضل قد ذهب أكثرهم ولم يبق إلا رسمهم إلا ما ندر من أهل التقوى والسلامة، إذ الحق باقٍ إلى يوم القيامة.
وقد فرق كثير من جهلة المتصوفة بين الشريعة والحقيقة، وتوهموا أن الحقيقة تخالف الشريعة، وأن الباطن يخالف الظاهر، وهذا خطر محدق، وجهل مطبق لأن الشريعة كلها حقائق.
ولما كان الأمر كذلك، وكثر التالف والهالك، وزال الورع وطوي بساطه، واشتد الطمع وقوي رباطه، وابتعدت عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، واستخفوا بأداء الواجبات، واستهانوا بالصيام والصلاة، ومضوا في ميادين الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات، وقلة المبالات بترك العبادات وتعاطي المنكرات، والخوض في المحظورات، ثم لم يكتفوا بما حصل لهم من سوء الأفعال، حتى ادعوا وصولهم للحقائق والأحوال، وأنهم أهل الله المتقون، وعباده الواصلون، وأولياؤه العارفون.
وزاد الطغيان في هذا الزمان، حتى نقض بعضهم عرى الإيمان، وروجوا مقالات ما أنزل الله بها من سلطان، وغاصوا في مهالك الكفر والارتداد، وخاضوا في عقائد الحلول والاتحاد، وسلكوا طرق الزندقة والإلحاد.
ولما طال البلاء وزادت المحن، وكثرت المصائب وانتشرت الفتن، كان حريًّا بنا في هذه الأمور الدقيقة، وحرصًا منا على بيان الحقيقة، وذلك لإثبات صحة انتماء وصدق اتباع أهل التصوف والطريقة، فكان همنا ومقصدنا إصدار كتابنا هذا للبركة والتشرف، والزيادة في التعرف على مذهب أهل التصوف أسميناه:
التشرف بذكر أهل التصوف
وإننا نسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون من الصوفية الصادقين، على الإيمان ثابتين، وعلى الطاعة مثابرين، وللذنوب مجتنبين، وعلى البلاء صابرين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وسلم.