الأحد ديسمبر 22, 2024

من فتاوى علماء الأزهر الشريف الفقيه المالكي محمود خطاب السبكي في معتقد الحلول والجهة

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد، فمن فتاوى علماء الأزهر الشريف في معتقد الحلول والجهة ما قاله الشيخ الفقيه المالكي أبو محمد محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السبكي الأزهري (1) (ت 1352 هـ) مؤسس الجمعية الشرعية بمصر وصاحب المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود المتوفى سنة (ت 1352 هـ) في كتابه إتحاف الكائنات ببيان مذهب السلف والخلف في المتشابهات ورد شبه الملحدة والمجسمة وما يعتقدونه من المفتريات ص 2، الحمد لله رب العالمين، المنـزه عن صفات المخلوقين، كالجهة والجسمية والمكان والفوقية، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي جاء بمحو الشرك والإلحاد وأمرنا بتنـزيه الله تعالى عن صفات العباد، وأنـزل عليه (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد) وقوله (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين (أما بعد) فيقول محمود بن محمد بن أحمد خطاب السبكي قد سألني بعض الراغبين في معرفة عقائد الدين، والوقوف على مذهب السلف والخلف في المتشابه من الآيات والأحاديث بما نصه:
نص سؤال السائل (ما قول السادة العلماء حفظهم الله تعالى فيمن يعتقد أن الله عز وجل له جهة! وأنه جالس على العرش في مكان مخصوص! ويقول ذلك هو عقيدة السلف!! ويحمل الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد ويقول لهم من لم يعتقد ذلك يكون كافرا! مستدلا بقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) وقوله عز وجل (ءأمنتم من في السماء) أهذا الاعتقاد صحيح أم باطل؟ وعلى كونه باطلا أيكفر ذلك القائل باعتقاده المذكور ويبطل كل عمله من صلاة وصيام وغير ذلك من الأعمال الدينية وتبين منه زوجه؟ وإن مات على هذه الحال قبل أن يتوب لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين؟ وهل مَنْ صَدّقَه في ذلك الاعتقاد يكون كافرا مثله؟ وما قولكم فيما يقوله بعض الناس من أن القول بنفي الجهات الست عن الله تعالى باطل لأنه يلزم عليه نفي وجود الله تعالى)؟
أفيدونا مأجورين مع بيان مذهب السلف والخلف في هاتين الآيتين ونحوهما من الآيات المتشابهات كـ (إليه يصعد الكلم الطيب) وأحاديث الصفات كحديث (ينـزل ربنا إلى السماء الدنيا) وحديث الجارية بيانا شافيا مع ذكر أقوال علماء التفسير والحديث والفقه والتوحيد مع الإيضاح الكامل لتنقطع ألسنة المجازفين الذين يشبهون الله تعالى بخلقه ويعتقدون أن ما ذهب إليه علماء الخلف من التأويل كفر زاعمين أنه مذهب الجهمية الكفرة، وأشاعوا ذلك بين العوام! جزاكم الله تعالى عن الدين وأهله أحسن الجزاء.

فأجبت بعون الله تعالى فقلت:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الهادي إلى الصواب والصلاة والسلام على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب وعلى آله وأصحابه الذين هداهم الله ورزقهم التوفيق والسداد، أما بعد، فالحكم أن هذا الاعتقاد باطل ومعتقده كافر بإجماع من يعتد به من علماء المسلمين، والدليل العقلي على ذلك قدم الله تعالى ومخالفته للحوادث، والنقلي قال تعالى (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) فكل من اعتقد أنه تعالى حل في مكان أو اتصل به أو بشيء من الحوادث كالعرش أوالكرسي أو السماء أو الأرض أو غير ذلك فهو كافر قطعا، ويبطل جميع عمله من صلاة وصيام وحج وغير ذلك، وتبين منه زوجه وعليه أن يتوب فورا، وإذا مات على هذا الاعتقاد والعياذ بالله تعالى لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ومثله في ذلك كله من صدقه في اعتقاده أعاذنا الله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأما حمله الناس على أن يعتقدوا هذا الاعتقاد المكفر وقوله لهم من لم يعتقد ذلك يكون كافرا! فهو كفر وبهتان عظيم، واستدلاله على زعمه الباطل بهاتين الآيتين ونحوهما أن الله عز وجل يحل في عرشه أو يجلس عليه أو يحل في سماء أو نحو ذلك مما تزعمه تلك الشرذمة، مع أن كلام الله غير مخلوق وهو من صفات الله تعالى القديمة الموجودة قبل وجود العرش والسماوات، فالله تعالى موصوف بأنه استوى على العرش قبل وجود العرش، وهل كان جالسا على زعمهم على العرش المعدوم قبل وجوده؟! وهل جل جلاله في السماء قبل خلق السماء؟! هذا مما لا يتوهمه عاقل، وهل العقل يصدق بحلول القديم في شيء من الحوادث؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الجملة فهذا القائل المجازف وأمثاله قد ادعوا ما لا يقبل الثبوت لا عقلا ولا نقلا، وقد كفروا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، والطامة الكبرى التي نـزلت بهؤلاء دعواهم أنهم (سلفيون)!!، وهم عن سبيل الحق زائغون، وعلى خيار المسلمين يعيبون، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأما مذهب السلف والخلف بالنسبة للآيات والأحاديث المتشابهة فقد اتفق الكل على أن الله تعالى منـزه عن صفات الحوادث، فليس له عز وجل مكان في العرش ولا في السماء ولا في غيرهما، ولا يتصف بالحلول في شيء من الحوادث، ولا بالاتصال بشيء منها، ولا بالتحول والانتقال ونحوهما من صفات الحوادث، بل هو سبحانه وتعالى على ما كان عليه قبل خلق العرش والكرسي والسماوات وغيرها من الحوادث.
قال الحافظ في الفتح (اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير). اهـ
وإنما اختلفوا في بيان المعنى المراد من هذه الآيات والأحاديث، فالسلف رضي الله عنهم يؤمنون بها كما وردت معتقدين أنها مصروفة عن ظاهرها لقوله تعالى (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير) ويفوضون علم المراد منها إلى الله تعالى لقوله (وما يعلم تأويله إلا الله) فيقولون في آية (الرحمن على العرش استوى) استوى استواء يليق به لا يعلمه إلا هو عز وجل، وفي آية (ءأمنتم من في السماء) نؤمن بها على المعنى الذي أراده سبحانه وتعالى مع كمال التنـزيه عن صفات الحوادث والحلول ويقولون في آية (يد الله فوق أيديهم) له يد لا كأيدينا ولا يعلمها إلا هو تعالى، وهكذا في سائر الآيات المتشابهة.
إلى أن قال ويقولون في حديث (ينـزل ربنا إلى سماء الدنيا) ينـزل نزولا يليق به لا يعلمه إلا هو تعالى، وأما حديث الجارية وهو ما أخرجه مسلم وأبو داود في باب نسخ الكلام في الصلاة من طريق معاوية بن الحكم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية (أين الله؟) قالت (في السماء) قال (من أنا ؟) قالت (أنت رسول الله) قال أعتقها فإنها مؤمنة، فيقولون فيه ما قالوه في آية ( ءأمنتم من في السماء) وهكذا سائر أحاديث الصفات المتشابهة، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله إلا الله) قالوا الوقف هنا تام، وأما الراسخون في العلم إلخ فكلام مستأنف لبيان أن أكابر ذوي العلم مصدقون بثبوت المتشابه في القرآن.

وأما الخلف رحمهم الله تعالى فيقولون في هذه الآيات والأحاديث هي معروفة المعنى، فمعنى (الرحمن على العرش استوى) استولى بالقهر والتصرف، ومعنى (ءأمنتم من في السماء) من في السماء عذابه أو سلطانه ومصدر أمره، أو هو كناية عن تعظيم الله تعالى بوصفه بالعلو والعظمة، وتنـزيهه عن السفل والتحت لا أنه سبحانه وتعالى حال فيها!! لأن الحلول من صفات الأجسام وأمارات الحدوث والله منـزه عن ذلك، ومعنى (ينـزل ربنا إلى سماء الدنيا) ينـزل رسوله أو رحمته، وأما إقرار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الجارية على إشارتها نحو السماء فاكتفاء منها بما يدل على عدم شركها لتعتق، لأنه بإشارتها إلى السماء علم أنها ليست ممن يعبد الأصنام التي في الأرض، وهكذا في سائر الآيات والأحاديث بناء منهم على كون الوقف في الآية الشريفة على قوله تعالى (والراسخون في العلم) مستدلين على ذلك بكون القرآن عربيا، ولغة العرب ناطقة بتلك المعاني، والفضل الزائد للسلف.

فمن نسب إلى علماء السلف أو الخلف شيئا خلاف ذلك فهو ضال مضل، ومن قال إن مذهب علماء الخلف هو مذهب الجهمية فهو مفتر كذاب، فإن الجهمية أتباع جهم بن صفوان الذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال، وأنكر الاستطاعات كلها، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان، وزعم أن الإيمان هو المعرفة بالله فقط، وأن الكفر هو الجهل به فقط، وقال لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز، كما يقال زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن يكونا فاعلين أو مستطيعين لما وصفتا به، وزعم أيضا أن علم الله تعالى حادث، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء حي أوعالم أو مريد، وقال لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشيء موجود وحي وعالم ومريد ونحو ذلك، ووصفه بأنه قادر وموجد وفاعل وخالق ومحيي ومميت، لأن هذه الأوصاف مختصة به وحده، وقال بحدوث كلام الله تعالى كما قالته القدرية، ولم يسم الله تعالى متكلما به، وأكفره أصحابنا في جميع ضلالاته وأكفرته القدرية في قوله بأن الله تعالى خالق أفعال العباد، فاتفق أصناف الأمة على تكفيره انتهى من الفرق بين الفرق للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي صحيفة تسع وتسعين ومائة، ومنه تعلم أن علماء الخلف برآء من هذا المذهب ومن أهله.

وأما ما قيل من أنه يلزم من نفي الجهات الست عن الله نفي وجوده! فهو قول باطل بالبداهة لما هو معلوم من أن الله عز وجل كان موجودا قبل وجود الجهات الست المذكورة، وهي فوق وتحت وأمام وخلف ويمين وشمال، بل كان موجودا قبل وجود العالم كله بإجماع السابقين واللاحقين، فكيف يتوهم من عنده أدنى شائبة عقل أنه يلزم من نفي تلك الجهات عنه سبحانه وتعالى نفي وجوده جل وعلا؟! وكيف يتصور أن الله عز وجل القديم يتوقف وجوده على وجود بعض الحوادث أو كل الحوادث التي خلقها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم، كيف وقد قال جمع من السلف والخلف إن من اعتقد أن الله في جهة فهو كافر كما صرح به العراقي وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو الحسن الأشعري والباقلاني، ذكره العلامة ملا علي قاري في شرح المشكاة من الجزء الثاني صفحة 137، قال الله تعالى (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وقال تعالى (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا إلى الطريق المستقيم ويحول بيننا وبين نزعات الشيطان الرجيم، والصلاة والسلام على خاتم النبيين وعلى من كان بهديه من العاملين.

هذا وقد عرضت هذه الإجابة على جمع من أفاضل علماء الأزهر فأقروها وكتبوا عليها أسماءهم وهم أصحاب الفضيلة الشيخ محمد النجدي شيخ السادة الشافعية، والشيخ محمد سبيع الذهبي شيخ السادة الحنابلة، والشيخ محمد العزبي رزق المدرس بالقسم العالي، والشيخ عبد الحميد عمار المدرس بالقسم العالي، والشيخ علي النحراوي المدرس بالقسم العالي، والشيخ دسوقي عبد الله العربي من هيئة كبار العلماء، والشيخ علي محفوظ المدرس بقسم التخصص بالأزهر، والشيخ إبراهيم عيارة الدلجموني المدرس بقسم التخصص بالأزهر، والشيخ محمد عليان من كبار علماء الأزهر، والشيخ أحمد مكي المدرس بقسم التخصص بالأزهر، والشيخ محمد حسين حمدان…..انتهت الفتوى.

(1) أبو محمد محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السبكي (ت 1352 هـ) فقيه مالكي أزهري من شيوخه الذين تلقى عنهم بالأزهر الشريف العلامة الإمام محمد بن محمد عليش المالكي (ت 1299 هـ) توفي بالقاهرة.