الإثنين ديسمبر 23, 2024

من علماء المالكية من تأول الاستواء على العرش بالقهر والاستيلاء

ورد قرءانًا وصف الله بأنه مستوٍ على العرش، فيجب الإيمان بذلك بلا كيف، فليس بمعنى الجلوس أو الاستقرار أو المحاذاة للعرش، لأن ذلك كَيْفٌ، والله منـزه عن الاستواء بالكيف، لأنه من صفات الأجسام، بل نقول استوى على العرش استواء يليق به هو أعلم بذلك الاستواء، وهذا موافق ومنسجم مع الآية المحكمة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىءٌ).

فقد ثبت عن الإمام مالك رضي الله عنه ما رواه الحافظ البيهقي في كتابه الأسماء والصفات بإسناد جيد كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح من طريق عبد الله بن وهب قال كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف استواؤه؟ قال فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كما وصف نفسه، ولا يقال كيفَ وكَيْفَ عنه مرفوعٌ، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه، قال فأخرج الرجل.

فقول الإمام مالك (وكيف عنه مرفوع) أي ليس استواؤه على العرش كيفا أي هيئة كاستواء المخلوقين من جلوس ونحوه.
وقوله (أنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه)، وذلك لأن الرجل سأله بقوله كيف استواؤه، ولو كان الذي حصل مجرد سؤال عن معنى هذه الآية مع اعتقاد أنها لا تؤخذ على ظاهرها ما كان اعترض عليه.

قال المحدث الشيخ سلامة القضاعي العزامي (1376 هـ) من علماء الأزهر عن قول مالك لذاك الرجل صاحب بدعة (لأن سؤاله عن كيفية الاستواء يدل على أنه فهم الاستواء على معناه الظاهر الحسي الذي هو من قبيل تمكن جسم على جسم واستقراره عليه، وإنما شك في كيفية هذا الاستقرار، فسأل عنها، وهذا هو التشبيه بعينه الذي أشار إليه الإمام بالبدعة). اهـ

وروى الحافظ البيهقي من طريق يحيى بن يحيى قال كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)، فكيف استوى؟ قال فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا، فأمر به أن يخرج.

قوله (الاستواء غير مجهول) أي أنه معلوم وروده في القرءان، ولا يعني أنه بمعنى الجلوس ولكن كيفية الجلوس مجهولة، كما زعم بعض المجسمة، وقوله (والكيف غير معقول) معناه أن الاستواء بمعنى الكيف أي الهيئة كالجلوس لا يعقل أي لا يقبله العقل، لكونه من صفات الخلق، لأن الجلوس لا يصح إلا من ذي أعضاء أي كأليةٍ وركبةٍ، وتعالى الله عن ذلك، فلا معنى لقول المشبهة الاستواء معلوم والكيفية مجهولة، يقصدون بذلك أن الاستواء الجلوس لكن كيفية جلوسه غير معلومة، لأن الجلوس كيفما كان لا يكون إلا بأعضاء، وهؤلاء يوهمون الناس أن هذا مراد مالك رضي الله عنه، فلا يُغترّ بتمويهاتهم.

قال الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء ما نصه (وقال ابن اللبان في تفسير قول مالك، قوله (كيف غير معقول) أي كيف من صفات الحوادث، وكل ما كان من صفات الحوادث فإثباته في صفات الله تعالى ينافي ما يقتضيه العقل، فيجزم بنفيه عن الله تعالى، قوله (والاستواء غير مجهول) أي أنه معلوم المعنى عند أهل اللغة، (والإيمان به) على الوجه اللائق به تعالى (واجب) لأنه من الإيمان بالله وبكتبه). اهـ

فنفي الكيف عن الله تعالى أي الهيئة وكل ما كان من صفات الخلق، كالجلوس والاستقرار والحركة والسكون وما شابه ذلك، محل اتفاق بين علماء أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا.

ومن علمائنا المالكية من تأول الاستواء على العرش بالقهر والاستيلاء الشيخ برهان الدين إبراهيم اللقاني المالكي (ت 1041 هـ) في شرحه على منظومته جوهرة التوحيد والشيخ أحمد بن غنيم النفراوي الأزهري المالكي (ت 1126 هـ) في كتابه الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني قال ما نصه (استوى أي استولى بالقهر والغلبة استيلاء ملك قاهر وإله قادر، ويلزم من استيلائه تعالى على أعظم الأشياء وأعلاها استيلاؤه على ما دونه). اهـ
والشيخ محمد الطيب بن عبد المجيد المدعو ابن كيران المالكي (ت 1227 هـ) في شرحه على توحيد العالم الماهر سيّدي عبد الواحد بن عاشر مفسرًا الاستواء على العرش بالقهر والغلبة، كقوله (فلما علونا واستوينا عليهم *** جعلناهم مرعى لنسر وطائر) وقوله (قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مــهــراق) وخص العرش لأنه أعظم المخلوقات، ومن استولى على أعظمها كان استيلاؤه على غيره أحرى). اهـ
والشيخ أبو الحسن علي بن محمد المنوفي المالكي المصري (ت 939 هـ) قال في كتابه كفاية الطالب ما نصه (فمعنى استوائه على عرشه أن الله تعالى استولى عليه استيلاء ملك قادر قاهر، ومن استولى على أعظم الأشياء كان ما دونه في ضمنه ومنطويًا تحته، وقيل الاستواء بمعنى العلو أي علو مرتبه ومكانة لا علو المكان). اهـ.
والشيخ إسماعيل بن موسى بن عثمان الحامدي المالكي (ت 1316 هـ) قال في شرحه على العقيدة الصغرى (وأما قوله تعالى في سورة طه (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فمعناه والله أعلم أنه مستول بقهره وعظمته وسلطانه، وليس المعنى أنه جالس على العرش، لأن هذا من صفات الحوادث وهو محال في حقه تعالى، وبالجملة فكل ما خطر ببالك من صفات الحوادث فالله بخلاف ذلك). اهـ
والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف أبو زيد الثعالبي المالكي (ت 875 هـ) قال في تفسيره الجواهر الحسان (والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث ويبقى استواء القدرة والسلطان). اهـ
والعالم النحوي الأصولي الفقيه المالكي أبو عمرو عثمان بن عمر ابن الحاجب (ت 646 هـ) قال في أماليه (فإنما أتى بـ (على) لـما في الاستواء من معنى الاستعلاء، ألا ترى إلى قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وقوله للشاعر (قد استوى بشر على العراق) يريد بذلك علو القهر، بدليل قوله في عقيدته عن الله (وعدم حلوله في المتحيز، وعدم اتحاده بغيره، وعدم حلوله فيه، واستحالة كونه في جهة). اهـ
والمفسر أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت 671 هـ) قال في تفسيره (وقيل علا دون تكييف ولا تحديد، واختاره الطبري ويذكر عن أبي العالية الرياحي في هذه الآية أنه يقال استوى بمعنى أنه ارتفع، قال البيهقي ومراده من ذلك – والله أعلم – ارتفاع أمره، وهو بخار الماء الذي وقع منه خلق السماء، وقيل إن المستوى الدخان، وقال ابن عطية وهذا يأباه وصف الكلام، وقيل المعنى استولى، كما قال الشاعر قد استوى بشر على العراق** من غير سيف ودم مهراق، قال ابن عطية وهذا إنما يجيء في قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قلت قد تقدم في قول الفراء عليّ وإليّ بمعنى، وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى، والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع الحركة والنقلة. اهـ
والشيخ الفقيه الأصولي المفسر شهاب الدين أحمد القَرافي المالكي (ت 684 هـ) قال في كتابه الذخيرة ما نصه (ومعنى قول مالك الاستواء غير مجهول، أن عقولنا دلتنا على الاستواء اللائق بالله وجلاله وعظمته، وهو الاستيلاء دون الجلوس ونحوه مما لا يكون إلا في الأجسام). اهـ
والقاضي الفقيه الإمام الشيخ أبو الوليد محمد بن أحمد المالكي قاضي الجماعة بقُرْطُبة المعروف بابن رشد الجد (ت 520 هــ) قال ما نصه (والاستواء في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (سورة الأعراف) معناه استولى قاله الواحدي وقيل معناه القهر والغلبة ذكره ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل موافقًا له ومقــرًّا لكلامه.
والمفسر أبو محمد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت 541 هـ) قال في تفسيره وقيل المعنى استولى كما قال الشاعر قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق، وهذا إنما يجيء في قوله تعالى (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان. اهـ وقال وقد تقدم القول في كلام الناس في الاستواء، واختصاره أن أبا المعالي رجّح أنه استوى بقهره وغلبته، وقال القاضي ابن الطيب وغيره (اسْتَوَى) في هذا الموضع استولى. اهـ