الثلاثاء أكتوبر 22, 2024

من أسس التأويل وضوابطه عند أهل السّنة والجماعة:

إنَّ التأويل علم له شروط ومبادئ وقواعد لا يقبل تجاهلها ولا يسوغ تخطيها لأن ذلك مؤداه الوقوع في المحظور، لذلك كان لا بد من تقصّي الشروط التي تجب والمبادئ التي تتحتَّم مراعاتها على كل من أراد الخوض في هذا العلم والغوص في بحاره. إنه حقًّا علم مُنظّم الضوابط، محكم المفاهيم، لا لبْسَ فيه ولا  لَغَط. وتجد في ما يلي بعض النقول التي بها رسمت المحاور الأساسيّة والأطُر العلمية التي يتمحور حولها علم التأويل.

ونبدأ بما قاله الإمام النسفي([1]) في العقيدة النسفية ونصه([2]): «والنصُوصُ مِن الكتَابِ والسّنةِ تحمَلُ على ظواهرها، والعُدُولُ عنها إلى مَعانٍ يَدَّعيها أَهلُ البَاطِنِ إلحاد، وَرَدُّ النُّصُوصِ كُفر» اهـ.

يعني أن النص القرآنيَّ والنص الحديثي يُحملان على الظاهر ما لم يدلّ دليل عقلي أو سمعي على وجوب العدول عن ذلك، فإن وجد فعندئذ يحمل على غير الظاهر للضرورة، وأما التأويل لغير ذلك فعَبَثٌ وتجاوز للحدود.

وقوله: «والعدول عنها إلى معانٍ يدعيها أهلُ الباطن إلحاد» يعني أن تأويلات الباطنية ومن أشبههم مما يؤدي إلى مخالفة الضروريات إلحاد وكفر.

وقوله: «وردُّ النصوص كفر» يعني أن رد النصّ القرآني أو النصّ الحديثي الثابت مع اعتقاده أنه كلام الله وكلام رسول الله ﷺ كفر.

ففي هذا تنبيه إلى عدد من الضوابط التي هي ذات صلة وهي:

أن تحميل كل نص من النصوص ما لا يحتمله خروج عن جادَّة الصواب.

أن النصوص تحمل على الظاهر إلا إن دعا داع إلى حملها على غير هذا الظاهر.

أن النصوص الشرعية يجب ألا تتناقض، فلذا ينبغي ألا يتعارض أي تأويل لأي متشابه مع المحكمات.

فتأمل مدى أهمية هذه الضوابط، وكيف أنها صراط مستقيم لمن أراد سلوك طريق التأويل من أهل العلم والمعرفة، فهي الضامن ألا يُتَّخَذَ التأويل عصا يتكئ عليها كل ذي مأرب. وهي الضامن ألا يتقرر تأويل ما لم يدع إليه داع، وهي الضامن أن تتعاضد النصوص في ما بينها ولا تتعارض.

وانظر إلى ما قاله الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ونصه([3]): «قال ابن دقيق العيد في العقيدة([4]): نقول في الصفات المشكلة إنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومن تأوَّلها نظرنا فإن كان تأويله قريبًا على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيدًا توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه، وما كان منها معناه ظاهرًا مفهومًا من تخاطب العرب حملناه عليه» اهـ.

فإذًا لا بد أن يدلّ دليل عقلي أو سمعي على وجوب العدول عن ظاهر اللفظ إلى المعنى المؤول، ثم لا بد أن يكون المعنى جاريًا على لسان العرب، فلا يصلح أن يكون بعيدًا، ولا يستساغ ما لم يحتمله لسان الضاد([5]). ومن ثَمَّ قال إمام الحرمين: «لا يمتنع منا حمل الاستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة» اهـ.

فيظهر لك أيها المنصف أن العلماء اشترطوا في تحقيق التأويل الصحيح أمورًا، منها:

أن يكون اللفظ المراد تأويله قابلًا لذلك التأويل، بأن يكون محتملًا بحسب وضع اللغة لذلك.

أن يكون المعنى الذي صرف إليه اللفظ من المعاني التي يحتملها اللفظ لغةً أو استعمل فيه شرعًا.

أن يكون الصرف عن ظاهره بدليل صحيح عقلي قاطع أو نقلي ثابت.

أن يكون المؤوّل أهلًا لذلك، بأن يكون مشتملًا على الصّفات التي تؤهّلُه لهذا.

فهذه بعض الشروط التي ذكرها أهل الحق لاستحقاق أهلية التأويل. كيف لا والتأويل موضوع على درجة عالية من الأهمية، فلا يسوغ لأحد الخوض فيه ما لم يكن تأهَّل لذلك وحصَّل التمكن المطلوب والرسوخ اللازم.

وعليه فلا يجوز صرف اللفظ عن ظاهره إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع([6])، مثال ذلك قول النبيّ ﷺ([7]): «إنَّ قلوبَ بنِى آدمَ كلَّها بينَ إصبعينِ مِنْ أصابعِ الرحمنِ» الحديثَ، قال الغزاليّ([8]): «حمله على الظاهر غير ممكن، إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع، فَعُلِمَ أنها كناية عن القدرة التي هي سر الأصابع، وكنّي بالأصابع عن القدرة، لأن ذلك أعظم وقعًا في تفهم تمام الاقتدار» اهـ. أما إذا كان إجراؤه على الظاهر غير محال فلا يجوز تأويله، ولذلك أنكر الغزاليّ على المعتزلة أنهم أوّلوا ما ورد من الأخبار في أحوال الآخرة كالميزان والصراط وغيرهما وقال([9]): «هو بدعة إذ لم ينقل ذلك بطريق الرواية، وإجراؤه على الظاهر غير محال، فيجب إجراؤه على الظاهر»اهـ.

ومن العقائد الثابتة بالدليل القاطع أن الله عزّ وجل ليس في جهة أو حيّز ولا يجوز عليه التركيب ولا التجسيم ولا التشبيه ولا تقوم به الحوادث([10])، فإذا وردت الظواهر الظنية معارضةً لهذه العقائد نؤول الظواهر إما تأويلًا إجماليًّا ونفوّض تفصيلها إلى الله، وإما تأويلًا تفصيليًّا بتعيين معنى من المعاني التي تحتملها اللغة العربية([11]).

ومما يشترط لصحة التأويل ألّا يخالف أصلًا ثابتًا([12])، ومن هذا التأويل المخالف تأويل ابن قتيبة المجسّم المشبّه الاستواء بالاستقرار، قال([13]): «وقالوا في قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه) إنه استولى، وليس يعرف في اللغة استويت على الدار، أي استوليت عليها، وإنما استوى في هذا المكان: استقر» اهـ. ولا يخفى أن في الاستقرار تشبيهًا لله بالمخلوق، ومفارقةً لتنــزيه البارئ عزّ وجلّ، ومثل هذا التأويل غير مقبول لأنه يخالف أصلًا ثابتًا([14])، ويردّه موافقة عدد كبير من اللغويين على جواز تفسير الاستواء بالاستيلاء والقهر، وقد تقدّم.

ومن علماء السّنة من يرى أن تأويل المتشابهات تأويلًا تفصيليًّا ضرورة لا يُلْجأ إليه إلا عند وجود مقتضاه، أما إذا لم يوجد ما يقتضي ذلك فالتفويض الذي هو التأويل الإجمالي هو الأصل.

وهي طريقة الحافظ ابن الجوزيّ([15]) الذي يقول: «إن نفيت التشبيه في الظاهر والباطن فمرحبًا بك، وإن لم يمكنك أن تتخلّص من شَرَك التشبيه إلى خالص التوحيد وخالص التنـزيه إلا بالتأويل -أي التفصيلي-، فالتأويل خير من التشبيه» اهـ. وهذا الكلام هو زبدة الكلام… لمن أراد الحقَّ صافيًا زُلالًا عذبًا فُراتًا.

وطريقة الحافظ النوويّ حيث قال رحمه الله تعالى([16]) بعد أن ذكر طريقة السلف: «وهذه طريقة السلف أو جماهيرهم وهي أسلم، إذ لا يطالب الإنسان بالخوض في ذلك، فإذا اعتقد التنـزيه فلا حاجة إلى الخوض في ذلك والمخاطرة في ما لا ضرورة، بل لا حاجة له إليه، فإذا دعت الحاجة إلى التأويل لردّ مبتدعٍ ونحوه، تأولوا حينئذ – أي تأويلًا تفصيليًّا -، وعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء في هذا» اهـ.

وهي كذلك طريقة ملا علي القاري حيث قال([17]): «وإنما اختلفوا: هل نصرفه عن ظاهره معتقدين اتصافه سبحانه بما يليق بجلاله وعظمته، من غير أن نؤول بشىء آخر، وهو مذهب أكثر أهل السلف وفيه تأويل إجماليّ، أو مع تأويله بشىء آخر وهو مذهب أكثر أهل الخلف، وهو تأويل تفصيليّ.

ولم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح، معاذ الله أن يُظنَّ بهم ذلك، وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك، لكثرة المجسمة والجهمية وغيرهما من فرق الضلال واستيلائهم على عقول العامّة، فقصدوا بذلك ردعَهم وإبطال قولهم.

ومن ثم اعتذر كثير منهم وقالوا: لو كنّا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمنهم، لم نخض في تأويل شىء من ذلك، وقد علمت أن مالكًا والأوزاعيّ ـ وهما من كبار السلف ـ أوّلا الحديث تأويلًا تفصيليًّا» اهـ.

وطريقة ابن حجركما نقل ملا علي القاري عنه قال([18]): «قال ابن حجر: أكثر السلف لعدم ظهور أهل البدع في أزمنتهم يفوّضون عِلْمها إلى الله تعالى مع تنـزيهه سبحانه عن ظاهرها الذي لا يليق بجلال ذاته، وأكثر الخَلَف يؤولونها بحملها على محامل تليق بذلك الجلال الأقدس والكمال الأنفس، لاضطرارهم إلى ذلك لكثرة أهل الزيغ والبدع في أزمنتهم.

ومن ثم قال إمام الحرمين: لو بقي الناس على ما كانوا عليه لم نؤمر بالاشتغال بعلم الكلام، وأما الآن فقد كثرت البدع فلا سبيل إلى ترك أمواج الفتن تلتطم» اهـ.

وفي ختام الكلام على هذه المسالك لا بد من التنبيه إلى أمرين:

الأول: أن مَذْهَبَيْ أهل السنَّة والجماعة في التأويل الإجماليّ والتأويل التفصيليّ يؤديان إلى غاية واحدة، والثمرة فيهما أن الله عزّ وجلّ لا يشبهه شىء من مخلوقاته، وأنه منزَّه عن جميع النقائص، متصفٌ بصفات الكمال التي تليق به عزَّ وجلَّ.

الثاني: التفويض الذي هو التأويل الإجمالي هو اعتقاد السلف والخلف، والتأويل التفصيلي الوارد عن بعض السلف والذي غلب على الخلف ضرورة دينيّة اضطروا إليها لدفع الوسوسة والشكوك عن العوامّ، والتصدي لرد مذاهب المبتدعة، وتوضيح العقائد الإسلامية. ومما يساعد على تقرير ذلك أن الإمام الخطابيّ ذكر الأحاديث التي ذُكِرَ فيها القَدَمُ والرّجْلُ وغيرها، وذكر أن مذهب السلف فيها التفويض ثم قال([19]): «ونحن أحرى بألّا نتقدم في ما تأخَّر عنه من هو أكثر علمًا وأقدم زمانًا وسنًّا، ولكن الزمان الذي نحن فيه قد صار أهله حزبين: مُنْكِرٌ لما يُروى من نوع هذه الأحاديث ومكذّب به أصلًا، ومسلّم للرواية فيها ذاهب في تحقيق الظاهر مذهبًا يكاد يفضي إلى القول بالتشبيه، ونحن نرغب عن الأمرين معًا، ونطلب لما يرد من هذه الأحاديث إذا صحَّت من طريق النقل والسند، تأويلًا يُخرَّج على معاني أصول الدّين ومذاهب العلماء» اهـ.

وفي هذا دليل على أن التأويل التفصيلي في حقهم ضرورة اضطروا إليها، والتأويل الإجمالي مسلكهم واختيارهم، فإذا احتاجوا لرد مذهب المبتدع أو لتثبيت عقيدة الضعفاء خَرَّجوا لهذه النصوص تأويلاتٍ موافقةً للأدلة العقلية جارية على قواعد اللغة العربية.

[1] ) عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، أبو البركات، حافظ الدين، ت 710هـ، فقيه حنفي، مفسر، من أهل إِيْذَج (من كور أصبهان) ووفاته فيها. نسبته إلى نسف ببلاد السند، بين جيحون وسمرقند. له مصنّفات جليلة، منها: «مدارك التنزيل» ثلاثة مجلدات، في تفسير القرآن، و«كنز الدقائق» في الفقه، و« المنار» في أصول الفقه. الأعلام، الزركلي، 4/67.

 

[2] ) العقيدة النسفية، النسفي، ص168.

 

[3] ) فتح الباري، ابن حجر، 13/383.

 

[4] ) عقيدة ابن دقيق العيد، ابن دقيق العيد، ص 24.

 

[5] ) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ضمن مجموعة الجواهر الغوالي من رسائل الغزاليّ، ص199. شرح الفقه الأكبر، ملا علي القاري، ص 34. 

 

[6] ) الإرشاد، الجوينيّ، ص160. أساس التقديس، الرازيّ، ص 182. 

 

[7] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء، 8/51.

 

[8] ) قواعد العقائد مع إحياء علوم الدين، الغزاليّ، 1/102.

 

[9] ) قواعد العقائد مع إحياء علوم الدين، الغزاليّ، 1/102، الاقتصاد في الاعتقاد، الغزاليّ، ص18.

 

[10] ) العقيدة النظامية، الجويني، ص21. الاقتصاد، الغزاليّ، ص28،  35. التمهيد، النسفيّ، 6/18. أساس التقديس، الرازيّ، ص15، 45.

 

[11] ) المواقف، الإيجيّ، ص 27. المقاصد، التفتازانيّ، 4/50.

 

[12] ) البرهان، الجوينيّ، 1/536. فيصل التفرقة، الغزاليّ، ص 188، 191.

 

[13] ) الاختلاف في اللفظ بتعليق الكوثري، ابن قتيبة، ص37.

 

[14] ) الاختلاف في اللفظ بتعليق الكوثري، ابن قتيبة، ص37.

 

[15] ) مجالس ابن الجوزيّ، ابن الجوزي، ص11.

 

[16] ) مقدمة المجموع شرح المهذّب، النوويّ، 1/25.

 

[17] ) مرقاة المفاتيح، ملا علي القاري، 3/270.

 

[18] ) مرقاة المفاتيح، ملا علي القاري، 1/260.

 

[19] ) الأسماء والصفات، البيهقيّ، ص 443، 444.