الخميس نوفمبر 21, 2024

مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ.

 

الإِسْرَاءُ ثَبَتَ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَى اللَّهُ بِهِ لَيْلًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى.

   الشَّرْحُ أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَمُحَدِّثِينَ وَمُتَكَلِّمِينَ وَمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءَ وَفُقَهَاءَ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ كَانَ بِالْجَسَدِ وَالرُّوحِ وَفِي الْيَقَظَةِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَأَنَسٍ وَعُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: »إِنَّ مَنْ أَنْكَرَ الإِسْرَاءَ فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ وَمَنْ كَذَّبَ الْقُرْءَانَ فَقَدْ كَفَرَ«.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ فَقَدْ ثَبَتَ بِنَصِّ الأَحَادِيثِ. وَأَمَّا الْقُرْءَانُ فَلَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ نَصًّا صَرِيحًا لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا لَكِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مَا يَكَادُ يَكُونُ نَصًّا صَرِيحًا.

   الشَّرْحُ الْمِعْرَاجُ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْءَانِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ لا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِعْرَاجِ لَكِنَّهُ لَيْسَ نَصًّا صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ فَمَنْ فَهِمَ أَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى فِي السَّمَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ أَنْكَرَ الْمِعْرَاجَ كَفَرَ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لا يَعْرِفُ وَلَمْ يَفْهَمْ ذَلِكَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَلا اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ هَذَا اعْتِقَادُهُمْ فَلا يَكْفُرُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَالإِسْرَاءُ قَدْ جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ [سُورَةَ الإِسْرَاء/1].

   الشَّرْحُ السَّبْحُ فِي اللُّغَةِ التَّبَاعُدُ، وَمَعْنَى سَبِّحِ اللَّهَ تَعَالَى أَيْ بَعِّدْهُ وَنَزِّهْهُ عَمَّا لا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقَاتِ وَصِفَاتِهِمْ كَالْحَجْمِ اللَّطِيفِ وَالْحَجْمِ الْكَثِيفِ وَصِفَاتِهِمَا كَالأَلْوَانِ وَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْمَقَادِيرِ كَالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالتَّحَيُّزِ فِي الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11] فَلَوْ كَانَ لَهُ حَجْمٌ كَبِيرٌ أَوْ صَغِيرٌ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ كَثِيرٌ.

   وَقَوْلُهُ: ﴿بِعَبْدِهِ﴾ أَيْ بِمُحَمَّدٍ، قِيلَ: لَمَّا وَصَلَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ فِي الْمِعْرَاجِ أَوْحَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ بِمَاذَا أُشَرِّفُكَ، قَالَ: بِأَنْ تَنْسُبَنِي إِلَى نَفْسِكَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾، مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ نِسْبَةَ النَّبِيِّ إِلَى رَبِّهِ بِوَصْفِ الْعُبُودِيَّةِ غَايَةُ الشَّرَفِ لِلرَّسُولِ لِأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ كَثِيرٌ فَلِمَ خَصَّهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِالذِّكْرِ، ذَلِكَ لِتَخْصِيصِهِ بِالشَّرَفِ الأَعْظَمِ.

   وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَيْلًا﴾ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَاذَا أَتْبَعَ بِذِكْرِ اللَّيْلِ؟ قُلْنَا: أَرَادَ بِقَوْلِهِ ﴿لَيْلًا﴾ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الإِسْرَاءِ فَإِنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ.

   وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَهُوَ هَذَا الَّذِي بِمَكَّةَ فَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ أَيْ لِشَرَفِهِ عَلَى سَائِرِ الْمَسَاجِدِ لِأَنَّهُ خُصَّ بِأَحْكَامٍ لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ، وَمُضَاعَفَةُ الأَجْرِ فِيهِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي غَيْرِهِ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا.

   وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الأَقْصَى فَقَدْ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.

   وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ قِيلَ لِأَنَّهُ مَقَرُّ الأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلائِكَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [سُورَةَ الصَّافَّات/99] أَيْ إِلَى حَيْثُ وَجَّهَنِي رَبِّي إِلَى مَكَانٍ أَمَرَنِي اللَّهُ أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى بَرِّ الشَّامِ إِلَى فِلَسْطِينَ لِأَنَّهُ عَرَفَ بِتَعْرِيفِ اللَّهِ إِيَّاهُ أَنَّ الشَّامَ مَهْبِطُ الرَّحَمَاتِ وَأَنَّ أَكْثَرَ الْوَحْيِ يَكُونُ بِالشَّامِ وَأَنَّ أَكْثَرَ الأَنْبِيَاءِ كَانُوا بِهَا، وَلِأَنَّ فِلَسْطِينَ لَيْسَتْ تَحْتَ حُكْمِ النُّمْرُودِ، فَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ تَشْوِيشٍ، وَمِنْ غَيْرِ أَذًى يَلْحَقُهُ، فَانْتَقَلَ مِنْ بَلَدِهِ الْعِرَاقِ إِلَى فِلَسْطِينَ ثُمَّ بَعْدَ زَمَانٍ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ، وَتَرَكَ سُرِّيَّتَهُ هَاجَرَ وَابْنَهُ إِسْمَاعِيلَ هُنَاكَ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَ أَهْلَ مَكَّةَ مِنَ الثَّمَرَاتِ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ لِأَنَّ مَكَّةَ وَادٍ لَيْسَ بِهَا زَرْعٌ، فَأَمَرَ اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْقُلَ جَبَلَ الطَّائِفِ مِنْ بَرِّ الشَّامِ إِلَى هُنَاكَ فَقَلَعَهُ جِبْرِيلُ وَوَضَعَهُ هُنَاكَ، وَهَذَا الْجَبَلُ فِيهِ عِنَبٌ مِنْ أَجْوَدِ الْعِنَبِ وَفِيهِ الرُّمَّانُ وَفِيهِ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَوَاؤُهُ لَطِيفٌ جِدًّا، وَهُوَ مُصْطَافُ أَهْلِ مَكَّةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ الأَزْرَقِيُّ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ مَكَّةَ، وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلُ الْفَوَائِدِ.

   وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا﴾ أَيْ مَا رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالآيَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ.

   وَقَدْ أَسْرَى اللَّهُ تَعَالَى بِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ مِنْ مَكَّةَ لَيْلًا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَرَّ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَيْهَا. وَهُوَ بِمَكَّةَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ لَيْلًا فَفَتَحَ سَقْفَ بَيْتِهِ وَلَمْ يَهْبِطْ عَلَيْهِمْ لا تُرَابٌ وَلا حَجَرٌ وَلا شَىْءٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ نَائِمًا حِينَهَا فِي بَيْتِ بِنْتِ عَمِّهِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أُخْتِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ فِي حَيٍّ اسْمُهُ أَجْيَاد بَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَجَعْفَرِ بنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَيْقَظَهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ثُمَّ أَرْكَبَهُ عَلَى الْبُرَاقِ خَلْفَهُ وَانْطَلَقَ بِهِ فَوَصَلا إِلَى أَرْضِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: انْزِلْ فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِطُورِ سِينَاءَ حَيْثُ كَانَ مُوسَى لَمَّا سَمِعَ كَلامَ اللَّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَوَصَلَ إِلَى مَدْيَنَ وَهِيَ بَلَدُ نَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ فَقَالَ لَهُ انْزِلْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فَفَعَلَ، ثُمَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَعَلَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَلَمَّا وَصَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ صَلَّى بِالأَنْبِيَاءِ إِمَامًا، اللَّهُ جَمَعَهُمْ لَهُ هُنَاكَ كُلَّهُمْ تَشْرِيفًا لَهُ، بَعَثَهُمُ اللَّهُ وَقَدْ كَانُوا مَاتُوا قَبْلَ ذَلِكَ إِلَّا عِيسَى فَلَمْ يَكُنْ مِمَّنْ مَاتَ بَلْ كَانَ فِي السَّمَاءِ حَيًّا. ثُمَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى زَادَ نَبِيَّهُ تَشْرِيفًا بِأَنْ رَفَعَ ثَمَانِيَةً مِنَ الأَنْبِيَاءِ هُمْ ءَادَمُ وَعِيسَى وَيَحْيَى وَيُوسُفُ وَإِدْرِيسُ وَهَارُونُ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ إِلَى السَّمَوَاتِ فَاسْتَقْبَلُوهُ فِي السَّمَوَاتِ، كَمَا يَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ ثُمَّ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ قَدْ أَخَذَ النَّبِيَّ قَبْلَ ذَلِكَ وَوَصَلَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَيْثُ شَقَّ صَدْرَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحِسَّ بِأَلَمٍ وَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيـمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ فِيهِ سِرَّ الْحِكْمَةِ وَالإِيـمَانِ ثُمَّ أَعَادَهُ مِثْلَمَا كَانَ وَذَلِكَ حَتَّى يَتَحَمَّلَ مُشَاهَدَةَ عَجَائِبِ خَلْقِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ شُقَّ صَدْرُ النَّبِيِّ لَمَّا كَانَ صَغِيرًا وَأُخْرِجَ مِنْ قَلْبِهِ عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ هِيَ حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنِ ابْنِ ءَادَمَ حَتَّى يَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ مَحْفُوظًا مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ.

   وَمِنْ عَجَائِبِ مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الإِسْرَاءِ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ مِنْ أَنَّهُ فِي أَثْنَاءِ سَيْرِهِ مَعَ جِبْرِيلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَأَى الدُّنْيَا بِصُورَةِ عَجُوزٍ، وَرَأَى إِبْلِيسَ مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ، وَرَأَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمَيْنِ، وَرَأَى خُطَبَاءَ الْفِتْنَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ لِلضَّلالِ وَالْفَسَادِ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ أَيْ بِمِقَصَّاتٍ مِنْ نَارٍ.

   وَرَأَى كَيْفَ يَكُونُ حَالُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْفَاسِدَةِ، وَحَالُ الَّذِينَ لا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ، وَحَالُ تَارِكِي الصَّلاةِ، وَالزُّنَاةِ، وَالَّذِينَ لا يُؤَدُّونَ الأَمَانَةَ، وَءَاكِلِي الرِّبَا، وَءَاكِلِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَشَارِبِي الْخَمْرِ، وَالَّذِينَ يَمْشُونَ بِالْغِيبَةِ، وَشَمَّ رَائِحَةً طَيِّبَةً مِنْ قَبْرِ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَكَانَتْ مُؤْمِنَةً صَالِحَةً وَجَاءَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا بَيْنَمَا كَانَتْ تَمْشُطُ رَأْسَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ سَقَطَ الْمِشْطُ مِنْ يَدِهَا فَقَالَتْ: بِسْمِ اللَّهِ، فَسَأَلَتْهَا بِنْتُ فِرْعَوْنَ: أُولَكِ رَبٌّ إِلَهٌ غَيْرُ أَبِي، فَقَالَتِ الْمَاشِطَةُ: رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكَ هُوَ اللَّهُ، فَقَالَتْ: أَأُخْبِرُ أَبِي بِذَلِكَ، قَالَتْ: أَخْبِرِيهِ، فَأَخْبَرَتْهُ فَطَلَبَ مِنْهَا الرُّجُوعَ عَنْ دَينِهَا، فَأَبَتْ، فَحَمَّى لَهَا مَاءً حَتَّى صَارَ شَدِيدَ الْحَرَارَةِ، مُتَنَاهِيًا فِي الْحَرَارَةِ، فَأَلْقَى فِيهِ أَوْلادَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الدَّوْرُ إِلَى طِفْلٍ كَانَتْ تُرْضِعُهُ تَقَاعَسَتْ، أَيْ صَارَ فِيهَا كَأَنَّهَا تَتَرَاجَعُ، ازْدَادَ خَوْفُهَا وَانْزِعَاجُهَا وَقَلَقُهَا، فَانْطَقَ اللَّهُ تَعَالَى الرَّضِيعَ فَقَالَ: »يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّ عَذَابَ الآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَلا تَتَقَاعَسِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ« فَتَجَالَدَتْ فَرَمَى الطِّفْلَ، فَقَالَتْ لِفِرْعَوْنَ: لِي عِنْدَكَ طَلَبٌ أَنْ تَجْمَعَ الْعِظَامَ وَتَدْفِنَهَا، فَقَالَ: لَكِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِيهِ.

   ثُمَّ نُصِبَ الْمِعْرَاجُ وَالْمِعْرَاجُ مِرْقَاةٌ شِبْهُ السُّلَّمِ فَعَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ إِلَى السَّمَاءِ، وَهَذِهِ الْمِرْقَاةُ دَرَجَةٌ مِنْهَا مِنْ فِضَّةٍ وَالأُخْرَى مِنْ ذَهَبٍ، ثُمَّ اسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ بَابَ السَّمَاءِ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ سُؤَالُ الْمَلَكِ عَنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ بِقَوْلِهِ: »وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ« لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ بِبِعْثَتِهِ بَلْ كَانَ أَمْرُ مَبْعَثِهِ قَدِ اشْتَهَرَ فِي الْمَلَإِ الأَعْلَى، قِيلَ إِنَّمَا هُوَ لِزِيَادَةِ التَّأَكُّدِ، وَقِيلَ: إِنَّ السُّؤَالَ مَعْنَاهُ هَلْ بُعِثَ إِلَيْهِ لِلْعُرُوجِ. فَرَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّمَاءِ الأُولَى ءَادَمَ، وَفِي الثَّانِيَةِ رَأَى عِيسَى وَيَحْيَى، وَفِي الثَّالِثَةِ رَأَى يُوسُفَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِي وَصْفِهِ يُوسُفَ: »قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ« رَوَاهُ مُسْلِمٌ، يَعْنِي نِصْفَ الْجَمَالِ الَّذِي وُزِّعَ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَفِي الرَّابِعَةِ رَأَى إِدْرِيسَ، وَفِي الْخَامِسَةِ رَأَى هَارُونَ، وَفِي السَّادِسَةِ رَأَى مُوسَى، وَفِي السَّابِعَةِ رَأَى إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ يُشْبِهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ. ثُمَّ رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَهِيَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَبِهَا مِنَ الْحُسْنِ مَا لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَصِفَهُ، مِنْ حُسْنِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ وَجَدَهَا يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْرَاقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَثِمَارُهَا كَالْقِلالِ، وَالْقِلالُ جَمْعُ قُلَّةٍ وَهِيَ الْجَرَّةُ الْعَظِيمَةُ، أَصْلُهَا فِي السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ وَإِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَارَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ وَحْدَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ الَّتِي تَنْسَخُ بِهَا الْمَلائِكَةُ فِي صُحُفِهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، ثُمَّ هُنَاكَ أَزَالَ اللَّهُ عَنْهُ الْحِجَابَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ كَلامِ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا فَأَسْمَعَهُ كَلامَهُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةً مَنَامِيَّةً، قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ وَلا يَسُوغُ تَأْوِيلُ النَّصِّ أَيْ إِخْرَاجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ كَمَا قَالَهُ الرَّازِيُّ فِي »الْمَحْصُولِ« وَغَيْرُهُ مِنَ الأُصُولِيِّينَ. وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ.

   الشَّرْحُ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلَى صُورَتِهِ الأَصْلِيَّةِ مَرَّةً أُخْرَى أَيْ مَرَّةً ثَانِيَةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهَذَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمِعْرَاجِ لِأَنَّ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى أَصْلُهَا فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ وَإِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْقُرْءَانَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْمِعْرَاجِ نَصًّا صَرِيحًا لا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلًا لِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَنْ أَنْكَرَ الإِسْرَاءَ كَفَرَ وَمَنْ أَنْكَرَ الْمِعْرَاجَ لا يَكْفُرُ، لِأَنَّ دَلِيلَ الْمِعْرَاجِ لَيْسَ كَدَلِيلِ الإِسْرَاءِ دَلِيلُ الإِسْرَاءِ أَقْوَى. فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ﴾ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رُؤْيَةً مَنَامِيَّةً، قُلْنَا: هَذَا تَأْوِيلٌ وَلا يَجُوزُ تَأْوِيلُ النَّصِّ أَيْ إِخْرَاجُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَاطِعٍ أَوْ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ، وَالسَّمْعِيُّ مَا كَانَ قُرْءَانًا أَوْ حَدِيثًا لِأَنَّ طَرِيقَهُ السَّمْعُ، أَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ فَيَكُونُ بِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ بِالْعَقْلِ. فَلا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُؤَوِّلَ ءَايَةً أَوْ حَدِيثًا إِلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ قَطْعِيٍّ أَوْ بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ ثَابِتٍ أَيْ صَحِيحٍ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ [وَهُوَ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ] وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ [أَيْ حَيْثُ يَصِلُ نَظَرُهُ يَضَعُ رِجْلَهُ، كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْ خَطَوَاتِهِ تَسَعُ إِلَى مَدِّ الْبَصَرِ، هَذَا أَمْرُ الْبُرَاقِ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ]، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلَقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ [أَيْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ اللَّذِيذِ الَّذِي لا يُسْكِرُ وَلا يُصْدِعُ الرَّأْسَ] وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ [أَيْ حَلِيبٍ] فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: »اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ« [أَيْ تَمَسَّكْتَ بِالدِّينِ] قَالَ: ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ… «إِلَى ءَاخِرِ الْحَدِيثِ.

وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً إِذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّهُ وَصَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ نَامَ.

أَمَّا رُؤْيَةُ النَّبِيِّ لِرَبِّهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: »رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ«، وَرَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ بِإِسْنَادٍ قَوِيٍّ: »رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ«، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِقَلْبِهِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم]، قَالَ: »رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ«.

تَنْبِيهٌ: قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ: »الصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَرَ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ«، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ إِذْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي وَلا أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ أَوْ أَتْبَاعِهِمْ قَالَ: رَءَاهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ.

   الشَّرْحُ اللَّهُ تَعَالَى أَزَالَ عَنْ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجَابَ فَرَأَى اللَّهَ تَعَالَى بِقَلْبِهِ أَيْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ قُوَّةَ الرُّؤْيَا وَالنَّظَرِ بِقَلْبِهِ، فَرَأَى الرَّسُولُ رَبَّهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ لِأَنَّ اللَّهَ لا يُرَى فِي الدُّنْيَا بِالْعَيْنِ وَلَوْ كَانَ يَرَاهُ أَحَدٌ بِالْعَيْنِ لَكَانَ رَءَاهُ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا« رَوَاهُ مُسْلِمٌ، كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى لِسَيِّدِنَا مُوسَى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ فَقَالَ: »سُبْحَانَ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي وَمَا رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي« وَهَذَا ضَعِيفٌ لَمْ يَثْبُتْ. وَقَالَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: »لا يُرَى الْبَاقِي بِالْعَيْنِ الْفَانِيَةِ وَإِنَّمَا يُرَى بِالْعَيْنِ الْبَاقِيَةِ فِي الآخِرَةِ« أَيْ أَنَّ عُيُونَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لا يَلْحَقُهَا الْفَنَاءُ لِأَنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ أَبَدَ الآبِدِينَ.

   وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ فَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَمَنْ قَالَهُ لا يُبَدَّعُ وَلا يُفَسَّقُ لِأَنَّهُ قَالَ بِهِ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ، فَمَنْ قَالَ بِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ: هَذَا الْقَوْلُ مَرْجُوحٌ وَالْقَوْلُ الرَّاجِحُ أَنَّهُ رَءَاهُ بِفُؤَادِهِ أَيْ بِقَلْبِهِ لا بِعَيْنَيْهِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: »رَءَاهُ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَرَهُ بِعَيْنِهِ«، وَنَحْنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.

   تَكْمِيلٌ حَدِيثُ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ صَحِيحٌ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ.