الأربعاء ديسمبر 4, 2024

قال الفقيه المحدّث الشيخ عبد الله الهرري الحبشي رحمه الله:

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم.

وبعد، فإن الله تعالى يقول: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر {110} [سورة ءال عمران].

 ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” رواه مسلم.

فإن الشرع الكريم دعانا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى إبطال الباطل وإحقاق الحق؛ ولقد كثر المفتون اليوم في الدين بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وزاد الانحراف وامتدّ، لذلك كان لا بدّ من تأليف مؤلَّف لبيان الحق من الباطل والصحيح من الزائف.

وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حذّر ممّن غشّ في الطعام، وثبت عنه أيضًا أنه قال في رجلين كانا يعيشان بين المسلمين: “ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا”.

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال للخطيب الذي قال: “مَن يُطع الله ورسوله فقد رَشد ومَن يعصهما فقد غوى”: “بئس الخطيبُ أنت” وذلك لأنه جمع بين الله والرسول بضمير واحد، فقال له: “قل: ومن يعص الله ورسوله” فلم يسكت عن هذا الأمر الخفيف الذي ليس فيه كفر وإشراك، فكيف يسكت عمن يحرّف الدين وينشر ذلك بين الناس، فهذا أجدر بالتحذير والتنفير منه.

وليس ذِكرنا لبعض المنحرفين في هذا الكتاب من الغيبة المحرّمة إنما هو من التحذير الواجب، فقد ثبت أن فاطمة بنت قيس قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله إنه خطبني معاوية وأبو جهم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة”. فإذا كان الرسول حذّر فاطمة منهما وذكرهما في خلفهما بما يكرهان لهذين السببين، أحدهما: كَوْن معاوية شديد الفقر لا يقوم بحاجتها بأمر النفقة، والثاني: أن أبا جهْم يُكثر ضرب النساء. فكيف أُناس ادعوا العلم وغشّوا الناس وجعلوا الكفر إسلامًا. ولهذا حذّر الشافعي من حفص الفرد أمام جمع وقال له: “لقد كفرت بالله العظيم”. وقال في معاصِرِه حرام بن عثمان – وكان يروي الحديث ويكذب -: “الروايةُ عن حرام حرام”. وقد جرح الإمام مالك في بلديّه ومعاصِرِه محمد بن إسحق صاحب كتاب المغازي فقال فيه: “كذّاب”. وقال الإمام أحمد: “الواقدي ركن الكذب”.

وقد جرت عادة الفقهاء على تغليط بعضهم بعضًا إذا غلط، حتى إن إمام الحرمين غلّط أباه في غير مسألة، وأبوه من كبار أصحاب الوجوه في مذهب الإمام الشافعي، وهي الطبقة التي تلي الشافعي، ذكر ذلك في طبقات الشافعية منقولا من مختصر الأسدي. والغرض من ذلك كله حفظ الشريعة، لأنه لولا تجنّب الرواة الذين لا يستحقون أن يُروى عنهم لضاع الدين.

ثم اعلم أن العمدة عند أهل الجرح والتعديل كلام المعاصر في معاصِرِه، أما قول بعض الناس: لا يقبل قول العلماء المتعاصرين بعضهم في بعض، فهو مردود لأن المعتمد في الجرح والتعديل معاصر الراوي، فإنه إن لم يقبل قول الثقة الذي عرف خبر الراوي وعرف حاله فزكّاه أو جرحه فكيف يكون كلام مَن بعد عصره مقبولا؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الخبر كالعيان”. ومن أين يُعرف حال الراوي فيُزكى أو يُجرح إذا لم يؤخذ من معاصِرِه الذي خالطه واجتمع به.

فيا للعجب كيف راجت هذه المقالة الشنيعة عند أولئك، وأشنع منها قول: “إن العلماء يغار بعضهم من بعض كالتيوس”.