الأحد ديسمبر 22, 2024

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.

 

وبعد، فإن الله تعالى يقول: {كنتم خيرَ أمةٍ أُخرِجَت للناسِ تأمرونَ بالمعروفِ وتنهونَ عن المنكر} [سورة ءال عمران/110].

 

وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [1]: “من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”.

 

دعانا الشرع الكريم إلى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى إبطال الباطل وإحقاق الحق، ولقد كثر المفتون اليوم في الدين بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، وزاد الانحراف وامتدّ، لذلك كان لا بد من تأليف مؤلف لبيان الحق من الباطل والصحيح من الزائف.

 

وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حذّر ممّن غشّ في الطعام [2]، وثبت عنه أيضًا أنه قال في رجلين كانا يعيشان بين المسلمين: “ما أظن فلانًا وفلانًا يعرفان من ديننا شيئًا” [3].

 

وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال للخطيب الذي قال: “مَن يُطع الله ورسوله فقد رشد ومَن يعصهما فقد غوى”: “بِئسَ الخطيبُ أنت” [4] وذلك لأنه جمع بين الله والرسول بضمير واحد، فقال له: “قل: ومن يعص الله ورسوله” فلم يسكت عن هذا الأمر الخفيف الذي ليس فيه كفر وإشراك وإنما هو مكروه، فكيف يسكت عمن يحرف الدين وينشر ذلك بين الناس، فهذا أجدر بالتحذير والتنفير منه.

 

وليس ذكرنا لبعض المنحرفين في هذا الكتاب من الغيبة المحرّمة إنما هو من التحذير الواجب، فقد ثبت أن فاطمة بنت قيس قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا رسول الله إنه خطبني معاوية وأبو جهم”، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة” [5]. فإذا كان الرسول حذّر فاطمة من الزواج بهما لسبب خفيف وذكرهما في خلفهما بما يكرهان لهذين السببين أحدهما: كَوْن معاوية شديد الفقر لا يقوم بحاجتها بأمر النفقة، والثاني: أن أبا جهم يُكثر ضرب النساء فكيف أناس ادعوا العلم وغشوا الناس وجعلوا الكفر إسلامًا. ولهذا حذّر الشافعي من حفص الفرد أمام جمع وقال له: “لقد كفرت بالله العظيم” [6]، وقال في معاصره حرام بن عثمان –وكان يروي الحديث ويكذب-: “الروايةُ عن حرام حرام” [7].

 

وقد جرح الإمام ملك في بلديّه ومعاصره محمد بن أسحاق صاحب كتاب المغازي فقال فيه: “كذّاب”، وقال الإمام أحمد: “الواقدي ركن الكذب”.

 

قال أبو حاتم البُستي [8]: “فهؤلاء أئمة المسلمين وأهل الورع في الدين أباحوا القدح في المحدثين وبيّنوا الضعفاء والمتروكين، وأخبروا أن السكوت عنه ليس مما يحلّ، وأن إبداءه أفضل من الإغضاء عنه، وقد تقدمهم فيه أئمة قبلهم ذكروا بعضهم، وحثوا على أخذ العلم من أهله” اهـ.

 

وقد جرت عادة الفقهاء على تغليط بعضهم بعضًا إذا غلط، حتى إن إمام الحرمين غلّط أباه في غير مسألة، وأبو من كبار أصحاب الوجوه في مذهب الإمام الشافعي وهي الطبقة التي تلي الشافعية، ذكر ذلك في طبقات الشافعية منقولاً من مختصر الأسدي [9]. والغرض من ذلك كله حفظ الشريعة، لأنه لولا تجنب الرواة الذين لا يستحقون أن يُروى عنهم لضاع الدين.

 

ثم اعلم أن العمدة عند أهل الجرح والتعديل [10] كلام المعاصر في معاصره، أما قول بعض الناس: “لا يُقبل قول العلماء المتعاصرين بعضهم في بعض”، فهو مردود لأن المعتمد في الجرح والتعديل معاصر الراوي، فإنه إن لم يقبل قول الثقة الذي عرف خبر الراوي وعرف حاله فزكّاه أو جرحه فكيف يكون كلام مَن بعد عصره مقبولاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الخبر كالعيان” [11]، ومن أين يُعرف حال الراوي فيُزكى أو يُجرح إذا لم يؤخذ من معاصره الذي خالطه واجتمع به.

 

فيا للعجب كيف راجت هذه المقالة الشنيعة عند أولئك، وأشنع منها قول: “إن العلماء يغار بعضهم من بعض كالتيوس”.

 

فعملاً بالنصيحة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها في حديثه [12]: “الدين النصيحة” قيل: لمن؟ قال: “لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم” فإننا نحذر من كتب، ومن بعض ما في كتب، ومن ألفاظ شنيعة شائعة على ألسنة الناس.

 

تنبيه: إن ما سنذكره في هذا الكتاب في بيان بعض الأقوال الكفرية ومن تعدادها بالعامية فإن ذل لمسيس الحاجة حيث إنه كثر استعمالها بين كثير من الناس فوجب علينا تحذيرهم بالنص عليها، وهذه التحذيرات يراد منها مما هو كفر وردة إن صدرت من مسلم ومنها ما هو دون الكفر، فما كان من نوع الكفر يجب الرجوع عنها والتشهد ولا يجوز أن يقال: “أستغفر الله” قبل الشهادة فقد روى ابن حبان وصححه [13] أن رجلاً من المشركين جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد عبد المطلب خير منك لقومه كان يطعمهم الكبد والسنام وأنت تنحرهم فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بما شاء الله، ثم قال الرجل: يا محمد علمني شيئًا أقوله فقال صلى الله عليه وسلم: “قل: اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري” ثم انصرف الرجل ثم عاد وقد أسلم فرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كنتُ قلت لك علمني ما أقول فعلمتني “اللهم قني شر نفسي واعزم لي على أرشد أمري” والآن حين أسلمت ماذا أقول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “قل: اللهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت وما عمدت وما جهلت”.

 

والدليل في هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلمه الاستغفار اللفظي إلا بعد أن أسلم ولو كان ينفعه قبل إسلامه كان علمه، بل مَن وقع في الكفر إذا قال: “أستغفر الله” بنية الرجوع عن كفره قبل الشهادة زاد كفرًا لأن القرءان أخبر أن الله لا يغفر للكافر وهو على كفره، فالذي يطلب المغفرة قبل أن يعود إلى الإسلام يكون كذب الله تعالى، فليحذر ولينشر هذا للجاهلين لأنهم كثيرًا ما يكفرون كأن تضايق أحدهم من شخص أو من غير ذلك فيشتم الخالق والعياذ بالله تعالى أو يتلفظ بكلام يشبه هذا من الكفر ثم يقول بعض الناس له: “هذا كفر” فيقول: “أستغفر الله” ويكتفي بذلك، وبعض الناس يسبقونه فيقولون له في أول الأمر لما يسمعون منه الكفر: “استغفر ربك هذا كفر”، فهذا الذي قال له: “استغفر ربك” إن كان مراده قل: “استغفر الله” يكون مثل الأول، وإن كان أراد ارجع عن الكفر وتشهد فيغفر الله لك كفرك بهذه الشهادة لا يكفر.

 

فإن قيل: أليس ورد في القرءان أن نوحًا عليه السلام قال لقومه عبّاد الأوثان: {فقُلتُ استغفروا ربكم إنهُ كانَ غفَّارًا} فالجواب: أن قول نوح: “استغفروا ربكم” ليس معناه قولوا أستغفر الله إنما معناه اطلبوا المغفرة من الله بالدخول في الإسلام.

 

الهوامش:

 

[1] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان.

[2] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من غشنا فليس منا”.

[3] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الادب: باب ما يجوز من الظن.

[4] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة.

[5] رواه مسلم في صحيحه: كتاب الطلاق: باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، ورواه أحمد في مسنده [6/412].

[6] مناقب الشافعي للبيهقي [1/407].

[7] مع أنه لم يثبت منه في مروياته ما يؤدي إلى كفر.

[8] المجروحين [1/21].

[9] هذا الكتاب مخطوط.

[10] علم الجرح والتعديل: “هو علم يبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة، وعن مراتب تلك الألفاظ، وهذا العلم من فروع علم رجال الحديث، والكلام في الرجال جرحًا وتعديلاً ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عن كثير من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، جوّز ذلك تورعًا وصونًا للشريعة. وكما جاز الجرح في الشهود جاز في الرواة. والتثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال، فلهذا افترضوا على أنفسهم الكلام في ذلك. وأول من جمع في ذلك الإمام يحيى بن سعيد القطان، وتكلم فيه بعده تلامذته يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وعمرو بن علي الفلاس، وتلامذتهم كأبي زرعة الدمشقي، وأبي حاتم، والبخاري، ومسلم، والجوزجاني، والنسائي، وابن خزيمة، والترمذي، والدولابي، وابن عدي، والأزدي، والدارقطني، والحاكم وغيرهم. وقد صُنفت فيه مصنفات عديدة من أشهرها كتاب الجرح والتعديل للرازي، ولسان الميزان للحافظ ابن حجر العسقلاني”.

[11] أخرجه الإمام أحمد في مسنده [1/215/271]، وعزاه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [1/111]، والطبراني في الكبير [12/54]، وعزاه الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [1/153] للطبراني في الاوسط وقال: “ورجاله رجال الصحيح”، وأخرجه الحاكم في المستدرك [2/321]، وقال: “هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه” وأقره الذهبي، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان [8/32 ،33].

[12] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الإٍيمان: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة”، ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان: باب بيان أن الدين النصيحة، والترمذي في سننه: كتاب البر والصلة: باب ما جاء في النصيحة، وأحمد في مسنده [2/297].

[13] أخرجه ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان [2/128-129].