الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمَيِنَ وَصَلَّى الله عَلَى سَيّـِدِنا مُحَمَّدٍ وَسَلَّم. أَسْأَلُ الله أَنْ يَجْعَلَ نِيَّاتِنَا خَالِصَةً له سبحانه وَأَنْ يُيَسّـِرِ لَنَا سُبُلَ الخَيْرِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الفَهْمَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الإِخْلاَصِ والتقوى والنّجَاةِ يَومَ القِيَامَةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا هُدَاةً مَهْدِيِين يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَـنَهُ.
وبعد فهذه سلسلة من الدروس عُمِلت لِغَرَضِ تَعْلِيمِ طَالِبِ الْعِلْمِ الفَرْضَ العَيْنِىَّ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ، وذلك أَنَّ هُنَاكَ قَدْرًا مِنْ عِلْمِ الدِّينِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَعْرِفَتُهُ. فَمَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْهُ لَا يَضْمَنُ صِحَّةَ صَلَاتِه وَلَا صِحَّةَ طَهَارَتِهِ وَلَا صِحَّةَ صِيَامِهِ وَلَا صِحَّةَ زَكَاتِهِ، ولَا يَضْمَنُ أَنَّهُ مُتَجَنّـِبٌ بِيَدِهِ وَرِجْلِهِ وَعَيْنِهِ وَأُذُنِهِ وَلِسَانِهِ وَبَطْنِهِ وَفَرْجِهِ الْمَعَاصِىَ الَّتِى نَهَى اللهُ عَنْهَا. فإنَّ الإِنْسَـانَ إِذَا أَرَادَ حَقِيقَةً أَنْ يَتَّبِعَ رَسُولَ الله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّمَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ وَأَنْ يَعْمَلَ بِهِ. وها نحن نقدم لكم هذا القدر من العلم مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ، لأَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ شَأْنُهُ أَنْ يَتَأَنَّى فِى تَلَقّـِى الْمَعْلُومَاتِ الشَّرْعِيَّةِ. لِذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِىُّ رَضِىَ الله عَنْهُ وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ: مَنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ جُمْلَةً فَاتَهُ جُمْلَةً. رَوَاهُ الْخَطِيبُ فِى الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقّـِهِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ كُنْ مُتَأَنّـِيًا لَمَّا تَتَلَقَّى الْعِلْمَ حَتَّى يَرْسَخَ فِى قَلْبِكَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّكَ الإِكْثَارَ مِنَ السَّمَاعِ مِنْ غَيْرِ رُسُوخِ الفَهْمِ. لِذَلِكَ جرت عَادَةُ العُلَمَاءِ أَنْ يَشْرَحُوا أَوَّلًا لِلطَّالِبِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ حَتَّى يَرْسَخَ فِى قَلْبِهِ مَا سَمِعِ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرُوا كَثِيرًا مِنَ الاسْتِـثْنَاءَاتِ، وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرُوا أَحْيَاناً كُلَّ الْقُيُودِ الْمُتَعَلّـِقَةِ بِالْمَسْئَلَةِ، ثُمَّ فِى مَرَّةٍ ثَانِيَةٍ إِنْ رَأَوْا مِنْهُ الْفَهْمَ يُفَصّـِلُونَ لَهُ أَكْثَرَ بِحَسَبِ مَا يَرَونَ مِنْ قَابِلِيَّتـِهِ وَاهْتِمَامِهِ ، وَهَكَذَا.
وَلِيُعْلَمْ أَنَّ طَلَبَ العِلْمِ فِيهِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، يَكْفِى فِى ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: “مَنْ خَرَجَ فِى طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِى سَبِيْلِ الله حَتَّى يَرْجِعَ”، رَوَاهُ التّرْمذِىُّ. يَعْنِى يَكُونُ لَهُ ثَوَابٌ مِثلُ ثَوَابِ المُجَاهِدِ فِى سَبِيلِ الله. وَالْمُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ الله مَعْلُومٌ ثَوَابُهُ، فِى الْجَنَّةِ مِائَةُ دَرَجَةٍ أُعِدَّتْ لِلْمُجَاهِدِينَ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. فَالَّذِى يَخْرُجُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ يَكُونُ ثَوابُهُ مِثْلَ ثَوَابِ المُجَاهِدِينَ، و ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ الدِّينِ هُوَ السّـِلَاحُ الَّذِى يُدَافِعُ بِهِ الْمُؤْمِنُ شَيَاطِينَ الجِنِّ وَشَيَاطِينَ الإِنْسِ وَيُدَافِعُ بِهِ هَوَاهُ. يَسَّرَ اللهُ لَنَا جميعًا الانْتِفَاعَ بِذَلِكَ.