الإثنين ديسمبر 8, 2025

 

معنَى الإجماعِ وحُجِّيَّتُه وبَيانُ كَيفِيّةِ انعِقادِه

اعلم أنّ الإجماع لغةً يطلِق بمعنيين: أحدُهما العَزمُ علَى الشّيء، والثّاني الاتّفاقُ، وأمّا اصطِلاحًا فاتّفِاق أهل الحَلّ والعَقدِ – وهم مُجتَهِدُو أمّةِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم – في عَصرٍ مِن العُصورِ على أمرٍ دِينِيّ.

          ودليلُ حُجِّيّةِ الإجماعِ قولُ اللهِ تعالَى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]؛ ووَجهُ الحُجّة أنّه تَعالَى جَمَعَ بَينَ مُشاقّةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم واتِّباعِ غَيرِ سَبِيلِ الـمُؤمنِين في الوَعِيد في قَولِهِ: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ} فيَلزَم تَحرِيمُ اتِّباعِ غَيرِ سَبِيل المؤمنِين لأنّه لَو لَم يَكُن حَرامًا لَما جَمَعَ بَينَه وبينَ الـمُحرَّم الّذي هو مُشاقّةُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، لأنّ الجَمعَ بَينَ حَرامٍ ونَقِيضِه لا يَحسُن في وَعِيدٍ، فدَلّ ذلكَ علَى أنّ اتِباعَ غَيرِ سَبِيلِهم حَرامٌ، وإذا حَرُم اتِّباعُ غَيرِ سَبِيلِهم كان اتِّباعُ سَبِيلِهم واجِبًا، إذْ لا واسِطةَ بَين السَّبِيلَين، وإنْ ثَبَتَ وُجوبُ اتِّباعِ سَبِيلِهم ثَبَتَتْ حُجِّيّةُ الإجماعِ.

فإذا اتَّفَق الـمُجتهِدُون في عَصرٍ على شيءٍ فهو إِجماعٌ وحُجّةٌ، فلا يَصِحُّ أنْ يأتِيَ بَعدَهم مَن يَنقُض ما اتَّفَق عليه السّابِقُون.

وقد ادَّعَى بعضُ الـمَلاحِدة أنّ هذا الدِّين كَثِيرُ الاختِلاف لا يَصلُح اتِّباعُه ولا يُعرَف الصّوابُ مِنه، فرَدَّ علَيهِم الفُحُول مِن العُلماءِ كأبي إسحاق الإسفرايينيّ فقال: «نحنُ نَعلَم أنّ مسائِلَ الإجماعِ أكثَرُ مِن عشرِين ألفَ مَسألةٍ، وبهذا يُرَدّ قولُ الـمُلحِدة: إنّ هذا الدِّينَ كَثِيرُ الاختِلافِ إذْ لَو كان حقًّا لما اختَلَفُوا فيه. فنَقُول: أخطَأتَ، بل مَسائِلُ الإجماعِ أكثَرُ مِن عِشرِينَ ألفَ مَسألةٍ، ثُمّ لَها مِن الفُروعِ الّتي يَقَعُ الاتِّفاقُ مِنها وعلَيها وهي صادِرةٌ عن مَسائِل الإجماعِ الّتي هي أصُولُ أكثَر مِن مائةِ ألفِ مَسألةٍ»، ذكَره في «شَرح التّرتيب» نقلَه عنه الزّركَشيُّ([1]).

 

 

([1]) البحر الـمُحِيط في أصول الفقه، بدر الدّين الزَّركَشّيِ، (6/384).