معنى قول الله تعالى (الرحمن على العرش استوى)
قال بعض أئمة أهل السنة والجماعة وبعض كبار اللغويين كالسبكي وابن الحاجب وغيرهما أن معنى استوى هنا قهر العرش وحفظه مكانه، الله تعالى بقدرته يمنع العرش وهو أكبر المخلوقات من الهُويّ والإطباق على هذه الأرض، والقهر هو أشرف معاني الاستواء إذ الاستواء لغة له خمسة عشر معنى كما قال الحافظ الكبير أبو بكر بن العربي المالكي.
العرش محمول، الملائكة يحملونه، الله منزه عن أن يكون محمولاً، الله تعالى منزه عن الجلوس والاستقرار والحلول في الأماكن والجهات، وهو سبحانه كان قبلها كلها وهو تعالى خالق كل شيء، وقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه (يكفر من اعتقد أن الله جالس على العرش) روى ذلك عنه القاضي حسين أحد أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي ذكر ذلك ابن المعلم القرشي في كتاب نجم المهتدي ورجم المعتدي، فمن اعتقد في الله الجلوس أو الاستقرار أو القيام أو القعود أو الحركة أو السكون فهو مشبه لله بخلقه، المشبّه لا يصح إسلامه ولا تصح الصلاة خلفه ولو قال الشهادتين ألف مرة، إلا بعد تشهده ويكون بعد أن رجع عن هذا الإعتقاد الفاسد، والقاعدة عند أهل السنة والجماعة أن الله لا يشبه شيئا ولا يشبهه شىء، ومن قال الله جالس جعل الله محتاجاً للمجلوس عليه، ومن جعل الله محتاجاً أو متشرفاً بشيء من خلقه كالعرش فهذا لا يعرف الاسلام ما هو.
وفي الجامع لمسائل المدونة للإمام الكبير أبي بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصقلي المالكي وهو من أصحاب الوجوه (المتوفى 451 هـ) كتاب المحاربين والمرتدين، الباب الخامس، جامع القول في أهل الأهواء ومجانبتهم وترك جدالهم والقول في القدر والاستواء على العرش والأسماء والصفات (قال سحنون أخبرني بعض أصحاب مالك أنه كان عند مالك جالساً فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله مسألة، فسكت عنه، ثم قال مسألة، فسكت عنه، ثم أعاد عليه، فرفع فيه رأسه كالمجيب له، فقال له السائل (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كيف كان استواؤه؟ قال فطأطأ مالك رأسه ساعة ثم رفعه فقال سألت عن غير مجهول، وتكلمت في غير معقول، ولا أراك إلا امرئ سوء، أخرجوه).
وفي الباب السابع، باب في التوحيد والأسماء والصفات وسائر الاعتقادات، فصل في الاستواء (قال القاضي رضي الله عنه وأنه سبحانه مستو على عرشه كما قال عز وجل (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) بغير مماسة ولا كيفية ولا مجاورة).
وقال الإمام أبو المظفر الأسفرايني (ت 471 هـ) في كتابه التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين في بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة (وأن تعلم أنه لا يجوز عليه الكيفية والكمية والأينية، لأن من لا مثل له لا يمكن أن يقال فيه كيف هو، ومن لا عدد له لا يقال فيه كم هو، ومن لا أول له لا يقال له مم كان، ومن لا مكان له لا يقال فيه أين كان، وقد ذكرنا من كتاب الله تعالى ما يدل على التوحيد ونفي التشبيه ونفي المكان والجهة ونفي الابتداء والأولية، وقد جاء فيه عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أشفى البيان حين قيل له أين الله؟ فقال إن الذي أين الأين لا يقال له أين، فقيل له كيف الله؟ فقال إن الذي كيف الكيف لا يقال له كيف) فتبين أن مراد السلف بِلا كيفية نفي الجلوس والاستقرار والحركة والأعضاء ونحو ذلك مما هو من صفات الأجسام ولا يقصدون أن استواءه على العرش وإتيانه له كيفية لا نعلمها نحن، والله يعلمها، بل المراد نفي الكيفية عنه ألبتّة.
وقال المفتي المالكي العلامة الفقيه أحمد بن محمد بن عبد الله المُكنِي الطرابلسي (1) (ت 1101 ھ) مفتي طرابلس الغرب ليبيا ووالده وجده كذلك، في مقدمة كتابه وهو مخطوط شُكر المنّه في نصر السُّنّة ذَكر عقيدة أهل السنة وبدأها بقوله عقيدة أهل السنة على سبيل الاختصار من كلام العلماء الأخيار، قال فيها في تنزيه الله تعالى ما نصه (لا يحُده المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه الأرض ولا السماوات، وقال أيضًا تعالى أن يحويه مكان، وتقدس أن يحده زمان، بل كان قبل أن يخلق المكان والزمان) وبعد أن سرد هذه العقيدة قال ما نصه (فمن اعتقد جميع هذا كان من أهل الحق والسُنة وخالف أهل الضلال والبدعة).
وقال قاضي الصحراء أبو بكر (2) محمد بن الحسن المُرادي الحضرمي القيرواني ثم الموريتاني (ت 489 ھ) في عقيدته ما نصه (اعلم أنه لا يُسأل (عنه) سبحانه بكيف (لأنه لا مثل له) ولا بما (لأنه لا جنس له) ولا بمتى (لأنه لا زمان له) ولا بأين (لأنه لا مكان له).
وقال الشيخ أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد الوغليسي (3) المالكي البجائي الجزائري (المتوفى سنة 768 هـ) في مقدمته (المقدمة الوغليسية) قال في تنزيه الله تعالى ما نصه (ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، منزه عن التركيبات والتحديدات والتقديرات وعن صفات المتحيزات ولواحق المحدثات، وهو خالق الموجودات وما يجري عليها من التبديلات والتغييرات، واحد لا شريك له (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير).
(1) المكنى أحْمَد بن مُحَمَّد الطرابلسي المغربي الْمُفْتى المالكى الزَّاهِد يعرف بالمكنى ولد سنة 1042 وَتوفى فِي حُدُود سنة 1100 مائَة وألف صنف شكر المنة فِي نصر السّنة.
(2) في القرن الخامس الهجري ولد القاضي المُرادي في القيروان وتلقى تعليمه الأولي فيها ثم دخل بلاد الأندلس وانتقل في زمن دولة المرابطين إلى آزوكي في صحراء موريتانيا حيث تولى القضاء وعُرف بقاضي الصحراء كان رجلا نبيها عالما وإماما في أصول الدين وكانت وفاته في هذه المدينة سنة 489 ھ، وقبره فيها يزار إلى الآن.
(3) اعتنى أهل العلم بكتاب المقدمة الوغليسية فتجلى ذلك في ما سجَّلته كتب التراجم والفهارس من شروح عليها حيث تهافت العلماء لشرحها مما ساعد على شهرتها وانتشارها وكانت وفاة الشيخ أبي زيد الوغليسي في سنة 786 هـ وقد تم دفنه في بجاية في الجزائر ومن تلاميذه الشيخ عبد الرحمن الثعالبي صاحب الجواهر الحسان في تفسير القرآن رحمهما الله ونفعنا ببركاتهم ءامين.
أماتنا الله على عقيدة الأنبياء وحشرنا معهم وجمعنا مع سيّد الأوّلين والآخرين في جنّات النّعيم.