الإثنين ديسمبر 8, 2025
  • معنى القدر والإيمان به (2)

     

    الخطبة الأولى:

     

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا كيف ولا شكل ولا صورة  ولا هيئة ولا مكان له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة صلى الله عليه وسلم وعلى كل رسول أرسله .

     

    أما بعد،

    عباد الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي القدير، يقول الله سبحانه وتعالى:] ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها [ [سورة الشمس/7/8].

     

    روى مسلم في صحيحه والبيهقي في كتاب القدر عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عمران ابن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشىء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شىء قضي عليهم ومضى عليهم، قال فقال: أفلا يكون ظلما، قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت: كل شىء خلقه وملك يده لا يسئل عما يفعل وهم يسألون، قال: فقال لي: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: بل شىء قضي عليهم ومضى عليهم، ومصداق ذلك قول الله تبارك وتعالى:        ] ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها [ [سورة الشمس/7/8].

              وصح حديث: “فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه” رواه مسلم من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ عن الله عز وجل.

              أما الأول: هو من وجد خيرا فلأن الله تعالى متفضل عليه بالإيجاد والتوفيق من غير وجوب عليه، فليحمد العبد ربه على تفضله عليه.

              أما الثاني: وهو من وجد شرا فلأنه تعالى أبرز بقدرته ما كان من ميل العبد السيء فمن أضله الله فبعدله ومن هداه فبفضله.

              ولو أن الله خلق الخلق وأدخل فريقا الجنة وفريقا النار لسابق علمه أنهم لا يؤمنون لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله بقوله: ] ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع ءاياتك من قبل أن نذل ونخزى [ [سورة طه/134].

              فأرسل الله الرسل مبشرين ومنذرين ليظهر ما في استعداد العبد من الطوع والإباء فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.

              فأخبرنا أن قسما من خلقه مصيرهم النار بأعمالهم التي يعملون باختيارهم، وكان تعالى عالما بعلمه الأزلي أنهم لا يؤمنون.

              قال تعالى: ] ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ [سورة السجدة/13] أخبر الله  تعالى في هذه الآية أنه قال في الأزل: ]لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [وقوله صدق لا يتخلف لأن التخلف أي التغير كذب والكذب محال على الله.

              قال تعالى: ] قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ [سورة الأنعام/149] أي ولكنه لم يشأ هداية جميعكم إذ لم يسبق العلم بذلك.

              فالعباد منساقون إلى فعل ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر.

              واعلم أن ما ذكرناه من أمر القدر ليس من الخوض الذي نهى النبي ﷺ عنه بقوله: “إذا ذكر القدر فأمسكوا” رواه الطبراني، لأن هذا تفسير للقدر الذي ورد به النص، وأما المنهي عنه فهو الخوض فيه للوصول على سره، فقد روى الشافعي والحافظ ابن عساكر عن علي رضي الله عنه أنه قال للسائل عن القدر: “سر الله فلا تتكلف”، فلما ألح عليه قال له: “أما إذ أبيت فإنه أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض”.

             

              واعلم أيضا أن رسول الله ﷺ قد ذم القدرية وهم فرق، فمنهم من يقول: العبد خالق لجميع فعله الاختياري، ومنهم من يقول هو خالق الشر دون الخير وكلا الفريقين كفار، قال رسول الله ﷺ : “القدرية مجوس هذه الأمة”(1)  وفي رواية لهذا الحديث: “لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر” رواه أبو دود عن حذيفة عن النبي ﷺ.

              وفي كتاب “القدر” للبيهقي وكتاب”تهذيب الآثار” للإمام ابن جرير الطبري رحمهما الله تعالى عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: “صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام القدرية والمرجئة”(2) فالمعتزلة هم القدرية لأنهم جعلوا الله والعبد سواسية بنفي القدرة عنه عز وجل على ما يقدر عليه عبده، فكأنهم يثبتون خالقين في الحقيقة كما أثبت المجوس خالقين خالقا للخير هو عندهم النور وخالقا للشر هو عندهم الظلام.

     

              والهداية على وجهين، أحدهما: إبانة الحق والدعاء إليه، ونصب الأدلة عليه، وعلى هذا الوجه يصح إضافة الهداية إلى الرسل وإلى كل داع لله. كقوله تعالى في رسوله محمد ﷺ: ] وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ [سورة الشورى 52]. وقوله تعالى: ] وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [ [سورة فصلت/17].

              والثاني: من جهة هداية الله تعالى لعباده، أي خلق الاهتداء في قلوبهم كقوله تعالى: ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا [ [سورة الأنعام/125]، والإضلال خلق الضلال في قلوب أهل الضلال. فالعباد مشيئتهم تابعة لمشيئة الله قال تعالى: ] وما تشآءون إلا أن يشاء الله [ [سورة الإنسان/30].

              وهذه الآية من أوضح الأدلة على ضلال الذين يقولون إن شاء العبد الهداية يهديه الله وإن شاء العبد الضلال يضله الله، فماذا يقولون في هذه الآية: ] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ [سورة الأنعام/125] فإنها صريحة في سبق مشيئة الله على مشيئة العبد لأن الله نسب المشيئة إليه وما ردها إلى العباد. فأولئك كأنهم قالوا من يرد العبد أن يشرح صدره للإسلام يشرح الله صدره، ثم قوله: ]ومن يرد أن يضله [ [سورة الأنعام/125] فلا يمكن أن يرجع الضمير في يرد أن يضله إلى العبد لأن هذا يجعل القرءان ركيكا ضعيف العبارة والقرءان أعلى البلاغة لا يوجد فوقه بلاغة، فبان بذلك جهلهم العميق وغباوتهم الشديدة. وعلى موجب كلامهم يكون معنى الآية ]فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ [سورة الأنعام/125] أن العبد الذي يريد أن يهديه الله يشرح الله صدره للهدى وهذا عكس اللفظ الذي أنزله الله وهكذا كان اللازم على موجب اعتقادهم أن يقول الله والعبد الذي يريد أن يضله الله يجعل صدره ضيقا حرجا، وهذا تحريف للقرءان لإخراجه عن أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرءان وفهم الصحابة القرءان على موجبها، والدليل على أنهم يفهمون القرءان على خلاف ما تفهمه هذه الفرقة اتفاق المسلمين سلفهم وخلفهم على قولهم : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

     

    هذا وأستغفر الله لي ولكم.

     

    الخطبة الثانية

     

              إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يـهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله.

             

    أما بعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم.

             

    يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ] يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم ، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ [سورة الحج/1/2].    

     

    واعلموا أن الله أمركم بأمر عظيم أمركم بالصلاة على نبيه الكريم فقال: ] إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [ [سورة الأحزاب/56] اللهم صل على محمد وعلى ءال محمد كما صليت على إبراهيم وعلى ءال إبراهيم وبارك على محمد وعلى ءال محمد كما باركت على إبراهيم وعلى ءال إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنا دعوناك فاستجب لنا دعاءنا فاغفر اللهم لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين اللهم استر عوراتنا وءامن روعاتنا واكفنا ما أهمنا وقنا شر ما نتخوف.

     

              عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.

     

    اذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه يزدكم، واستغفروه يغفر لكم واتقوه يجعل لكم من أمركم مخرجا، وأقم الصلاة.

     

    (1) رواه  من حديث ابن عمر أبو داود وغيره.

    (2) المرجئة هم طائفة انتسبوا للإسلام كانوا يعتقدون أن العبد المؤمن مهما عمل من الكبائر ومات بلا توبة ليس عليه عذاب.