معنى القدر والإيمان به
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا كيف ولا شكل ولا صورة ولا هيئة ولا مكان له، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمدا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة صلى الله عليه وسلم وعلى كل رسول أرسله .
أما بعد،
عباد الله فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي القدير، يقول الله سبحانه وتعالى: ] ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ [سورة السجدة/13].
قال بعض العلماء: القدر هو تدبير الأشياء على وجه مطابق لعلم الله الأزلي ومشيئته الأزلية فيوجدها في الوقت الذي علم أنها تكون فيه. فيدخل في ذلك عمل العبد الخير والشر باختياره. ويدل عليه قول رسول الله إلى جبريل حين سأله عن الإيمان: “الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره” رواه مسلم. ومعناه: أن المخلوقات التي قدرها الله تعالى وفيها الخير والشر وجدت بتقدير الله الأزلي، وأما تقدير الله الذي هو صفة ذاته فهو لا يوصف بالشر بل تقدير الله للشر الكفر والمعصية وتقديره للإيمان والطاعة حسن منه ليس قبيحا.
فإرادة الله تعالى نافذة في جميع مراداته على حسب علمه بها.
فما علم كونه أراد كونه في الوقت الذي يكون فيه، وما علم أنه لا يكون لم يرد أن يكون. فلا يحدث في العالم شىء إلا بمشيئته ولا يصيب العبد شىء من الخير أو الشر أو الصحة أو المرض أو الفقر أو الغنى أو غير ذلك إلا بمشيئة الله تعالى، ولا يخطئ العبد شىء قدر الله وشاء أن يصيبه، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بعض بناته: “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن” رواه أبو داود في السنن ثم تواتر واستفاض بين أفراد الأمة.
وروى البيهقي رحمه الله تعالى عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: “إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينا غير شك أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويقر بالقدر كله”. أي لا يجوز أن يؤمن ببعض القدر ويكفر ببعض.
وروى أيضا بالإسناد الصحيح أن عمر بن الخطاب كان بالجابية – وهي أرض من الشام – فقام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ” من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له”، وكان عنده كافر من كفار العجم من أهل الذمة فقال بلغته: “إن الله لا يضل أحدا”، فقال عمر للترجمان: “ماذا يقول”؟ قال: إنه يقول: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر: “كذبت يا عدو الله ولولا أنك من أهل الذمة لضربت عنقك هو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء”.
وروى الحافظ أبو نعيم عن ابن أخي الزهري عن عمه الزهري أن عمر كان يحب قصيدة لبيد بن ربيعة التي منها هذه الأبيات، وهي:
إن تقوى ربنا خير نفل | وبإذن الله ريثي وعجل |
أحمـد الله فلا نـد له | بيديه الخير ما شاء فعل |
من هداه سبل الخير اهتدى | ناعم البال ومن شاء أضل |
ومعنى قوله: “إن تقوى ربنا خير نفل”، أي خير ما يعطاه الإنسان. ومعنى قوله: “وبإذن الله ريثي وعجل”، أي أنه لا يبطئ مبطئ ولا يسرع مسرع إلا بمشيئة الله وبإذنه. وقوله: “أحمد الله فلا ند له”، أي لا مثل له. وقوله: “بيديه الخير”، أي والشر. وإنما اقتصر على ذكر الخير من باب الاكتفاء كقوله تعالى: ] سرابيل تقيكم الحر[ [سورة النحل /81]، أي والبرد لأن السرابيل تقي من الأمرين ليس من الحر فقط. وقوله: “ما شاء فعل”، أي ما أراد الله حصوله لا بد أن يحصل وما أراد أن لا يحصل فلا يحصل. وقوله: “من هداه سبل الخير اهتدى”، أي من شاء الله له أن يكون على الصراط الصحيح المستقيم اهتدى. وقوله: “ناعم البال”، أي مطمئن البال. وقوله: “ومن شاء أضل”، أي من شاء له أن يكون ضالا أضله.
وروى البيهقي عن الشافعي أنه قال حين سئل عن القدر:
ما شئت كان وإن لم أشأ | وما شئت إن لم تشأ لم يكن |
خلقت العباد على ما علمت | ففي العلم يجري الفتى والمسن |
على ذا مننت وهذا خذلت | وهذا أعـنت وذا لم تعـن |
فمنهم شقي ومنهم سعيد | وهذا قبيـح وهذا حسـن |
فتبين بهذا أن الضمير في قوله تعالى: ]يضل من يشاء ويهدي من يشاء[ [سورة النحل/93] يعود إلى الله لا إلى العبد كما زعمت القدرية بدليل قوله تعالى إخبارا عن سيدنا موسى: ]إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء [ [سورة الأعراف/155].
وكذلك قالت طائفة ينتسبون إلى أمين شيخو الذين زعيمهم اليوم عبد الهادي الباني الذي هو بدمشق فقد جعلوا مشيئة الله تابعة لمشيئة العبد حيث إن معنى الآية عندهم إن شاء العبد الاهتداء شاء الله له الهدى وإن شاء العبد أن يضل أضله الله، فكذبوا بالآية: ] وما تشآءون إلآ أن يشآء الله [ [سورة التكوير/29]. فإن حاول بعضهم أن يستدل بآية من القرءان لضد هذا المعنى قيل له: القرءان يتصادق ولا يتناقض فليس في القرءان ءاية نقيض ءاية وليس هذا من باب الناسخ والمنسوخ، لأن النسخ لا يدخل العقائد وليس موجبا للتناقض فالنسخ لا يدخل في الأخبار إنما هو في الأمر والنهي. إنما النسخ بيان انتهاء حكم ءاية سابقة بحكم ءاية لاحقة، على أن هذه الفئة لا تؤمن بالناسخ والمنسوخ.
ومن غباوتهم العجيبة أنهم يفسرون قوله تعالى: ] وعلم ءادم الأسماء كلها [ [سورة البقرة/31] بأسماء الله الحسنى، فإن قيل لهم: لو كانت الأسماء هي أسماء الله الحسنى لم يقل الله: ] فلمآ أنبأهم بأسمآئهم [ [سورة البقرة/33] بل لقال فلما أنبأهم بأسمائي انقطعوا، لكنهم يصرون على جهلهم وتحريفهم للقرءان.
وروى الحاكم رحمه الله تعالى أن علي الرضى بن موسى الكاظم كان يقعد في الروضة وهو شاب ملتحف بمطرف خز فيسأله الناس ومشايخ العلماء في المسجد، فسئل عن القدر فقال: قال الله عز من قائل: ] إن المجرمين في ضلال وسعر، يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر، إنا كل شىء خلقناه بقدر [ [سورة القمر/47/48/49] ثم قال الرضى: كان أبي يذكر عن ءابائه أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان يقول: “إن الله خلق كل شىء بقدر حتى العجز والكيس وإليه المشيئة وبه الحول والقوة” اهـ.
فالعباد منساقون إلى فعل ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر كالريشة المعلقة تميلها الرياح يمنة ويسرة كما تقول الجبرية.
ولو لم يشأ الله عصيان العصاة وكفر الكافرين وإيمان المؤمنين وطاعة الطائعين لما خلق الجنة والنار. ومن ينسب لله تعالى خلق الخير دون الشر فقد نسب إلى الله تعالى العجز ولو كان كذلك لكان للعالم مدبران، مدبر خير ومدبر شر وهذا كفر وإشراك.
وهذا الرأي السفيه من جهة أخرى يجعل الله تعالى في ملكه مغلوبا، لأنه على حسب اعتقاده الله تعالى أراد الخير فقط فيكون قد وقع الشر من عدوه إبليس وأعوانه الكفار رغم إرادته. ويكفر من يعتقد هذا الرأي لمخالفته قوله تعالى: ]والله غالب على أمره[ [سورة يوسف/21] أي لا أحد يمنع نفاذ مشيئته.
وحكم من ينسب إلى الله تعالى الخير وينسب إلى العبد الشر أدبا أنه لا حرج عليه، أما إذا اعتقد أن الله خلق الخير دون الشر فحكمه التكفير.
واعلموا رحمكم الله أن الله تعالى إذا عذب العاصي فبعدله من غير ظلم، وإذا أثاب المطيع فبفضله من غير وجوب عليه، لأن الظلم إنما يتصور ممن له ءامر وناه ولا ءامر لله ولا ناهي له، فهو يتصرف في ملكه كما يشاء لأنه خالق الأشياء ومالكها، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والإمام أبو داود في سننه وابن حبان عن ابن الديلمي قال: “أتيت أبي بن كعب فقلت : يا أبا المنذر، إنه حدث في نفسي شىء من هذا القدر فحدثني لعل الله ينفعني”، قال: “إن الله لو عذب أهل أرضه وسماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا دخلت النار”. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فحدثني مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فحدثني مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني مثل ذلك عن النبي.
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يـهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله.
أما بعد عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العلي العظيم.
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ] يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم ، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ [سورة الحج/1/2].
واعلموا أن الله أمركم بأمر عظيم أمركم بالصلاة على نبيه الكريم فقال: ] إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [ [سورة الأحزاب/56] اللهم صل على محمد وعلى ءال محمد كما صليت على إبراهيم وعلى ءال إبراهيم وبارك على محمد وعلى ءال محمد كما باركت على إبراهيم وعلى ءال إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنا دعوناك فاستجب لنا دعاءنا فاغفر اللهم لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ربنا ءاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين اللهم استر عوراتنا وءامن روعاتنا واكفنا ما أهمنا وقنا شر ما نتخوف.
عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
اذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه يزدكم، واستغفروه يغفر لكم واتقوه يجعل لكم من أمركم مخرجا، وأقم الصلاة.