قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَعْنَى أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ وَأَعْتَرِفُ أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَبُعِثَ بِهَا وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِيهَا، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ فَمِنْ ذَلِكَ عَذَابُ الْقَبْرِ وَنَعِيمُهُ وَسُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَالْبَعْثُ وَالْحَشْرُ وَالْقِيَامَةُ وَالْحِسَابُ وَالثَّوَابُ وَالْعَذَابُ وَالْمِيزَانُ وَالنَّارُ وَالصِّرَاطُ وَالْحَوْضُ وَالشَّفَاعَةُ وَالْجَنَّةُ وَالرُّؤْيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِي الآخِرَةِ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ أَيْ لا كَمَا يُرَى الْمَخْلُوقُ، وَالْخُلُودُ فِيهِمَا. وَالإِيـمَانُ بِمَلائِكَةِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَسَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ أَجْمَعِينَ.
الشَّرْحُ أَنَّ مَعْنَى أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ وَأُصَدِّقُ وَأُؤْمِنُ بِأَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَلْقِ هُنَا الإِنْسُ وَالْجِنُّ، قَالَ تَعَالَى ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [سُورَةَ الْفُرْقَان/1] إِذْ هَذَا الإِنْذَارُ لِلإِنْسِ وَالْجِنِّ فَقَطْ لا دُخُولَ لِلْمَلائِكَةِ فِيهِ [كَمَا ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيـمَانِ] لِأَنَّهُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ [أَيْ لا يَخْتَارُونَ إِلَّا الطَّاعَةَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ] فَلا يَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْذَارٍ، وَأَمَّا مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَلَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ [وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ غَيْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَنْبِيَاءِ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِتَبْلِيغِ غَيْرِ أَقْوَامِهِمْ بَلْ كُلُّ الأَنْبِيَاءِ كَانُوا يُبَلِّغُونَ أَقْوَامَهُمْ وَمَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ غَيْرِهِمْ، إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا كَانَ يَأْتِي إِلَى نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ يَقُولُ لَهُ أَنْتَ أُرْسِلْتَ إِلَى قَوْمِكَ وَلَمَّا أَتَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَنْتَ أُرْسِلْتَ لِلْعَالَمِينَ لِيَكُونَ فِي ذَلِكَ مَزِيَّةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَيْرِهِ]، فَالإِيـمَانُ بِرِسَالَةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ هُوَ أَصْلُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ لَكِنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَسَائِلَ كَثِيرَةً وَتَتْبَعُهَا أَحْكَامٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا :
كَوْنُهُ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَشْرَفُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ لَهُمُ الصَّدَارَةُ بَيْنَ الْعَرَبِ.
وَوُجُوبُ مَعْرِفَةِ أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَبُعِثَ أَيْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ بِالنُّبُوَّةِ وَهُوَ بِهَا ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهُ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ فَدُفِنَ فِيهَا.
وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَلا يُخْطِئُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الأُمَمِ وَالأَنْبِيَاءِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ أَوْ مِنَ التَّحْلِيلِ أَوِ التَّحْرِيْمِ لِبَعْضِ أَفْعَالِ وَأَقْوَالِ الْعِبَادِ، أَوْ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْبَرْزَخِ وَفِي الآخِرَةِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [سُورَةَ النَّجْم] فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يُخْطِئُ فِي ذَلِكَ كَفَرَ، أَمَّا مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا بِغَيْرِ وَحْيٍ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِيهِ.
وَيَدْخُلُ فِيمَا يَجِبُ تَصْدِيقُهُ بِهِ جَزْمًا:
(1) عَذَابُ الْقَبْرِ: وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ عَرْضُ النَّارِ عَلَى الْكَافِرِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أَوَّلَ النَّهَارِ وَمَرَّةً ءَاخِرَ النَّهَارِ يَتَعَذَّبُ بِنَظَرِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِمَقْعَدِهِ الَّذِي يَقْعُدُهُ فِي الآخِرَةِ، وَتَضْيِيقُ الْقَبْرِ عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ، فَالأَضْلاعُ الَّتِي فِي إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ تَدْخُلُ فِي الأَضْلاعِ الَّتِي فِي الْجِهَةِ الأُخْرَى، وَبَعْضُ النَّاسِ يُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الثَّعَابِينُ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَأْتِيهِمْ رِيحُ جَهَنَّمَ إِلَى الْقَبْرِ، وَكَذَلِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الِانْزِعَاجُ مِنَ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَوَحْشَتِهِ، وَضَرْبُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لِلْكَافِرِ بِمِطْرَقَةٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ؛ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ مَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ لا لِجَمِعِيهِمْ مِمَّا هُوَ دُونَ مَا يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ كَضَغْطَةِ الْقَبْرِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ فَهَذِهِ الضَّغْطَةُ تَحْصُلُ لِبَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا الأَتْقِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَالأَطْفَالُ فَلا تَحْصُلُ لَهُمْ. وَلَمْ يَصِحَّ حَدِيثُ لَوْ نَجَا مِنْهَا أَحَدٌ لَنَجَا سَعْدٌ كَمَا حَكَمَ بِضَعْفِهِ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، فَسَعْدُ بنُ مُعَاذٍ كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ وَاللَّهُ يَقُولُ ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سُورَةَ يُونُس/62]. فَحَدِيثُ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ عَلَى سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ غَيْرُ ثَابِتٍ وَإِنْ صَحَّحَهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ لِأَنَّهُ خِلافُ مَضْمُونِ الآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَخِلافُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا الضَّغْطَةُ عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ إِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِيهَا الْكَافِرُ الْمُعْلِنُ لِكُفْرِهِ وَالْمُنَافِقُ الَّذِي يُخْفِي كُفْرَهُ. وَمِثْلُهُ حَدِيثُ ضَغْطَةِ الصِّبْيَانِ فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ فَالأَحَادِيثُ الْمُعَمِّمَةُ لِكُلِّ مَيِّتٍ سِوَى الأَنْبِيَاءِ لا تَصِحُّ وَهِيَ تُخَالِفُ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَسَنَتُهُ فَإِذَا فَارَقَ الدُّنْيَا فَارَقَ السِّجْنَ وَالسَّنَةَ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ لِأَنَّ هَذَا لا يَتَّفِقُ مَعَ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ، وَمَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّ تِلْكَ الضَّغْطَةَ كَضَمَّةِ الأُمِّ لِطِفْلِهَا لا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ ضَغْطَةَ الأُمِّ لِطِفْلِهَا لَيْسَ فِيهَا إِيذَاءٌ .
(2) وَالإِيـمَانُ بِنَعِيمِ الْقَبْرِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَمِنْهُ تَوْسِيعُ الْقَبْرِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ذِرَاعًا عَلَى الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ الأَتْقِيَاءِ كَبَعْضِ شُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ مِمَّنِ اسْتُشْهِدُوا وَلَمْ يَكُونُوا أَتْقِيَاءَ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَتَّسِعُ قَبْرُهُمْ مَدَّ الْبَصَرِ، وَمِنْهُ تَنْوِيرُهُ بِنُورٍ يُشْبِهُ نُورَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَشَمِّ رَائِحَةِ الْجَنَّةِ.
(3) وَالإِيـمَانُ بِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَهُوَ يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَيِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَالُ لَهُمْ أُمَّةُ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ أُمَّةُ الإِجَابَةِ.
ثُمَّ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ لا يَلْحَقُهُ فَزَعٌ وَلا انْزِعَاجٌ مِنْ سُؤَالِهِمَا لِأَنَّ اللَّهَ يُثَبِّتُ قَلْبَهُ فَلا يَرْتَاعُ مِنْ مَنْظَرِهِمَا الْمُخِيفِ لِأَنَّهُمَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ [حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ] أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ بَلْ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُ بِرُؤْيَتِهِمَا وَسُؤَالِهِمَا، يَسْأَلانِهِ «مَنْ رَبُّكَ وَمَنْ نَبِّيُكَ وَمَا دِينُكَ» فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ «اللَّهُ رَبِّي وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّي وَالإِسْلامُ دِينِي» .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا السُّؤَالِ الأَنْبِيَاءُ وَالطِّفْلُ وَشَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ، وَالْمُرَادُ بِالطِّفْلِ مَنْ مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى أَيْضًا مَنْ مَاتَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا [رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ] .
(4) وَالإِيـمَانُ بِالْبَعْثِ وَهُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِعَادَةِ الْجَسَدِ الَّذِي أَكَلَهُ التُّرَابُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَجْسَادِ الَّتِي يَأْكُلُهَا التُّرَابُ وَهِيَ أَجْسَادُ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ وَشُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الأَوْلِيَاءِ لا يَأْكُلُ التُّرَابُ أَجْسَادَهُمْ لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَمْرٍو وَالِدُ جَابِرٍ وَكَثِيرٌ غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ وَمِمَّنْ بَعْدَ السَّلَفِ كَالْحَافِظِ أَبِي عَمْرِو ابْنِ الصَّلاحِ فَقَدْ حَدَّثَنِي الشَّيْخُ سُهَيْلٌ الزَّبِيبِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَالِ [كَانَ مُوَظَّفًا فِي وِزَارَةِ الأَوْقَافِ] الدِّمَشْقِيَّيْنِ أَنَّهُ شَاهَدَ جُثَّةَ الْحَافِظِ ابْنِ الصَّلاحِ صَحِيحَةً لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهَا شَىْءٌ وَقَدْ مَضَى عَلَى وَفَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ .
(5) وَالإِيـمَانُ بِالْحَشْرِ وَهُوَ أَنْ يُجْمَعُوا وَيُسَاقُوا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْمَحْشَرِ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ الشَّامُ ثُمَّ يُنْقَلُونَ عِنْدَ دَكِّ الأَرْضِ إِلَى ظُلْمَةٍ عِنْدَ الصِّرَاطِ ثُمَّ يُعَادُونَ إِلَى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ فَيَكُونُ الْحِسَابُ عَلَيْهَا.
(6) وَالإِيـمَانُ بِالْقِيَامَةِ وَأَوَّلُهَا مِنْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى اسْتِقْرَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ، وَقَدْ تُطْلَقُ الآخِرَةُ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى مَا بَعْدَهُ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ .
وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ هُوَ يَوْمٌ يَفْنَى فِيهِ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، وَتُدَكُّ هَذِهِ الأَرْضُ دَكًّا بَعْدَ نُشُورِ الْمَوْتَى مِنْهَا، وَهَذِهِ الْجِبَالُ تَصِيرُ غُبَارًا نَاعِمًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ [سُورَةَ النَّمْل/88] إِلَّا مَا كَانَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ فَإِنَّهُ يُنْقَلُ إِلَى الْجَنَّةِ [عَزَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي إِلَى أَحْمَدَ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ]، وَالسَّمَوَاتُ تَتَشَقَّقُ وَالْبِحَارُ تَشْتَعِلُ نَارًا، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تُبَدَّلَ الأَرْضُ غَيْرَهَا فَتَكُونُ قَاعًا مُسْتَوِيَةً كَالأَدِيمِ الْمَمْدُودِ لا يُوجَدُ فِيهَا جِبَالٌ وَلا وِهَادٌ يُعِيدُ اللَّهُ الْبَشَرَ إِلَيْهَا وَيَقْضِي بَيْنَهُمْ.
(7) وَالإِيـمَانُ بِالْحِسَابِ وَهُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ مَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا .
(8) وَالثَّوَابُ وَالْعَذَابُ، أَمَّا الثَّوَابُ فَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي يَجْزِيهِ اللَّهُ الْمُؤْمِنَ فِي الآخِرَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِمَّا يَسُرُّهُ، وَأَمَّا الْعَذَابُ الأُخْرَوِيُّ فَهُوَ مَا يَسُوءُ الْعَبْدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ دُخُولِ النَّارِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ كَوَطْءِ بَعْضِ الْبَهَائِمِ بِأَقْدَامِهَا مَنْ كَانَ لا يُزَكِّيهَا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ هَذَا يَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ.
(9) وَالإِيـمَانُ بِالْمِيزَانِ أَيْ مَا يُوزَنُ عَلَيْهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَالَّذِي يَزِنُ الأَعْمَالَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَالَّذِي يُوزَنُ هُوَ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ وَقِيلَ الْمَوْزُونُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، فَالْكَافِرُ لَيْسَ لَهُ حَسَنَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّمَا تُوضَعُ سَيِّئَاتُهُ فِي كَفَّةٍ مِنَ الْكَفَّتَيْنِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَتُوضَعُ حَسَنَاتُهُ فِي كَفَّةٍ وَسَيِّئَاتُهُ فِي الْكَفَّةِ الأُخْرَى .
(10) وَالإِيـمَانُ بِالنَّارِ أَيْ جَهَنَّمَ أَيْ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ الآنَ وَلا تَزَالُ بَاقِيَةً إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَقُولُ ابْنُ تَيْمِيَةَ إِنَّهَا تَفْنَى لا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ [قَالَهُ فِي كِتَابِهِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ قَالَ بِفَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْهُ فِي كِتَابِهِ حَادِي الأَرْوَاحِ]، وَقَدْ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ: اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جَهْمُ بنُ صَفْوَانَ فَكَفَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ اهـ هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْهَاجُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّارُ تَفْنَى وَلا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ فَكَمَا كَفَّرَ هُوَ جَهْمًا لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ يُكَفَّرُ هُوَ لِقَوْلِهِ بِفَنَاءِ النَّارِ لِأَنَّهُ تَكْذِيبٌ لِلنَّصِّ الْقُرْءَانِيِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب]، كَذَّبَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾. وَلِلإِمَامِ السُّبْكِيِّ رَدٌّ عَلَى ابْنِ تَيْمِيَةَ سَمَّاهُ الِاعْتِبَار بِبَقَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
وَجَهَنَّمُ دَارُ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ لِلْكَافِرِينَ لا يَخْرُجُونَ مِنْهَا أَبَدًا، وَأَمَّا بَعْضُ الْعُصَاةِ فَيُعَذَّبُونَ فِيهَا بُرْهَةً ثُمَّ يُخْرَجُونَ مِنْهَا. وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَتَلَذَّذُونَ بِالنَّارِ وَلا يَرْضَوْنَ الْخُرُوجَ مِنْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ. فِي الشَّامِ كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الشَّيْخُ يَحْيَى الصَّبَاغ أَهْلُ الشَّامِ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ كَانَ يَدَّعِي التَّصَوُّفَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مَجْلِسٍ وَكُنَّا سِتَّةَ أَنْفُسٍ تَقْرِيبًا هَلْ فِينَا غَرِيبٌ أَحْكِي لَكُمْ شَيْئًا أَهْلُ النَّارِ يَتَلَذَّذُونَ بِهَا بِحَيْثُ لا يَرْضَوْنَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا، هَذَا الرَّجُلُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كَانَ إِذَا لَقِيَهُ شَخْصٌ فِي الطَّرِيقِ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ يَضَعُ إِصْبَعَهُ فِي صَدْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ وَيَقُولُ لا تَخَفْ أَنْتَ فِيكَ اللَّهُ وَمَعَ ذَلِكَ أَهْلُ دِمَشْقَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ.
(11) وَالإِيـمَانُ بِالصِّرَاطِ وَهُوَ جِسْرٌ يُمَدُّ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ فَيَرِدُهُ النَّاسُ، أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَالطَّرَفُ الآخَرُ فِيمَا يَلِي الْجَنَّةَ بَعْدَ النَّارِ فَيَمُرُّ النَّاسُ فِيمَا يُسَامِتُ [أَيْ يُحَاذِي] الصِّرَاطَ، فَالْمُؤْمِنُونَ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ.
قِسْمٌ لا يَدُوسُونَ الصِّرَاطَ إِنَّمَا يَمُرُّونَ فِي هَوَائِهِ طَائِرِينَ، وَهَؤُلاءِ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ وَرَدُوهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْوُرُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْءَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَإِنْ مِّنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾ [سُورَةَ مَرْيَم/71] دُخُولُهَا.
وَقِسْمٌ يَدُوسُونَهُ، ثُمَّ هَؤُلاءِ قِسْمٌ مِنْهُمْ يُوقَعُونَ فِيهَا وَقِسْمٌ يُنْجِيهُمُ اللَّهُ فَيَخْلَصُونَ مِنْهَا.
وَهُوَ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ مَعْنَاهُ لا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الأَقْدَامُ أَيْ أَمْلَسُ، وَهُوَ مُخَوِّفٌ مِنْ شِدَّةِ صُعُوبَتِهِ، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَنِ الصِّرَاطِ بَلَغَنَا أَنَّهُ أَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ وَأَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ]، وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ صَرِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ. وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ وَصْفُ خَطَرِهِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ دَقِيقًا كَالشَّعْرَةِ إِنَّمَا هُوَ عَرِيضٌ لَكِنَّهُ شَىْءٌ مُخَوِّفٌ يُخَافُ الِانْزِلاقُ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَمْلَسُ.
(12) وَالإِيـمَانُ بِالْحَوْضِ وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ، وَإِنَّمَا يَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِ الْجَنَّةِ تَلَذُّذًا.
(13) وَالإِيـمَانُ بِالشَّفَاعَةِ وَهِيَ تَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ فَقَطْ، فَالأَنْبِيَاءُ يَشْفَعُونَ وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ وَشُهَدَاءُ الْمَعْرِكَةِ وَالْمَلائِكَةُ. وَالشَّفَاعَةُ هِيَ طَلَبُ الْخَيْرِ مِنَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ أَيْ أَنَّ الشُّفَعَاءَ يَطْلُبُونَ مِنَ اللَّهِ إِسْقَاطَ الْعِقَابِ لِبَعْضِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ فَسَّرَ أَهْلُ السُّنَّةِ الشَّفَاعَةَ الأُخْرَوِيَّةَ بِإِسْقَاطِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ وَقَدْ يَكُونُ بَعْدَهُ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الشَّفَاعَةَ لِرَفْعِ الدَّرَجَةِ.
وَسَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْتَصُّ بِالشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى وَهِيَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ أَيْ لِتَخْلِيصِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ فِي الْمَوْقِفِ [تَخْلِيصُهُمْ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ هُوَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَنْتَقِلُ مِنْ عَذَابٍ إِلَى عَذَابٍ أَشَدَّ]. وَقَدْ سُمِّيَتِ الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى لِأَنَّهَا لا تَخْتَصُّ بِأُمَّتِهِ فَقَطْ بَلْ يَنْتَفِعُ بِهَذِهِ الشَّفَاعَةِ غَيْرُ أُمَّتِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْعَذَابَ أَنْوَاعٌ لَيْسَ الْعَذَابُ بِدُخُولِ النَّارِ فَقَطْ بَلْ تَسْلِيطُ الشَّمْسِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي الْمَوْقِفِ عَذَابٌ، وَالْفَضِيحَةُ هُنَاكَ فِي ذَلِكَ الْمَشْهَدِ عَذَابٌ فَبَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُفْضَحُونَ يُنَادِي عَلَيْهِمُ الْمَلَكُ هَذَا فُلانُ ابْنُ فُلانٍ عَمِلَ كَذَا لِأَنَّ الْخَلْقَ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وُقُوفٌ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بِصَرْفِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ حَتَّى يَقُولَ الْكَافِرُ مِنْ شِدَّةِ الْبُؤْسِ الَّذِي يُقَاسِيهِ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ يَا رَبِّ أَرِحْنِي وَلَوْ إِلَى النَّارِ. عِنْدَئِذٍ يَقُولُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ تَعَالَوْا لِنَذْهَبَ إِلَى أَبِينَا ءَادَمَ لِيَشْفَعَ لَنَا إِلَى رَبِّنَا فَيَأْتُونَ إِلَى ءَادَمَ يَقُولُونَ يَا ءَادَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ – أَيْ أَنَّهُ لَهُ عِنَايَةٌ بِكَ – وَأَسْجَدَ لَكَ مَلائِكَتَهُ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّنَا، فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَطْلُبُونَ مِنْهُ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ إِبْرَاهِيمُ يَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا، مَعْنَاهُ أَنَا لَسْتُ صَاحِبَ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ، فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ لَهُمْ لَسْتُ فُلانًا فَيَقُولُ لَهُمْ ائْتُوا عِيسَى فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى لَسْتُ فُلانًا وَلَكِنِ اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَيَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْجُدُ النَّبِيُّ لِرَبِّهِ فَيُقَالُ لَهُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ]. هَذِهِ تُسَمَّى الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى لِأَنَّهَا عَامَّةٌ، ثُمَّ هُنَاكَ شَفَاعَاتٌ أُخْرَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلا تَكُونُ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إِلَّا لِمَنْ ءَامَنَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] مَعْنَاهُ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُنْقِذَكِ مِنَ النَّارِ إِذَا لَمْ تَكُونِي مُؤْمِنَةً، فِي الدُّنْيَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْفَعَكِ بِمَالِي أَمَّا فِي الآخِرَةِ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْفَعَكِ إِنْ لَمْ تَدْخُلِي فِي دَعْوَةِ الإِسْلامِ .
وَلْيُحْذَرْ مِمَّا وَرَدَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الإِحْسَانِ فِي تَرْتِيبِ ابْنِ حِبَّانَ السَّقِيمَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ الْخَمْسَةِ يَقُولُ عِنْدَمَا يُطْلَبُ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَطْرَحَنِي اللَّهُ فِي النَّارِ لِأَنَّ نِسْبَةَ هَذَا لِنَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ لا يَظُنُّ بِرَبِّهِ أَنَّهُ يَطْرَحُهُ فِي النَّارِ، فَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الإِحْسَانِ لِابْنِ بَلْبَانَ فَهُوَ بَاطِلٌ .
(14) وَالإِيـمَانُ بِالْجَنَّةِ وَهِيَ دَارُ السَّلامِ أَيْ دَارُ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ الدَّائِمِ، وَالنَّعِيمُ فِيهَا قِسْمَانِ نَعِيمٌ لا يَنَالُهُ إِلَّا الأَتْقِيَاءُ، وَنَعِيمٌ يَنَالُهُ كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمِنْ هَذَا النَّعِيمِ الْعَامِّ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّهُمْ شَبَابٌ لا يَهْرَمُونَ أَبَدًا وَكُلَّهُمْ أَصِحَّاءُ لا يَسْقَمُونَ وَلا يَمْرَضُونَ أَبَدًا وَكُلَّهُمْ فِي سُرُورٍ لا يُصِيبُهُمْ هَمٌّ وَحُزْنٌ وَنَكَدٌ وَكَرْبٌ، وَكُلَّهُمْ يَبْقَوْنَ أَحْيَاءً فِي نَعِيمٍ دَائِمٍ لا يَمُوتُونَ أَبَدًا.
(15) وَالإِيـمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِي الآخِرَةِ بِأَنَّهَا حَقٌّ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ [لَكِنْ أَهْلُ الْفَتْرَةِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ لا يَرَوْنَ اللَّهَ فِي الْجَنَّةِ إِنَّمَا يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ فَقَطْ] يَرَوْنَهُ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِلا كَيْفٍ وَلا تَشْبِيهٍ وَلا جِهَةٍ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [قَالَهُ فِي كِتَابِهِ الْوَصِيَّةِ وَذَكَرَهُ مُلَّا عَلِي الْقَارِي فِي شَرْحِ الْفِقْهِ الأَكْبَرِ]، أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى لا يَكُونُ فِي جِهَةٍ وَلا مَكَانٍ إِنَّمَا هُمْ فِي مَكَانِهِمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ رُؤْيَةً لا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهَا اشْتِبَاهٌ لا يَشُكُّونَ هَلِ الَّذِي رَأَوْهُ هُوَ اللَّهُ أَمْ غَيْرُهُ كَمَا لا يَشُكُّ مُبْصِرُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ أَنَّ الَّذِي رَءَاهُ هُوَ الْقَمَرُ، فَفِي ذَلِكَ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ] أَيْ لا تَتَزَاحَمُونَ فِي رُؤْيَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ «لا تُضَامُونَ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] أَيْ لا يَلْحَقُكُمْ ضَرَرٌ. شَبَّهَ رُؤْيَتَنَا لَهُ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَلَمْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِالْقَمَرِ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجُهَّالِ فَإِنَّهُمْ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْعَوَامِّ بِذَلِكَ، رَجُلٌ كَبِيرٌ فِي طَرَابُلُسَ ذَكَرْتُ أَمَامَهُ تَنْزِيهَ اللَّهِ عَنِ الْحَدِّ وَالْكَيْفِ فِي دَرْسٍ وَقُلْتُ اللَّهُ لا يُشْبِهُ الشَّمْسَ اللَّهُ لا يُشْبِهُ الْقَمَرَ فَقَالَ أَلَيْسَ قَالَ الرَّسُولُ إِنَّهُ يُشْبِهُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قُلْتُ لَهُ أَنْتَ تَوَهَّمْتَ الرَّسُولُ مَا قَالَ ذَلِكَ، قُلْتُ لَهُ هَذَا كُفْرٌ تَشَهَّدْ فَتَشَهَّدَ. الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمِ التَّوْحِيدَ إِذَا سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ قَدْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ.
(16) وَالإِيـمَانُ بِالْخُلُودِ فِيهِمَا، فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَخْلُدُونَ فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلَ النَّارِ يَخْلُدُونَ فِيهَا، وَأَنَّهُ لا مَوْتَ بَعْدَ ذَلِكَ .
(17) وَالإِيـمَانُ بِمَلائِكَةِ اللَّهِ أَيْ بِوُجُودِهِمْ وَأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، وَهُمْ أَجْسَامٌ نُورَانِيَّةٌ لَطِيفَةٌ [لَهُمْ أَرْوَاحٌ] أَلْطَفُ مِنَ الْهَوَاءِ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلا إِنَاثًا لا يَأْكُلُونَ وَلا يَشْرَبُونَ وَلا يَنَامُونَ وَلا يَتَوَالَدُونَ، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ .
(18) وَالإِيـمَانُ بِرُسُلِهِ أَيْ أَنْبِيَائِهِ مَنْ كَانَ رَسُولًا وَمَنْ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا، فَالنَّبِيُّ غَيْرُ الرَّسُولِ هُوَ إِنْسَانٌ أُوحِيَ إِلَيْهِ لا بِشَرْعٍ جَدِيدٍ بَلْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِاتِّبَاعِ شَرْعِ الرَّسُولِ الَّذِي قَبْلَهُ وَأَنْ يُبَلِّغَ ذَلِكَ، وَالرَّسُولُ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ. وَمِنَ الْغَلَطِ الشَّنِيعِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، هَذَا كَلامٌ شَنِيعٌ كَيْفَ يُنَبَّأُ ثُمَّ لا يُؤْمَرُ بِالتَّبْلِيغِ وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُنَبَّأَ النَّبِيُّ لِنَفْسِهِ فَقَطْ، فَمَا أَشْنَعَ هَذِهِ الْغَلْطَةَ، وَهَذِهِ الْغَلْطَةُ مَوْجُودَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْجَلالَيْنِ وَفِي كُتُبٍ عَدِيدَةٍ .
وَأَوَّلُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَى الْكُفَّارِ سَيِّدُنَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ أَيْ بَعْدَ حُدُوثِ الْكُفْرِ بَيْنَ الْبَشَرِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ نَبِيٌّ وَلا رَسُولٌ بَلْ كَانَ ءَادَمُ نَبِيًّا رَسُولًا كَمَا يَشْهَدُ لِنُبُوَّتِهِ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ «ءَادَمُ فَمَنْ سِوَاهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ [وَأَخْرَجَهُ فِي سُنَنِهِ]، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ وَعُرِفَ هَذَا الأَمْرُ بَيْنَهُمْ بِالضَّرُورَةِ فَمَنْ نَفَى نُبُوَّتَهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِالإِجْمَاعِ كَمَا فِي مَرَاتِبِ الإِجْمَاعِ. وَمَرَاتِبُ الإِجْمَاعِ كِتَابٌ أَلَّفَهُ ابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ فِيهِ مَنْ شَكَّ فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهَا يَكْفُرُ. فَالَّذِي يَشُكُّ فِي نُبُوَّةِ ءَادَمَ أَوْ فِي كُفْرِ الشَّاكِّ فِيهِ كَافِرٌ وَالَّذِي يَشُكُّ فِي رِسَالَتِهِ أَيْضًا كَافِرٌ [هَذَا يُحْمَلُ عَلَى الْوَجْهِ الآخَرِ لِتَعْرِيفِ الرَّسُولِ أَيْ عَلَى كَوْنِهِ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ]. وَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْوَهَّابِيَّةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ ءَادَمَ لَيْسَ نَبِيًّا.
(19) وَالإِيـمَانُ بِالْكُتُبِ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ لَكِنْ أَشْهَرُهَا هَؤُلاءِ الأَرْبَعُ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالْفُرْقَانُ أَيِ الْقُرْءَانُ، قَالَ وَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ [هو أبو عبد اللَّه وهب بن منبه اليماني الصنعاني، أصله من خراسان من أهل هراة أخرج كسرى والده من هراة إلى اليمن فأسلم في عهد النبي فحسن إسلامه فسكن ولده باليمن، ولد وهب في زمن عثمان رضي اللَّه عنه سنه أربع وثلاثين، قال العجلي وغيره: تابعي ثقة] قَرَأْتُ بِضْعَةً وَسَبْعِينَ كِتَابًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ.
(20) وَالإِيـمَانُ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. لَفْظَةُ الْقَدَرِ أُطْلِقَتْ فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ وَيُرادُ بِهَا مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا تَقْدِيرُ اللَّهِ وَالآخَرُ الْمَقْدُورُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، ذُكِرَ الْقَدَرُ أَوَّلًا بِمَعْنَى تَقْدِيرِ اللَّهِ ثُمَّ أُعِيدَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ بِمَعْنَى الْمَقْدُورِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ اللَّهِ حَسَنٌ لَيْسَ شَرًّا، وَالْمَقْدُورُ يَشْمَلُ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلاغَةِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، يَذْكُرُونَ اللَّفْظَ بِمَعْنًى وَيُعِيدُونَ الضَّمِيرَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى ءَاخَرَ وَذَلِكَ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: [الْوَافِر]
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ¤¤¤¤ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابًا
وَقَوْلُهُ «إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ» أَيِ الْمَطَرُ، وَقَوْلُهُ «رَعَيْنَاهُ» أَيِ الْمَرْعَى الَّذِي هُوَ بِسَبَبِ الْمَطَرِ يَحْصُلُ. فَالْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الإِيـمَانِ السِّتَّةِ هُوَ الرِّضَا بِقَدَرِ اللَّهِ أَيْ تَقْدِيرِهِ، وَأَمَّا الْمَقْدُورُ فَيَجِبُ الإِيـمَانُ بِأَنَّ كُلَّ الْمَقْدُورَاتِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَحْصُلُ مَا كَانَ خَيْرًا وَمَا كَانَ شَرًّا، فَمَا كَانَ مِنَ الْمَقْدُورِ خَيْرًا يَجِبُ الرِّضَا بِهِ وَمَا كَانَ مِنْهُ شَرًّا يَجِبُ كَرَاهِيَتُهُ كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ لَفْظُ «وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ]، وَفِي لَفْظٍ «وَالْقَدَرِ كُلِّهِ». وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِي الْوُجُودِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِيِّ، فَالْخَيْرُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، وَالشَّرُّ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لا بِمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ قَالَ تَعَالَى ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ الَلَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ [سُورَةَ الأَنْفَال/24] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «يَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَالإِيـمَانِ، وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكُفْرِ»، رَوَى ذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ وَتَقْدِيرَهُ لا يَتَغَيَّرَانِ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ [ابْنِ مَاجَه فِي سُنَنِهِ] «لا يَرُدُّ الْقَدَرَ شَىْءٌ إِلَّا الدُّعَاءُ» فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْقَدَرِ الْمُعَلَّقِ لَيْسَ إِلَى الْقَدَرِ الْمُبْرَمِ.
وَيُنَاسِبُ هُنَا إِيرَادُ عِبَارَةِ الْبَيْهَقِيِّ فِي كِتَابِهِ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمُدَّ اللَّهُ فِي عُمُرِهِ وَيُوَسِّعَ لَهُ رِزْقَهُ وَيَدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةَ السُّوءِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فِي زَوَائِدِ «مُسْنَدِ أَحْمَدَ»].
قَالَ الشَّيْخُ (يَعْنِي الْبَيْهَقِيَّ): «وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ وَمَا قَبْلَهُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ وَأَبُو بَكْرٍ الْقَاضِي قَالا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ الْمُنَادِي حَدَّثَنَا شُجَاعُ بنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ عَمْرُو بنُ الْجُونِ الدَّالانِيُّ عَنْ عَطَاءِ بنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الْحَذَرَ لا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ، وَإِنَّ الدُّعَاءَ يَدْفَعُ الْقَدَرَ وَهُوَ إِذَا دَفَعَ الْقَدَرَ فَهُوَ مِنَ الْقَدَرِ» اهـ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ [وَهُوَ أَوَّلُ الْحِجَازِ وَءَاخِرُ الشَّامِ] لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ وَقَعَ بِالشَّامِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ فِي اسْتِشَارَتِهِ إِيَّاهُمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَيْهِ إِلَى أَنْ قَالَ: «فَنَادَى عُمَرُ بِالنَّاسِ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ [أَيْ رَاجِعٌ إِلَى الْمَدِينَةِ] فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ [أَيِ انْوُوا أَنَّنَا صَبَاحًا نَعُودُ إِلَى الْمَدِينَةِ]، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ قَالَهَا غَيْرُكَ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خِصْبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ [يَعْنِي الطَّاعُونَ] بِأَرْضٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ» اهـ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: «قَالَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْخَبَرِ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ الْحَذَرَ وَأَثْبَتَ الْقَدَرَ مَعًا وَهُوَ طَرِيقُ السُّنَّةِ وَنَهْجُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَالَّذِي رَوَيْنَا: «لا يَنْفَعُ حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ» مَعْنَاهُ فِيمَا كُتِبَ مِنَ الْقَضَاءِ الْمَحْتُومِ كَمَا لا يَنْفَعُ الدُّعَاءُ وَالدَّوَاءُ فِي رَدِّ الْمَوْتِ إِذَا جَاءَ الأَجَلُ الْمَكْتُوبُ الْمَحْتُومُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ».
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: «وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا حَامِدُ بنُ مَحْمُودٍ حَدَثَّنَا إِسْحَاقُ بنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ عَنْ طَاوُسَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لا يَنْفَعُ الْحَذَرُ مِنَ الْقَدَرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَمْحُو بِالدُّعَاءِ مَا شَاءَ مِنَ الْقَدَرِ» انْتَهَى أَيِ الْمَقْدُورِ لِأَنَّ الْقَدَرَ بِمَعْنَى تَقْدِيرِ اللَّهِ لا يَدْخُلُهُ الْمَحْوُ لِأَنَّهُ أَزَلِيٌّ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: «وَحَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ إِسْحَاقَ الصَّغَانِيُّ حَدَّثَنَا رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/39] قَالَ ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ مِنْ أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ هُمَا كِتَابَانِ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْ أَحَدِهِمَا ﴿وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أَيْ جُمْلَةُ الْكِتَابِ» اهـ، مَعْنَاهُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَمْحُوِ وَالْمُثْبَتِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مِمَّا يَسْتَنْسِخُهُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَكْتُبُهُ الْمَلَكُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ هَذَا فِيهِ ذِكْرُ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ أَيْ أَنَّهُمْ كَتَبُوا فِي صُحُفِهِمْ مَثَلًا فُلانٌ إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ يَعِيشُ إِلَى الْمِائَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ رَحِمَهُ يَعِيشُ إِلَى السِّتِّين أَمَّا أَيُّ الأَمْرَيْنِ سَيَقَعُ أَخِيرًا هُمْ لا يَعْرِفُونَ فِي الِابْتِدَاءِ، لَيْسَ مَوْكُولًا إِلَى الْمَلائِكَةِ عِلْمُ الْمُسْتَقْبَلِ إِنَّمَا هُمْ يَكْتُبُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَمْ يُطْلِعْهُ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى الأَمْرَيْنِ. فَأَحَدُ الْكِتَابَيْنِ هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ وَالآخَرُ هُوَ الَّذِي فِي أَيْدِي الْمَلائِكَةِ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالِاسْتِنْسَاخِ مِنَ اللَّوْحِ.
قَالَ الشَّيْخُ – يَعْنِي الْبَيْهَقِيَّ – «وَالْمَعْنَى فِي هَذَا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَتَبَ مَا يُصِيبُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْبَلاءِ وَالْحِرْمَانِ وَالْمَوْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ إِنْ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى أَوْ أَطَاعَهُ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ وَغَيْرِهَا لَمْ يُصِبْهُ ذَلِكَ الْبَلاءُ وَرَزَقَهُ كَثِيرًا وَعَمَّرَهُ طَوِيلًا وَكَتَبَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الأَمْرَيْنِ، فَالْمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ يَرْجِعُ إِلَى أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ كَامِلٍ الْقَاضِي أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ قَالَ: وَهُوَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ الزَّمَانَ بِطَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ يَعُودُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ عَلَى ضَلالَةٍ فَهُوَ الَّذِي يَمْحُو، وَالَّذِي يُثْبِتُ الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ [فِي الأَصْلِ «بِطَاعَةِ» وَهُوَ خَطَأٌ وَالصَّوَابُ مَا أَثْبَتْنَاهُ كَمَا فِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ] وَقَدْ كَانَ سَبَقَ لَهُ خَيْرٌ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي يُثْبِتُ [أَيِ اللَّهُ تَعَالَى] اهـ.
قَالَ الشَّيْخُ «أَيِ الْبَيْهَقِيُّ»: وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ مَا مَضَى مِنَ السُّنَنِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا قَدْ يَعْمَلُ زَمَانًا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَيَعْمَلُ الآخَرُ زَمَانًا بِطَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ فِيهِمَا فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ رَاجِعَيْنِ إِلَى عَمَلِهِمَا [أَيْ عَمَلِ الْعَبْدَيْنِ] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيلَ السُّكَّرِيُّ حَدَثَّنَا أَبُو قُرَيْشٍ حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ نَصْرُ بنُ خَلَفٍ النَّيْسَابُورِيُّ حَدَّثَنَا يَعْلَى بنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمٰنِ بنُ إِسْحَاقَ عَنِ الْقَاسِمِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمٰنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ: مَا دَعَا عَبْدٌ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ إِلَّا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي مَعِيشَتِهِ: يَا ذَا الْمَنِّ وَلا يُمَنُّ عَلَيْكَ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا ذَا الطَّوْلِ [أَيِ الْفَضْلِ] لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ظهر اللَّاجِئِينَ [أَيِ النَّاصِر وَالْمُعِين] وَجَارَ الْمُسْتَجِيرِينَ وَمَأْمَنَ الْخَائِفِينَ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ عِنْدَكَ شَقِيًّا فَامْحُ عَنِّي اسْمَ الشَّقَاءِ وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَحْرُومًا مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزْقِي فَامْحُ عَنِّي حِرْمَانِي وَتَقْتِيرَ رِزْقِي وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي كِتَابِكَ ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾.
قَالَ: فَهَذَا مَوْقُوفٌ [أَيْ عَلَى الصَّحَابِيِّ].
وَرُوِيَ [كُلُّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ إِنَّمَا أَوْرَدَهُ لِأَنَّهُ رُوِيَ] عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي السَّعَادَةِ فَأَثْبِتْنِي فِيهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ الشَّقَاوَةَ وَالذَّنْبَ وَالْمَقْتَ فَامْحُنِي وَأَثْبِتْنِي فِي السَّعَادَةِ ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾. هَكَذَا رَوَاهُ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ وَبِمَعْنَاهُ [فِي الأَصْلِ «وَسَمِعْنَاهُ»] رَوَاهُ هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ مُخْتَصَرًا وَقَالَ «فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ». وَأَبُو حَكِيمَةَ اسْمُهُ عِصْمَةُ بَصْرِيٌّ تَفَرَّدَ بِهِ [أَيْ مَا رَوَى هَذَا إِلَّا أَبُو حَكِيمَةَ] فَإِنْ صَحَّ شَىْءٌ مِنْ هَذَا فَمَعْنَاهُ يَرْجِعُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَحْوِ الْعَمَلِ وَالْحَالِ [يَعْنِي لَيْسَ مَحْوَ صِفَةِ اللَّهِ لَيْسَ مَحْوَ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ هَذَا يُؤَوَّلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ مَحْوِ الْعَمَلِ أَيْ عَمَلِ الْعَبْدِ وَالْحَالِ أَيْ حَالِ الْعَبْدِ، وَمَعْنَى كَلامِهِ كُلُّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَعْنَاهُ كَمَا شَرَحْنَا]. وَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي أَعْمَلُ عَمَلَ الأَشْقِيَاءِ وَحَالِي حَالَ الْفُقَرَاءِ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِي فَامْحُ ذَلِكَ عَنِّي بِإِثْبَاتِ عَمَلِ السُّعَدَاءِ وَحَالِ الأَغْنِيَاءِ، وَاجْعَلْ خَاتِمَةَ أَمْرِي سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ فَإِنَّكَ قُلْتَ فِي كِتَابِكَ ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ أَيْ مِنْ عَمَلِ الأَشْقِيَاءِ ﴿ويُثبِتُ﴾ أَيْ مِنْ عَمَلِ السُّعَدَاءِ وَيُبَدِّلُ مَا يَشَاءُ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْ حَالِ الْغِنَى» انْتَهَى كَلامُ الْبَيْهَقِيِّ، مَعْنَاهُ غَيِّرْ حَالِي وَلَيْسَ الْمَعْنَى غَيِّرْ مَشِيئَتَكَ وَعِلْمَكَ فَالتَّغَيُّرُ رَاجِعٌ إِلَى الْعَمَلِ لَيْسَ إِلَى الصِّفَةِ الأَزَلِيَّةِ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: «ثُمَّ الْمَحْوُ وَالإِثْبَاتُ جَمِيعًا مَسْطُورَانِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بنُ قَتَادَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ النَّضْرَوِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ نَجْدَةَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ قَالَ قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ اسْمِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبِتْهُ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ فِي الأَشْقِيَاءِ فَامْحُهُ مِنْهُمْ وَاجْعَلْهُ فِي السُّعَدَاءِ، فَقَالَ: حَسَنٌ. ثُمَّ مَكَثْتُ حَوْلًا [أَيْ عَامًا] فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ ﴿حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [سُورَةَ الدُّخَان] قَالَ: يُفْرَقُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ لا يُغَيَّرُ»، انْتَهَى كَلامُ الْبَيْهَقِيِّ، يَعْنِي رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ الأَوَّلِ إِلَى الثَّانِي وَخَصَّ التَّغَيُّرَ بِالرِّزْقِ وَالْمُصِيبَةِ أَيْ بِالنِّعَمِ وَالْمَصَائِبِ. أَمَّا الشَّقَاءُ وَالسَّعَادَةُ فَلا يَدْخُلانِ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ أَيْ كُلُّ أَمْرٍ مُبْرَمٍ أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ تَقْسِيمُ الْقَضَايَا الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى مِثْلِهَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ مَوْتٍ وَصِحَّةٍ وَمَرَضٍ وَفَقْرٍ وَغِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطْرَأُ مِنَ الأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى مِثْلِهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ.
ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: «أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بنُ بَشْرَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الزَّاهِدُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يَعْنِي النَّرْسِيَّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ مُوسَى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْمِنْهَالِ بنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [سُورَةَ الرَّعْد/39] قَالَ: «يُرِيدُ أَمْرَ السَّمَاءِ، يَعْنِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ غَيْرَ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ وَالْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ».
وَأَخْبَرَنَا أَبُو زَكَرِيَّا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّرَائِفِيُّ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ يَقُولُ «يُبَدِّلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْءَانِ فَيَنْسَخُهُ ﴿وَيُثْبِتُ﴾ يَقُولُ يُثْبِتُ مَا يَشَاءُ لا يُبَدِّلُهُ ﴿وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ يَقُولُ: جُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَمَا يُبَدَّلُ وَمَا يُثْبَتُ كُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ»، هَذَا أَصَحُّ مَا قِيلَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَةِ وَأَجْرَاهُ عَلَى الأُصُولِ [يَعْنِي بِالأُصُولِ قَوَاعِدَ الْعَقِيدَةِ هَذَا يُوَافِقُ قَوَاعِدَ الْعَقِيدَةِ أَيْ نَسْخُ بَعْضِ الْقُرْءَانِ وَإِثْبَاتُ بَعْضٍ]، وَعَلَى مِثْلِ ذَلِكَ حَمَلَهَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ نَفْيُ الآفَاتِ عَنْهُ وَالزِّيَادَةُ فِي عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَبَصِيرَتِهِ» انْتَهَى كَلامُ الْبَيْهَقِيِّ.
فَانْظُرْ أَيُّهَا الطَّالِبُ الْوُقُوفَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَتَأَمَّلْ أَنَّ هَذِهِ الأَلْفَاظَ الْمَرْوِيَّةَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ لَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي اعْتَادَ النَّاسُ قِرَاءَتَهَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ مَا يَقْرَءُونَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ لَمْ يُصَحِّحْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَقَدْ أَتَى بِصِيغَةِ التَّرَدُّدِ فِيمَا رَوَى عَنْ عُمَرَ لِلدِّلالَةِ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ، وَتَرْجِيحُهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ بِالآيَةِ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ. وَأَنْتَ قَدْ رَأَيْتَ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي اعْتَادُوهَا وَهِيَ «اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ بِالتَّجَلِّي الأَعْظَمِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الْمُكَرَّمِ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ وَيُبْرَمُ» بِالْمَرَّةِ بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ [سُورَةَ الدُّخَان/3] مَعَ قَوْلِهِ ﴿إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [سُورَةَ الْقَدْر/1] وَإِنَّمَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فَلا تَكُنْ أَسِيرَ التَّقْلِيدِ فِي غَيْرِ مَعْنًى، وَالْمُشَاحِنُ مَعْنَاهُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسْلِمٍ ءَاخَرَ عَدَاوَةٌ وَحِقْدٌ وَبَغْضَاءُ لِأَمْرِ الدُّنْيَا، أَمَّا مَنْ سِوَى هَذَيْنِ فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ يُغْفَرُ لِبَعْضٍ جَمِيعُ ذُنُوبِهِمْ وَلِبَعْضٍ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ..
وَيَتَضَمَّنُ الإِيـمَانُ بِرِسَالَةِ النَّبِيِّ الإِيـمَانَ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ].
وَقَوْلُهُ بِأَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ أَجْمَعِينَ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا فَخْرَ» [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ] أَيْ لا أَقُولُ ذَلِكَ افْتِخَارًا إِنَّمَا أَقُولُ تَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ جَوَازُ وَصْفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ، وَيُعْرَفُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ قَوْلِ «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ» وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِي حَدِيثِ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ إِلَّا قُولُوا «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ»، لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةُ لَفْظٍ يُنَاسِبُ الأَصْلَ فَهُوَ جَائِزٌ، فَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ يَزِيدُ فِي التَّشَهُّدِ «وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ» وَيَقُولُ «وَأَنَا زِدْتُهَا»، أَيْ أَنَا زِدْتُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [فِي سُنَنِهِ]، أَيْ مَا سَمِعَهَا مِنَ الرَّسُولِ وَلا بَلَغَتْهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَثْبَتَهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، لَكِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ خَالِيَةٌ عَنْ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالْفَطَانَةِ، فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَالرَّذَالَةُ وَالسَّفَاهَةُ وَالْبَلادَةُ وَالْجُبْنُ وَكُلُّ مَا يُنَفِّرُ عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ.
الشَّرْحُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ يَجِبُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الأَخْلاقِ وَهِيَ.
*الصِّدْقُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ لِأَنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ يُنَافِي مَنْصِبَ النُّبُوَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ زَوْجَتِهِ سَارَةَ «إِنَّهَا أُخْتِي» وَهِيَ لَيْسَتْ أُخْتَهُ فِي النَّسَبِ فَكَانَ لِأَنَّهَا أُخْتُهُ فِي الدِّينِ بِغَرَضِ صِيَانَتِهَا مِنْ أَذَى الْجَبَّارِ فَهُوَ لَيْسَ كَذِبًا مِنْ حَيْثُ الْبَاطِنُ وَالْحَقِيقَةُ إِنَّمَا هُوَ صِدْقٌ.
وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي أَمْرِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ أَنَّهُ قَالَ ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/63] فَلَيْسَ هَذَا كَذِبًا حَقِيقِيًّا بَلْ هَذَا صِدْقٌ مِنْ حَيْثُ الْبَاطِنُ وَالْحَقِيقَةُ لِأَنَّ كَبِيرَ الأَصْنَامِ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى الْفَتْكِ بِهِمْ أَيِ الأَصْنَامِ الأُخْرَى مِنْ شِدَّةِ اغْتِيَاظِهِ مِنْهُ لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي تَعْظِيمِهِ بِتَجْمِيلِ هَيْئَتِهِ وَصُورَتِهِ، فَحَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُكَسِّرَ الصِّغَارَ وَيُهِينَ الْكَبِيرَ، فَيَكُونُ إِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْكَبِيرِ إِسْنَادًا مَجَازِيًّا، فَلا كَذِبَ فِي ذَلِكَ أَيْ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ كَذِبًا إِنَّمَا صُورَتُهُ صُورَةُ كَذِبٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ: «كَذَبَ إِبْرَاهِيمُ ثَلاثَ كَذَبَاتٍ» فَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ [كَالرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ] وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا.
*وَالأَمَانَةُ فَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْخِيَانَةُ فَلا يَكْذِبُونَ عَلَى النَّاسِ إِنْ طَلَبُوا مِنْهُمُ النَّصِيحَةَ وَلا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.
*وَالْفَطَانَةُ فَكُلُّ الأَنْبِيَاءِ أَذْكِيَاءُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْغَبَاوَةُ أَيْ أَنْ يَكُونُوا ضُعَفَاءَ الأَفْهَامِ، لِأَنَّ الْغَبَاوَةَ تُنَافِي مَنْصِبَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَغْبِيَاءَ لَنَفَرَ مِنْهُمُ النَّاسُ لِغَبَاوَتِهِمْ وَاللَّهُ حَكِيمٌ لا يَجْعَلُ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ فِي الأَغْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ أُرْسِلُوا لِيُبَلِّغُوا النَّاسَ مَصَالِحَ ءَاخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالْبَلادَةُ تُنَافِي هَذَا الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ.
وَيَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الرَّذَالَةُ وَالسَّفَاهَةُ وَالْبَلادَةُ فَلَيْسَ فِي الأَنْبِيَاءِ مَنْ هُوَ رَذِيلٌ يَخْتَلِسُ النَّظَرَ إِلَى النِّسَاءِ الأَجْنَبِيَاتِ بِشَهْوَةٍ مَثَلًا، وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَسْرِقُ وَلَوْ حَبَّةَ عِنَبٍ، وَلَيْسَ فِي الأَنْبِيَاءِ مَنْ هُوَ سَفِيهٌ يَقُولُ أَلْفَاظًا شَنِيعَةً تَسْتَقْبِحُهَا النَّفْسُ، وَلَيْسَ فِي الأَنْبِيَاءِ مَنْ هُوَ بَلِيدُ الذِّهْنِ عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ يُعَارِضُهُ بِالْبَيَانِ وَلا ضَعِيفُ الْفَهْمِ لا يَفْهَمُ الْكَلامَ مِنَ الْمَرَّةِ الأُولَى إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُكَرَّرَ عَلَيْهِ عِدَّةَ مَرَّاتٍ.
وَيَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ سَبْقُ اللِّسَانِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ وَالْعَادِيَّاتِ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَلَيْهِمْ لَارْتَفَعَتِ الثِّقَةُ فِي صِحَّةِ مَا يَقُولُونَهُ، وَلَقَالَ قَائِلٌ عِنْدَمَا يَبْلُغُهُ كَلامٌ عَنِ النَّبِيِّ مَا يُدْرِينَا أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ سَبْقِ اللِّسَانِ، لِذَلِكَ لا يَصْدُرُ مِنْ نَبِيٍّ كَلامٌ غَيْرُ الَّذِي يُرِيدُ قَوْلَهُ وَلا يَصْدُرُ مِنْهُ كَلامٌ وَهُوَ لا يُرِيدُ الْكَلامَ بِالْمَرَّةِ كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ يَتَكَلَّمُ وَهُوَ نَائِمٌ. وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الأَمْرَاضُ الْمُنَفِّرَةُ كَخُرُوجِ الدُّودِ مِنَ الْجِسْمِ.
وَكَذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الْجُبْنُ، أَمَّا الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ فَلا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ بَلِ الْخَوْفُ الطَّبِيعِيُّ مَوْجُودٌ فِيهِمْ وَذَلِكَ مِثْلُ النُّفُورِ مِنَ الْحَيَّةِ فَإِنَّ طَبِيعَةَ الإِنْسَانِ تَقْتَضِي الْهَرَبَ مِنَ الْحَيَّةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِثْلُ التَّخَوُّفِ مِنْ تَكَالُبِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَقْتُلُوهُمْ. وَلا يُقَالُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَرَبَ بِحَيْثُ يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ أَمَّا فَرَّ مِنَ الأَذَى مَثَلًا فَلا يُشْعِرُ بِالْجُبْنِ يُقَالُ هَاجَرَ فِرَارًا مِنَ الْكُفَّارِ أَيْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ هَذَا جَائِزٌ مَا فِيهِ نَقْصٌ وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ مُوسَى ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء/21].
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَتَجِبُ لَهُمُ الْعِصْمَةُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا.
الشَّرْحُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ مَعْصُومُونَ أَيْ مَحْفُوظُونَ مِنَ الْكُفْرِ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَمَّا قَوْلُ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْكَوْكَبِ حِينَ رَءَاهُ ﴿هَذَا رَبِّى﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/76] فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ الإِنْكَارِيِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَهَذَا رَبِّي كَمَا تَزْعُمُونَ، ثُمَّ لَمَّا غَابَ قَالَ ﴿لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَام/76] أَيْ لا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ هَذَا رَبًّا فَكَيْفَ تَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ، وَلَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا مَقْصُودَهُ بَلْ بَقُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَالَ حِينَمَا رَأَى الْقَمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مِنْهُمْ بُغْيَتَهُ أَظْهَرَ لَهُمْ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ عِبَادَتِهِ وَأَنَّهُ لا يَصْلُحُ لِلرُّبُوبِيَّةِ، ثُمَّ لَمَّا ظَهَرَتِ الشَّمْسُ قَالَ لَهُمْ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ أَيْ عَلَى زَعْمِكُمْ فَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ بُغْيَتَهُ فَأَيِسَ مِنْهُمْ مِنْ عَدَمِ انْتِبَاهِهِمْ وَفَهْمِهِمْ لِلْمُرَادِ أَيْ أَنَّ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ لا يَصْلُحُونَ لِلأُلُوهِيَّةِ فَتَبَرَّأَ مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، ثُمَّ لَمْ يَمْكُثْ فِيهِمْ بَلْ ذَهَبَ إِلَى فِلَسْطِينَ فَأَقَامَ هُنَاكَ وَتُوُفِّيَ فِيهَا، وَفِي خِلالِ ذَلِكَ ذَهَبَ إِلَى مَكَّةَ بِسُرِّيَّتِهِ هَاجَرَ وَابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ.
وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ كَانَ يَعْلَمُ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ لا تَكُونُ إِلَّا للَّهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/51].
وَالأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَعْصُومُونَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعَاصِي الْكَبِيرَةِ، وَكَذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِالذُّنُوبِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي فِيهَا خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ كَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ فَإِنَّ هَذِهِ صَغِيرَةٌ لَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى دَنَاءَةِ نَفْسٍ.
فَائِدَةٌ قَالَ الأَزْرَقِيُّ فِي تَارِيخِ مَكَّةَ دَعَا إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقَ أَهْلَ مَكَّةَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا زَرْعٌ وَلا ثَمَرُ الثَّمَرَاتِ فَأَمَرَ اللَّهُ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْقُلَ جَبَلًا مِنْ أَرْضِ الشَّامِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الطَّائِفِ فَنَقَلَهُ جِبْرِيلُ اهـ وَالطَّائِفُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ فِيهَا الرُّمَّانُ وَفِيهَا الْعِنَبُ وَغَيْرُ ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَل هَذَا بَلَدًا ءَامِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/126].
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي لَكِنْ يُنَبَّهُونَ فَوْرًا لِلتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ.
الشَّرْحُ أَنَّ الصَّغَائِرَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ تَجُوزُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْمُعْتَمَدُ الْمُوَافِقُ لِكَلامِ الإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَكِنَّهُ قَيَّدَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ بِمَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ. أَمَّا الأَكْثَرُونَ فَعَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ عَلَيْهِمُ الصَّغَائِرُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى﴿وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ [سُورَةَ طَه/121]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَنَّهُ قَالَ ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ﴾ [سُورَةَ الشُّعَرَاء/82]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [سُورَةَ ص/24] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [سُورَةَ مُحَمَّد/19] فَهَذَا فِيهِ إِثْبَاتُ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فِي حَقِّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَقِّ أُمَّتِهِ فَنَحْنُ نَقُولُ اقْتِدَاءً بِالْجُمْهُورِ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ هِيَ مَعْصِيَةٌ حَقِيقِيَّةٌ صَغِيرَةٌ لَيْسَ فِيهَا خِسَّةٌ وَلا دَنَاءَةٌ فَأُمِرَ الرَّسُولُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْهَا فَاسْتَغْفَرَ.
وَلَكِنَّ الأَنْبِيَاءَ إِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ شَىْءٌ مِنَ الْمَعَاصِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خِسَّةٌ وَلا دَنَاءَةٌ يُنَبَّهُونَ فَوْرًا لِلتَّوْبَةِ فَيَتُوبُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ فِي تِلْكَ الصَّغِيرَةِ غَيْرُهُمْ فَيَفْعَلَ مِثْلَمَا فَعَلُوا لِأَنَّهُمْ قُدْوَةٌ لِلنَّاسِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ [سُورَةَ الْفَتْح/2] فَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ لِيَحْفَظَكَ اللَّهُ مِنْ ذَنْبِكَ فِيمَا مَضَى وَمَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ. وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ هَذَا.
بَعْضُ الأَشَاعِرَةِ قَالُوا لا يَجُوزُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَعْصِيَةٌ وَلا مَكْرُوهٌ لِأَنَّ النَّاسَ مَأْمُورُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَلَوْ كَانَ يَحْصُلُ مِنْهُمْ ذَنْبٌ أَوْ مَكْرُوهٌ لَكَانَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ لِلنَّاسِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْمَكْرُوهِ وَهَذَا بَاطِلٌ فَوَجَبَ تَنْزِيهُهُمْ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَالْمَكْرُوهِ بِالْمَرَّةِ. وَيُدْفَعُ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّهُمْ يُنَبَّهُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ أَحَدٌ فَيَتُوبُونَ [أَيْ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ يَتُوبُونَ] فَلا يَحْصُلُ اقْتِدَاءُ النَّاسِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ فَلا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الأَتْبَاعُ مَأْمُورِينَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْمَعْصِيَةِ وَالْمَكْرُوهِ وَبِذَلِكَ انْدَفَعَ الْمَحْذُورُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ النُّبُوَّةَ لا تَصِحُّ لِإِخْوَةِ يُوسُفَ الَّذِينَ فَعَلُوا تِلْكَ الأَفَاعِيلَ الْخَسِيسَةَ وَهُمْ مَنْ سِوَى بِنْيَامِينَ.
الشَّرْحُ مِنْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ لا تَصِحُّ النُّبُوَّةُ لِإِخْوَةِ يُوسُفَ وَهُمُ الْعَشَرَةُ الَّذِينَ فَعَلُوا تِلْكَ الأَفَاعِيلَ الْخَسِيسَةَ مِنْ ضَرْبِهِمْ يُوسُفَ وَرَمْيِهِمْ لَهُ فِي الْبِئْرِ وَتَسْفِيهِهِمْ أَبَاهُمْ بِقَوْلِهِمْ ﴿إِنَّكَ لَفِى ضَلالِكَ الْقَدِيمِ﴾ [سُورَةَ يُوسُف/95] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَهُمْ مَنْ عَدَا بِنْيَامِينَ أَيْ لَيْسَ بِنْيَامِينُ مِنْهُمْ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالأَسْبَاطُ الَّذِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ هُمْ مَنْ نُبِّئَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ.
الشَّرْحُ أَنَّ الأَسْبَاطَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي الْقُرْءَانِ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْيُ هُمْ غَيْرُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ءَاذَوْا يُوسُفَ بَلْ هُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ لِأَنَّ ذُرِّيَّتَهُمْ مِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ النُّبُوَّةَ. وَالسِّبْطُ لُغَةً يُطْلَقُ عَلَى الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ. قَالَ تَعَالَى ﴿قُولُوا ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/136].