مسألة في التنزيه
قال الحافظ المحدّث ولي الدين أبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي [(322)] ما نصه [(323)]: «وقوله – أي النبي – «فهو عنده فوق العرش» لا بد من تأويل ظاهر لفظة «عنده» لأن معناها حضرة الشىء والله تعالى منزه عن الاستقرار والتحيّز والجهة، فالعنديّة ليست من حضرة المكان بل من حضرة الشرف أي وَضَعَ ذلك الكتاب في محل معظَّم عنده» اهـ.
وأما الساق فلم يرد مضافًا إلى الله في حديث صحيح. والرواية الصحيحة هي الموافقة لما جاء في الكتاب من قوله تعالى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ … *﴾ [سورة القلم].
وقد فسر ابن عباس الساق بالكرب والشدة ولا يعوَّل على رواية ساقه بالضمير.
وأما القدمُ والرجل [(324)] فمعناه الجماعة الذين يُقدمهم الله للنار فتمتلئ بهم وذلك فيما رواه البخاري وغيره [(325)]: «لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع ربُّ العزة فيها قَدَمَهُ فتقول قَطٍ قَطٍ».
وكذلك ما ورد أن النار لا تمتلئ حتى يضع الله فيها رجله فتقول قط قط المراد بالرجل الفوج الذي يملأ الله بهم النار [(326)]. ولغة العرب صالحة لهذا المعنى [(327)]. ولا يجوز جعل القدم والرجل من باب الصفات بل الإضافة فيهما إضافة مِلْكٍ. فمن جعل لله قَدَمًا ورِجْلاً بمعنى الجزء فقد جعل الله مثل خلقه وذلك كفر وكذَّب قول الله تعالى ﴿ لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا … *﴾ [سورة الأنبياء] فقد أفهمنا أن كلَّ شىء يرد النار فهو مخلوق ليس بإله.
وقد شنع أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي على من حمل الحديث على ظاهره فقال: تعالى الله عن أن لا يَعمَل أمره في النار حتى يستعين عليها بذاته أو صفاته وهو القائل للنار ﴿ … يانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا … *﴾ [سورة الأنبياء]. فمن يأمر نارًا أججها غيره أن تنقلب عن طبعها وهو الإحراق فتنقلب كيف يحتاج في نارٍ يؤججها هو إلى استعانةٍ اهـ نقله الحافظ في تفسير سورة «ق» [(328)].
قال الشيخ بدر الدين بن جماعة ما نصه [(329)]: «الحديث الثالث عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال جهنَّم تقول هل من مزيد حتى يضع ربُّ العزَّة فيها قدمه فتقول قط قط وعزتك .. » الحديث. وفي رواية أبي هريرة «تحاجَّت الجنة والنار، قال وأما النار فلا تمتلئ حتى يضع الجبار فيها رجله» الحديث.
ثم قال ما نصه [(330)]: واعلم أن من العلماء من جزم بضعف هذا الحديث وإن أخرجه الإمامان لأنهما ومن روياه عنه غير معصومين، وذلك لما قدَّمته من الأدلة العقلية والنقلية.
أما النقلية فقوله تعالى ﴿ … لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ… *﴾ [سورة هود] وقال ﴿…لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ … *﴾ [سورة ص] وهذا صريح في ردّ من زعم أنه قَدَمُ الرب تعالى وتقدّس عن ذلك فلا جواب عنه إلا بالردّ إلى التأويل أو ردّ ذاك الحديث.
وأما العقلية فلأنَّ الجنة والنار جمادان فكيف يتحاجَّان؟ سلمنا أن الله تعالى خلق فيهما حياة فقد علما أن أفعال الله كلها صواب وحكمة فكيف يتحاجَّان» اهـ.
ثم قال: «سلمنا أن العذاب يبقى ولا تؤثر النار» اهـ فالنار إنما سألت المزيد من مستحقي العذاب لا المزيد من القدم الذي زعموه. فبان بكل ما ذكرناه لزوم أحد التأويلين لا محالة.
وقال شرف الدين التلمساني في شرح لمع الأدلة ما نصه [(331)]: «فقالوا في قوله تعالى ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا … *﴾ [سورة القمر] أي بكلاءتنا وحفظنا. وقولُهُ تعالى ﴿ … بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ … *﴾ [سورة المائدة] محمول على يد القدرة والنعمة، وقوله تعالى ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ … *﴾ [سورة القلم] تعبير عن شدة أهوال يوم القيامة كما يقال كشفت الحرب عن ساقها، وقوله عليه السلام [(332)]: «إن الله خلق ءادم على صورته» أن سبب ذلك أنه عليه السلام رأى شخصًا يلطِم وجه عبدٍ فأنكر عليه وقال: «إن الله خلق ءادم على صورته» أي على هذه الصورة المكرمة قالها عائدةً على العبد لا على الله تعالى، وقيل إنها تعود على ءادم بمعنى أن الله تعالى خلق ءادم على الصورة التي كان عليها ولم يردده في أطوار الخِلقة كما خلقنا من نطفةٍ ثم من علقة ثم من مضغةٍ وقولُهُ عليه السلام [(333)]: «حتى يضع الجبار فيها قدمه» أن الجبار ليس من الأسماء الخاصة بالله تعالى والمراد به جبار يعلم الله علوَّه واستكباره كإبليس وأتباعه مثلًا أو النمرود وجنوده وقد قال عليه السلام [(334)]: «أهل النار كل متكبر جبار» وأما الاكتفاء في إيمان السوداء بإشارتها إلى السماء فلأنها كانت خرساء فاكتفى عليه السلام بإشارتها إلى السماء بدلالتها على التبرؤ من عبادة الأصنام والإشارةِ إلى العلو فقال [(335)] «أعتقها فإنها مؤمنة»، وقوله ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ … *﴾ [سورة الأنعام] في الآية ما يعيّن الفوقية بالقهر وهو فوق كل ممكن بوجوب ذاته واستغنائه عنه وافتقاره إليه، وقوله تعالى ﴿ … مَنْ فِي السَّمَآءِ … *﴾ [سورة الملك] أي سلطانه كما قال تعالى ﴿…وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ …*﴾ [سورة الزخرف]، وقوله تعالى ﴿…الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى …*﴾ [سورة طه] يحمل على القهر والغلبة كما أشار إليه صاحب الكتاب أو على القصد إلى خلق شىء في العرش كما صار إليه الثوري وقيل المراد بالعرش المُلك والاستواءُ التناهي في الصفات والتناهي في صفات المُلك انفراده به تعالى خلقًا وتدبيرًا من غير ظهير ولا مُعين وتحقيق هذا التأويل أنه حيث ذكر الاستواء في الكتاب العزيز ذكره مُحْتَوَشًا بذكر الخلق والتدبير وأما رفع الأيدي إلى السماء فلأنها قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة ولأنها مهبط الوحي ومعدن الأرزاق ويعارضه قوله تعالى ﴿ … وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ *﴾ [سورة العلق] وقوله عليه السلام: «أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجدًا» فلو كان ذلك باعتبار المسافة لم يكن الساجد أقرب إلى ربه، فإن قالوا جميع ما ذكرتموه تأويل والتأويل ممنوع منه قلنا قد أولتم قوله تعالى ﴿ … وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ … *﴾ [سورة الحديد] وقوله تعالى ﴿ … مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ … *﴾ [سورة المجادلة] الآية وقوله عليه السلام [(336)]: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» وقوله عليه السلام [(337)]: «الحجر الأسود يمين الله في أرضه» فحملتم [المعية] في الآيتين على معية العلم والإحاطة والمشاهدة كما قال تعالى لموسى وأخيه هارون ﴿ …إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى *﴾ [سورة طه]، وحملتم قوله عليه السلام: «قلب المؤمن بين إصبعين» أي يقلبه كيف يشاء، وحملتم قوله عليه السلام: «الحجر الأسود يمين الله في أرضه» أي محل عهده الذي أخذ به الميثاق على بني ءادم فإن صح منكم تأويل ذلك لمخالفته العقل فيجب تأويل جميع ما تمسكتم به كذلك قالوا إنما أولنا ذلك لأنه خلاف ضرورة العقل وما صرتم إليه يحتاج إلى نظر العقل وهو حرام وبدعة قلنا لا بد من الاعتراف بصدق نظر العقل وإلا لم يثبت لكم شرع تُسندون إليه شيئًا من المعارف والأحكام، فإن قالوا قال الله تعالى ﴿ … وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ … *﴾ [سورة ءال عمران] قلنا فقد قال تعالى ﴿ … وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ … *﴾ [سورة ءال عمران] فإن قالوا يجب الوقوف على قوله ﴿ … إِلَّا اللَّهُ … *﴾ وتكون الواو للاستئناف وليست عاطفة وحظ «الراسخون في العلم» الإيمان به قلنا الإيمان به واجب على عموم المؤمنين فلا يبقى لوصفهم بالرسوخ في العلم وأنهم أولو الألباب فائدة بل الراسخ في العلم ذو اللب يعلم من المتشابه الوجه الذي شابه به الباطل فينفيه والوجه الذي شابه به الحق فيثبته كقوله تعالى ﴿ … وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي … *﴾ [سورة الحجر] متردد بين البعضية وهو باطل وبين إضافة التشريف والتعظيم وهو حق فيعينه له» اهـ. قال البيهقي في الأسماء والصفات [(338)] في قوله تعالى ﴿ … فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ … *﴾ [سورة البقرة]: «فقد حكى المزني عن الشافعي أنه قال في هذه الآية يعني والله أعلم فثم الوجه الذي وجَّهكم الله إليه»، ثم روى البيهقي [(339)] عن مجاهد بإسناده أنه قال: «فثم قبلة الله» وهو معنى كلام الشافعي.
وأما العين واليد والرضا والغضب ونحو ذلك مما جاء به الكتاب أو الحديث الثابت الصحيح الإسناد المتفق على توثيق رواته فمحمول على أنه صفة أزلية، بخلاف ما أضيف إليه تعالى إضافة مِلْكٍ وتشريف كالروح. قال أبو حنيفة في «الفقه الأكبر» [(340)]: «وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف» يعني أن رضاه وغضبه ليس من الانفعالات التي تحدث في ذاته تعالى لأنه لو كانت تحدث له صفة لكان ذاته حادثًا.
وكذا يقال في محبته لما يحب وكراهيته لما يكره ليس انفعالًا حادثًا في ذاته بل جميع ذلك ونحوه مما يضاف إليه تعالى من الصفات الأزلية ليس حادثًا في ذاته، هذا فيما يضاف إلى الله على أنه صفة. قال الإمام أبو حنيفة [(341)]: «التغير واختلاف الأحوال يحدث في المخلوقين» اهـ، أما ما يضاف إليه إضافة مِلك فالأمر ظاهر. وهناك ما لا يصح أن يضاف إليه لا على معنى الصفة ولا على معنى المِلك كقول بعض المفترين على الله «كلمةٌ خرجت من فم الله» زعمًا منه أنها من الإنجيل وهو نقلها من بعض هذه الأناجيل المحرفة، ولا يدري أنه لا يصح النقل منها [(342)]، ومن ذلك قول بعض المتهورين إن إطلاق الأب على الله كان في الإنجيل بمعنى أن الله متولي المسيح بالعناية لا بمعنى الأبوة الحقيقية. والحق الذي لا محيد عنه أنه لم يَرِد في كتاب سماوي إطلاق الأب عليه تعالى. وأما هذه الكتب المحرفة فلا اعتماد على نقلها. وقد ألَّف الحافظ السخاوي في الزجر عن ذلك كتابه المسمى «الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل».
ـ[322] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الأيمان والنذور: باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته، ومسلم في صحيحه: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها: باب النار يدخلها الجبارون.
ـ[323] انظر شرح صحيح مسلم (18/ 183).
ـ[324] قال في القاموس (ص/1298): «الرِّجْل: الطائفة من الشىء والقطعة العظيمة من الجراد».
ـ[325] فتح الباري (8/ 596 – 597).
ـ[326] إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص/159).
ـ[327] إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل (ص/162).
ـ[328] شرح لمع الأدلة (ص77) ق.
ـ[329] رواه البخاري في صحيحه: كتاب الاستئذان: باب بدء السلام.
ـ[330] عزاه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (4/ 383) لأبي يعلى.
ـ[331] عزاه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (4/ 385) لأبي يعلى، قال الحافظ البوصيري في إتحاف الخيرة (8/ 214): «رواه أبو يعلى بسند ضعيف لتدليس محمد بن إسحاق، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 392): «رواه أبو يعلى ورجاله وثقوا إلا أن ابن إسحاق مدلس».
ـ[332] تقدم تخريجه.
ـ[333] رواه البيهقي في الأسماء والصفات: باب ما ذكر في الأصابع، (ص/341).
ـ[334] رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6/ 328).
ـ[335] و [(1292)] الأسماء والصفات (ص/309).
ـ[336] شرح الفقه الأكبر (ص/68).
ـ[337] شرح الفقه الأكبر (ص/82).
ـ[338] وقد ورد في الزجر عن الاعتماد على النقل من التوراة والإنجيل بعد التحريف حديث أخرجه الطبراني وغيره بإسناد قريب من الحسن على ما يفهم من كلام الحافظ ابن حجر.
ـ[339] شرح ملا علي القاري (ص/30 – 32).
ـ[340] شرح ملا علي القاري (ص/65).
ـ[341] الشىء له إطلاقان: الأول الموجود وهو المراد بقولهم الله شىء لا كالأشياء والثاني ما تعلقت به مشيئة الله أي ما خُلِقَ وحدث بمشيئة الله. وبمعنى الأول قوله تعالى {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً … *} وبمعنى الثاني قوله { … وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ *}.
ـ[342] شرح ملا علي القاري (ص/44 – 45).