مجلس كتاب “سمعت الشيخ يقول -79
الدنيا للزوال
قال فضيلة الشيخ الدكتور جميل حليم الحسيني غفر الله له ولوالديه ومشايخه
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدِنا محمد طه النبيِّ الأمي الأمين العالي القدر العظيم الجاه وعلى آله وصحبِه ومَنْ والاه
وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّهُ وحبيبُه وخليلُه صلى الله عليه وسلم وشرّف وبارك وعظّم على جميعِ إخوانِه من النبيين والمرسلين
الدنيا للزوال: (لمّا قيل للشيخ رحمه الله رحمة واسعة أقيمَ عندَنا درس، امرأة أخْبَرَتْهُ)
قال الإمام الهرري رضي الله عنه: اللهُ أرادَ بكِ خيرًا أنْ يسّرَ لكِ درسًا في البيت هذا خيرٌ كثيرٌ احمدي اللهَ.
)هي تستطيع أنْ تجمعَ أولادَها والأرحام والأقارب والجيران ويأتي الأستاذ الداعية أو الشيخ أو المدرّس فيُدرِّس في بيتِها تكون هي سبب هذا الخير ولها أجرٌ عظيم وبركةٌ كبيرة، ثم هذا المجلس الذي يُقام فيه الدرس ينزِل فيه من البركات والخيرات والأسرار، هي أستاذة أو مدرّسة وإنْ لم تكن فتطلب مدرّسًا أو مدرّسةً على حسب الحاجة، وقد يكون في البيت مجلسٌ للرجال وفي يومٍ آخر مجلسٌ للنساء وقد تعمل بعض النساء الكريمات الطيبات مجلس للبنات الصغيرات أو للصبيان، فيكون هذا البيت عامرًا بالخيرات.
وشيخُنا رضي الله عنه بيتُه كان مفتوحًا لطلبةِ العلمِ في الليل والنهار وكانوا يَبيتونَ فيه وكان رضي الله عنه من الفجر يستقبلُ الناس وهكذا إلى الليل ثم ينصرف الناس بعدَ أنْ يحضروا الدروس والمجالس ويُحصِّلوا الخيرات ويصَلّوا جماعةً وطلبة الشيخ الذين يَبيتونَ في البيت لحفظِ العلم يقرأون هناك يطالعون يدرسون يحفظون وهكذا، يصلون العشاء جماعةً ثم قيام الليل ثم الفجر جماعةً، هكذا كان بيت الشيخ وكان مفتوحًا للكبار والصغار والرجال والنساء.
فإذًا كلّ واحدٍ منكم وكلّ واحدةٍ منكنّ ينبغي أنْ لا يبخلوا على أنفسِهم بإقامةِ مجالس العلم في بيوتِهم، يعني أنتم إذا أقمْتُم مجالسَ العلمِ في بيوتِكم تُساهمونَ في نشرِ العلم لأنّ منَ الناس مَنْ لا يذهب إلى المسجد ولا يذهب إلى المصلى ولا إلى مراكز الجمعية مثلًا، فأنتم في البيوتَ يصير سهلًا على الجيران وعلى الأهل وبعضُ الناس ربّما بدعوى الخجل لا يذهب إلى الأماكن العامة أما إلى بيتِ قريبِه أو قريبتِه فيَحضُر، فإذًا أنتم بهذا تُساهمونَ في نشرِ العلم ولكم من الخير والبركة.
سمعتم ماذا قال الشيخ رحمه الله، قال هذا خيرٌ من الدنيا وما فيها. فأنتِ أو أنتَ إذا كنتم سببًا بإقامةِ مجالس العلم فتَحتمْ درسًا لاحظوا ما لكم من الخير من البركة أي شىءٍ لكم من الأجر، لكم ما هو أفضل وأعظم وخيرٌ من الدنيا وما فيها، لأنكم بهذا العلم وبنشرِه والعمل به تحُصّلون المراتب العليّة والدرجات الكبيرة الرفيعة السنِية.
والمُطالع في التواريخ والسيَر يرى أنّ منَ الأرِقّاءِ والعبيد مَنْ سادوا بسبب العلم، يعني كان عبدًا مملوكًا سيِّدُهُ أعتقَه صار عالمًا مقصِدًا للناس بل إنّ عددًا ممّن كانوا من الأرِقّاء والعبيد صاروا أئمةً في العلم، ولو رجعتم إلى كتبِ المصطلَح تجدونَ كثيرًا من هؤلاء.
يصير هذا الإنسان الذي كان عبدًا مملوكًا بسبب العلم وقوّتِه في العلم وعلُوِّ درجتِه فيه يصيرُ إمامًا للناس ومقصودًا ومقصِدًا، حتى إنّ الملوكَ والأمراء يقفونَ على بابِه بسبب العلم وبركتِه.
ثم إنّ الكثير من الناس يُغفِلونَ أمرَ العلم وشأنَ العلم وهذا بسبب غفلتِهم، لذلك ينبغي أنْ ننتبهَ جميعًا لأهميةِ هذا الأمر.
لاحظوا إلى عبارتِه، قال “هذا خيرٌ كبير خيرٌ من الدنيا وما فيها”، يعني هذا المجلس خيرٌ لك أو خيرٌ لكِ من الدنيا وما فيها.
مجلس علم واحد تكونونَ سببًا في إقامتِه وإنشائِه وفتحِه خيرٌ لكم من الدنيا وما فيها فلا تبخلوا على أنفسِكم، أنتم تقَوَّوْا بالعلم واعملوا على نشرِه.
كم وكم من الأئمة والعلماء رضوانُ الله عليهم صاروا مشاعلَ هدى ونور وصاروا أنفع للعباد والبشر من الكوكب المُضىء في السماء بل صاروا كالعافية للبدن وكالشمس للناس والدنيا.
هذا الإمام أحمد رضي الله عنه كم كان يمدح الشافعي ويُثني عليه؟ كان يقول عنه كالشمس ويقول عنه كالعافية للبدن، إذًا هؤلاء الأئمة العظام الذين حفظوا الدين ونشروا الإسلام وأنشؤوا هذه المدارس التي ما زالت إلى اليوم يتناقلُها الناس الخلف عن السلف أيُّ خيرٍ لهم عند الله؟
تخيّلوا مثلًا أنْ يكونَ في صحيفةِ الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه مئات الملايين من البشر الذين تعلّموا بسببِه، الشافعي منذ متى مات؟ لكن علمُه إلى الآن ينتشر يتوسّع.
هو رضي الله عنه وُلد سنة 150 للهجرة مات 204 لكن إلى اليوم مئات الملايين من البشر انتفعوا بالشافعي وبعلمِه رضي الله عنه، والشافعي يستحقّ أنْ يُترَضَّى عنه وأنْ يُترَحَّمَ عليه وأنْ يُدعى له حتى في السجود، كذلك الرفاعي الكبير، أبو الحسن الأشعري أبو منصور الماتريدي أبو حنيفة مالك أحمد الأوزاعي، هؤلاء إلى الآن علمُهم وما قدّموا من الخيرات والبركات والعلوم للأمة الأجيال والبشر ينتفعون بهم وبعلومِهم.
لاحظْنا أحيانًا بعض الناس قد يتأثّرونَ بالغزوات بالفتوحات والبطولات التي تكون في ميادينِ الجهاد وبالسيفِ وعلى الخيل، يبقى بعض الناس مثلًا يتحدث عن فتوحات خالد بن الوليد رضي الله عنه وهو يستحق ذلك هذا الكرّار هذا البطل الأسد الذي كان من العجائب في القتال من جرأتِه وشجاعتِه يقتحمُ جيشًا بأكملِه، هذا مثلًا سيدُنا خالد إلى اليوم كم وكم نتغنّى بفتوحاتِه؟
عمر بن الخطاب علي بن أبي طالب محمد الفاتح، فلان وفلان، هم كثُر لكنْ أنا أسألُكم هذا السؤال: اليوم في هذا العصر هل يوجد من هؤلاء الفاتحين والأبطال الذين نصروا الدين والإسلام بالسيف والدرع في المعارك والجهاد؟ اليوم؟ بحسب الظاهر لا يوجد.
لكنْ لا تنسَوا العلماء الذين هم في المقابل ربّما عمِلوا أحيانًا أكثر ممّا يعمله السيف لأنّ العالِم بعلمِه يُدخل الكفارَ في الإسلام ويرد على الكفار والمشركين وفرق الضلالة.
مثلًا لو نظرْنا في سيرةِ شيخِنا رحمه الله، لو نظرْنا في سيرة القائد الشيخ نزار حلبي رحمه الله، كم لهما منَ المواقف البطولية؟ كم لهما من الأعمال العظيمة منْ نشرِ الدين والعلم ومن الجرأة العجيبة في الرد على أهلِ الضلال، في التحذيرِ من المُطَرِّفين ممّن نشروا الكفر والتشبيه والتجسيم في الدنيا؟
تخيّلوا أنتم مثلًا هذا البطل هذا الجرىء الشجاع المِقدام الذي كان قلعةً مُتَقَدِّمةً في حمايةِ الدين والعقيدة والإسلام، الشيخ عبدِ الله الهرري الذي واجهَ كل فرق الضلالة والذي واجَه المشبهة المجسمة مع جحافلِ أموالِهم وفرَقِهم التكفيرية والتخريبية والتدميرية والتفجيرية في كلّ الدنيا، أرعبوا الدول قتلوا الرؤساء هتكوا الأعراض، من الذي جابَهم؟ من الذي واجهَهم؟ هذا الإمام العظيم الشيخ عبد الله الهرري، هذا البطل الكبير نزار حلبي، هذه الجمعية المباركة جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية.
فهذه البطولات وهذه الفتوحات وهذا التقدّم والنصر والاقتحام والتصدّي والتصدّر لا يقلّ عن فتوحاتِ بعض الأبطال الذين فتحوا بالسيف، بل ربما كان الفتح بالعلم في بعض الأحيان أعظمُ فائدةً من الفتح بالسيف، لماذا؟
مثلًا القائد الفلاني لو قتلَ مائة كافر في المعركة وحرّر وفتح وانتصر لكنْ هذا العالِم بسببِه وبعلمِه أسلمَ مائة إنسان، حذّرَ منْ أهلِ الضلال وقف في وجهِ جحافل الجهل الجرارة المنتشرة وأوْقفَها، هذا ثوابُه أعظم من قتلِ الكافرين في المعركة.
قتل كافر بالسيف أو إدخال الكافر في الإسلام بالشهادتين وبالعلم، أيُّ النفعيْنِ أعظم؟
إدخالُه في الإسلام، لكن الناس اليوم لا ينتبهون شغلَتْهم الدنيا والأمور التي تجرُّهم إلى الملاهي إلى المفاسد، يعني الآن كم من الناس يتحضّرون بزعمِهم لما يسمى بسهرة رأس السنة من الفسق والمجون والانحلال الخُلقي والمخدِّرات والفساد والمعاصي والزنا وشرب الخمر والرذيلة وهتك الأعراض، ويضحكون ويفرحون ويتبجّحون ويُنزلون ما يُحضِّرونَ على الفيس بوك يُشهِرونَ ذلك للناس ويُشجِّعُ بعضُهم بعضًا على الفساد، هذا الذي شغلَ الكثير من الناس.
بل حتى إنّ من المتعلّمين مَن لا ينتبه أحيانًا إلى عظيمِ بطولات وفتوحات هذا الإمام العالِم وما عملَ في هذا العصر، انظروا إلى فتوحات الشيخ عبد الله الهرري، كم وكم من مشايخ ومفاتي وقضاة ودكاترة ورؤساء جمعيات وجامعات لم يتجرأوا أنْ يجهَروا بالحق ولم يتجرؤوا أنْ يُحذِّروا من المتطرّفين ومن المشبهة المجسمة، هذا الرجل بتوكُّلِه على الله كان على كلِّ الجبهاتِ في وقتٍ واحد، هذا الرجل العظيم الشيخ نزار حلبي وهكذا إخوانُنا الدعاة في الدنيا الذين توزّعوا في الأرض ينصرونَ الدين وينشرونَ الإسلام، هؤلاء أبطال ولهم فتوحات يُحامونَ عن الدين ويحمونَ الدين ويحافظونَ على العقيدة وعلى الإسلام، يُدخلونَ الكفارَ في الإسلام وينشرون التوحيد والإسلام والتنزيه ويُحذّرونَ من الكفر والضلال، هذه بطولات عظيمة كبيرة، لذلك بالعلم الإنسان ينالُ هذا الشرف فلا تبخلوا على أنفسِكم.
مرةً حصل حادثة يقال أنّ إحدى الإماء عند هارون الرشيد –وهارون الرشيد كان حاكمًا قويًّا مشهورًا وله حكم ممتد وواسع على كثير من بلاد العرب والعجم- جاء مرةً إلى قصرٍ له في الرقة سوريا يجتمع عليه الناس يخرجونَ لاستقبالِه وهذا أمرٌ عاديٌّ أنّ الرئيس الحاكم الخليفة جاء، رجال الدولة يخرجونَ معه.
بعد أنْ وصل واستقرّ في الرقة مدةً حصل ضجيجٌ عظيمٌ في الرقة أعظم وأكبر وأوسع مما حصلَ عندَما دخل هارون الرشيد، إحدى الإماء التي لها شأن عند هارون الرشيد نظرَت فرأت الازدحام في البلد والغبار والأصوات، قالت ما الأمر ما الذي حصل ما الذي حلّ؟؟؟
قالوا لها فلانٌ الإمام العالِم جاء إلى الرّقة، قالت: “هذا الحكم لا ما تجمعُه السياطُ والخشب”، يعني هذا العالِم جاء وحدَه لكنْ لحبِّ الناس له ولانقِيادِهم له ولتعظيمِهم له ولما له عندَهم من المكانة المقدَّمة خرج الكبار والصغارُ والرجالُ والنساءُ والخاصةُ والعامةُ لاستقبالِه فحصل ضجيجٌ في البلد واستقبالٌ أكبر مما حصلَ للخليفة، قالت هذا الحكم، يعني من حيثُ المعنى، لأنه جمع الناسَ عليه بالعلم، قالت لا ما تجمعُه السياط والخشب، لأنّ بعضَ الملوك والرؤساء إنما يجتمعُ عليهم الناس خوفًا من الضرب بالخشب أو السياط.
لذلك ينبغي لنا أنْ نعتنيَ بالعلم لأنفسِنا لأولادِنا لأهلِنا وأنْ لا نقصّر في نشر هذا العلم والخير.
*وقال رضي الله عنه وأرضاه: الدنيا للزوال.
)الدنيا لنْ نبقى فيها ولن نُخلَّد فيها يعني الآن كم سيعيش الواحد منا بعد ذلك سيموت. الواحد منا الآن ليُفكّر بنظرة سريعة أين الأجداد أين الذين سبقوا إنْ كان من الكبار والصغار ومن الأغنياء والفقراء؟ أين الذين دفنّاهم بأيدينا؟ أين الذين صلّينا عليهم؟ أين الذين حضَرْنا جنائزَهم؟ وهكذا الدورُ علينا قريب، إذًا الدنيا للزوال ليست للخُلدِ والبقاء بل الدنيا خلقَها اللهُ لتزول لتَفنى لأنه سبحانه قال {كلُّ مَنْ عليها فان}[الرحمن/٢٦] واللهُ تعالى قال {ووجدوا ما عمِلوا حاضرًا ولا يظلمُ ربُّكَ أحدًا{[الكهف/٤٩]
إذًا الدنيا دارُ عمل كما قال سيدُنا عليّ أميرُ المؤمنين بابُ مدينةِ العلم رضي الله عنه وأرضاه “ارتحلت الدنيا وهي مُدبِرة وارتحلت الآخرةُ وهي مُقبِلة فكونوا منْ أبناء الآخرة ولا تكونوا منْ أبناء الدنيا اليومَ العمل ولا حساب وغدًا الحساب ولا عمل”
قال ربُّنا {ووجدوا ما عمِلوا حاضرًا}[الكهف/٤٩] وجدوا في الآخرة جزاءَ ما عملوه، هذا الجزاء والحساب يَروْنه في الآخرة على ما عمِلوه وعلى ما قدّموه في الدنيا.
فالدنيا مزرعة أنت انظرْ لنفسِك ماذا تزرع فيها؟ إنْ زرعْتَ ما ينفعُكَ حصَدْتَه وانتفَعْتَ، وإنْ زرَعْتَ ما يعودُ عليك بالضرر والأذى والخيبة فيا حسرَتك ويا خيْبتَك ويا تعسَك ويا بؤسَك.
كلٌّ منا الآن لِيُقَدِّم في هذه المزرعة ما ينفعُه غدًا في يوم الحصاد، غدًا تُوَفّى النفوسُ ما كسَبَت ويحصُدُ الزارعونَ ما زرعوا إنْ أحسنوا أحسنوا لأنفسِهم وإنْ أساءوا فبئسَ ما صنعوا.
لذلك ينبغي أنْ لا نبخل على أنفسِنا بالتزوّد من هذه الفانية للباقية، ينبغي أنْ لا نُغفِلَ هذه الحقيقة أننا راحلون وأنّ الدنيا للزوال وأنها لم تُخلَق للبقاء إنما خُلِقَت للفناء والزوال.
واعلموا أيها الناس أنكم لم تُخلَقوا في هذه الدنيا لتُخَلَّدوا فيها بل لتُؤمَروا بالعملِ والطاعة ثم لتَموتوا فترحلوا عنها فتُوافوا الحسابَ والسؤال والميزان يوم القيامة، فاستعدوا لتلكَ اللحظة ولذلك اليوم قبل الحسرة والندامة والبكاء في يومٍ لان ينفعُ فيه البكاء، فاستعدّوا وتهيّؤوا قبلَ أنْ تموتوا فالدنيا وما فيها للزوال وما مضى منها أكثر مما بقيَ لها، ألا نعتبر ممّا رآهُ صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج؟ أليس منْ جملةِ الأشياء التي رآها عليه الصلاة والسلام الدنيا بهيئةِ عجوز؟؟ قد يسأل البعض كيف يعني رأى الدنيا بهيئةِ عجوز؟
اللهُ لا يُعجزُه شىء ربي قادرٌ على كلّ شىء، صوّرَ الدنيا بهيئةِ عجوزٍ فرآها الرسولُ صلى الله عليه وسلم وقال له جبريل هذه الدنيا، وهذه حكمةٌ عظيمةٌ بالغة، يعني ما مضى منها أكثر مما بقي لها.
لو نظرْتَ مثلًا إلى البنت الشابة عمرها 13 سنة بحسب العادة هل التي عمرها مائة سنة أو مائتين أو ثلاثمائة هل تعيش ما تعيشُه البنت التي عمرُها بالنسبة لهذه العجوز كلا شىء؟
نتكلم بحسب العادة وليس بالأمور المُسْتَثناة أو التي هي نادرة، معناه أنّ الدنيا ما مضى منها أكثر مما بقي لها، فلْنَسْتعدّ ولْنَتَهيّأ قبل فواتِ الأوان.
رأى الدنيا بهيئة عجوز أي أنّ ما مضى منها أكثر مما بقيَ لها يعني تهيّؤوا إلى الموت صائرونَ للفناء راحلونَ عن الدنيا استعدّوا دنا الأجل اقتربَ الرحيل، هذا معناه لكنْ سرعانَ ما ننسى، سرعان ما نغفل، سرعانَ ما يَقسى هذا القلب بسب أنّ الدنيا أكلَتْنا وبسبب أننا غرِقنا فيها وبملذّاتِها، والغفلة وقسوة القلب، القلبُ إذا قسى واسودّ بسب الذنوب والمعاصي وبسبب الانغماس بملذّاتِ الدنيا وشهواتِها وعدم الاتعاظ والاعتبار فالخطرُ كبيرٌ وعظيم.
إذًا الدنيا للزوال، أنْ تقيموا مجلسَ علمٍ في بيوتِكم وهذا لكلّ واحدٍ وواحدةٍ منا، يعني أنتم الآن كم عددُكم يا إخواني الذين تحضرونَ هذا الدرس والذين يتابعونَه في الليل أو غدًا، مَنْ هم الآن في الصفحة كم عددُكم قليل أو وسط أو كثير، لكنْ إلى الغد إلى ما بعدَ الغد كم يصير عدد الذين يشاهدون هذا الدرس؟ ستون ألف سبعون ألف؟
تخيّلوا إذا سبعون ألف إنسان كل واحد أقام مجلسَ علمٍ في بيتِه، حيثُ أنتم وأينما كنتم، تتخيّلون الفائدة؟ سبعون ألف مجلس علم متوزّعة في الدنيا في أوقاتٍ مختلفة أيُّ خيرٍ وبركة هذا؟ نور يشع وينتشر في الأرض في الدنيا، هكذا العلم، وفائدةُ العلم أعظم من فائدة الشمس، فائدة الدين أعظم من فائدة القمر لذلك لا تبخلوا على أنفسِكم الدنيا للزوال للفناء لن نبقى ولن نُخلَّد لا نحنُ ولا أنتم.
ثم حكى لها الشيخُ رضي الله عنه باختصار قصة شدّاد بن عاد، وهذه القصة فيها عبرة كبيرة وفيها موعظة عظيمة لكنْ ينبغي أنْ نسمعَ بقلوبِنا لنَتّعظ، الأصل أنْ يدخلَ الكلام من الأذن إلى القلب وأنْ يكونَ القلبُ مستعِدًّأ مُتأثِّرًا فينتفع بهذه الموعظة.
أما القلب إذا كان فسد وقسى واسودّ وأظلم لو سمعَ مائة موعظة قد لا يتأثر، ومسخُ القلوبِ شىءٌ خطير قسوةُ القلوب وظلمتُها شىء خطير.
تعالَوا لنَنظرَ إلى قصة شداد بن عاد لكن مع الاتّعاظ والاعتبار يعني نرى إذا كان شداد بن عاد ما دامت له الدنيا ولا القصور ولا الذهب ولا الزعامات، فهل تدوم لك أنت أيها الفقير أو أنتِ أيتها المسكينة أو أنا الضعيف العاجز؟ لا دامت لشداد ولن تدومَ لنا فلنَتّعظْ ولنَعتبِر.
ما هي قصة شداد بن عاد؟
الله يقول في القرآن الكريم {ألم ترَ كيف فعلَ ربُّكَ بعاد}[الفجر/٦] هذا شداد بن عاد كان عاش تسعمائة سنة على الكفر وكان من تجبّرِه وتكبّرِه وتعَجْرُفِه وانتفاخِه عندما سمعَ عن أوصاف الجنة وأنها قصورٌ من ذهب وقصورٌ من فضة لبِنةٌ من ذهب ولبِنةٌ من فضة وتربتُها كذا وأرضُها كذا وأنهارُها كذا، المغرور والذي هو منْ أصحاب الأفهام السقيمة المُعوَجّة والقلوب المعكوسة والعقول المنكوسة لأنه من تكبّره وتجبّرِه قال هو يبني جنة على الأرض على زعمِه.
شداد بن عاد كان هو الحاكم والملِك على الأرض وكان يوجد 260 ملِك في الدنيا، موزعون هنا وهنا وهو الزعيم عليهم، أمرَ ملوك الأرض أنْ يجمعوا ما في بلادِهم من الذهب والفضة والمجوهرات واللآلىء واليواقيت وأنْ تُرسَل إليه، اختار بلاد عدَن من أرض اليمن في تلك الأزمنة المتقدمة البعيدة كانت تلك البلاد من أكثر بلاد الدنيا نعمةً وفاكهةً ورخاءً، كان العنقود الواحد من العنب حملُ بغل، وكانت المرأة إذا وضعت المِكتَل على رأسِها ومرّت بين الأشجار وتحتها منْ غيرِ أنْ تمسّ شجرة ولا حرّكتها ولا حرّكت الثمار وتمشي بين الأشجار تنزل الفاكهة فيمتلىء المكتَل، هكذا كان هواء طيب وماءٌ زلالٌ فراتٌ عذب ونعمةٌ ورخاء، هذه كانت بلاد عدن من أرض اليمن في زمن شداد بن عاد، اختارَ يبني على زعمِه هذه الجنة هناك وبدأ ملوك الأرض بجمع الذهب والفضة واللآلىء واليواقيت والجواهر ليُرسِلوها إليه إلى عدن، ملوك الأرض يشتغلون ومن معهم في البلاد من العمال والجنود يجمعون ويُرسلون، بقُوا عشر سنوات يرسلونَ له وبقيَ ثلاثمائة سنة في بناء تلك المدينة، هو عاش تسعمائة سنة على الكفر.
بعد كل هذا التعب يا حسرة هذا الخائب، اسمعوا واعتبروا واتّعظوا، ثلاثمائة سنة يبني بها ويتابع ويراقب أنْهى بناء تلك المدينة وأنشأ مدينة ثم عمل سورًا عريضًا وعلى السور بنى القصور غير التي في أرض المدينة وزيّن جدرانَها والقصور باللآلىء واليواقيت والجواهر، بقيَ عندَه الماء، لما سمع عن أوصاف أنهار الجنة كيف تتلألأ فكّر قال إذًا أضربُ ألواحًا من الفضة ثم يُجرَى الماءُ عليها، يعني عمل أرضًا للأنهارِ من الفضة ثم أُديرَت هذه الأنهار على هذه الأقنية التي من فضة فإذا ضرَبَتها الشمس تتوقَّد وتتلألأ بالجمال، يعني أجرى أنهار تلك المدينة على ضفافٍ من فضة، انتهى من ذلك فأمر وزراءه وأولاده وحاشيَته أنْ يجتمعوا وخرجَ أمامَهم مُنتَفِخًا مُتكبّرًا مُتعجرِفًا ليدخل تلك المدينة وهم خلفَه، جاءوا ووصلوا قبل أنْ يدخلوا تلك المدينة وقبل أنْ يتمتعوا بقصورِها وأنهارِها ماذا حصل؟
يقول اللهُ عز وجل {ألمْ ترَ كيف فعلَ ربُّكَ بعاد}[الفجر/٦] اللهُ القادر على كلّ شىء الذي لا يُعجزُه شىء الذي أبدعَ الكونَ والعالم خلق كلّ هذا العالم بقدرتِه سبحانه لا يُعجزُه شىء، قلبَ تلكَ المدينة بقدرتِه فجعلَ عاليَها سافلَها وانشقّت الأرض فابْتَلَعَتها وهم معها في الهلاك، هو ومَنْ معه والمدينة، اللهُ يقول {فصبَّ عليهم ربُّك سوْطَ عذاب}[الفجر/١٣] نوعَ عذاب دمّرَهم أنزلَ عليهم بلاءً من السماء وانشقت الأرضُ وابتلَعَتهم وابتلعَت تلك المدينة.
أين شداد بن عاد وأين الدنيا وأين الزعامة وأين الحكم وأين الملوك وأين الرؤساء وأين الأموال وأين الذهب وأين الياقوت؟ كل ذلك ابْتَلَعَته الأرض، هذا بعض ما جاء في قصة شداد بن عاد.
لذلك فلْنعتبِر ولْنَتّعِظ قبلَ أنْ نصيرَ في عِدادِ الأموات وقبل أنْ نوضَع تحت التراب وقبل أنْ يُفاجئَنا عزرائيل عليه السلام بالموت، فعزرائيل لا يستأذن على الأبواب ولا يمنعُه الحجّاب ولا تمنعُه الأبواب الحديدية ولا البنادق ولا القوات العسكرية، كل ذلك كلا شىء بالنسبة لعزرائيل عليه السلام.
ونذكر ما رواه الغزاليُّ رحمه الله من قصة ذلك الملِك الذي كان في بني إسرائيل وكان ظلم وطغى وفسد وأفسد وعظُمَ ضررُه على الناس، في يوم من الأيام هذا الحاكم هذا الرئيس هذا الزعيم أعطى أمرًا أنْ لا يُدخلَ أحدٌ اليوم إلى قصرِه وصار يتجوّل في قصرِه المُحاط بقلاع للمراقبة على الجبال وهذا الملِك يظنّ بنفسِه أنه في أمان ومأمن، وبينما هو يتجوّل رأى أنّ شخصًا لا يعرفُه حضرَ عليه تعجب الملِك الحاكم، كل ما يحيطُ به لحراستِه كلا شىء، قال هذا الحاكم الرئيس مَنْ أنت للشخص الذي حضر عليه فجأة: مَنْ أنتَ ومن الذي أدخلَكَ عليّ الدار؟
فقال: أما أنا فمَنْ لا يمتنعُ مني كلّ جبارٍ عنيد ولا شيطانٍ مريد وأما الذي أدخلني الدار فربُّها، ارتعب الحاكم خاف الرئيس فزعَ الظالم مع كل ما حولَه من حماية وحراسة وجيوش وعساكر، قال له إذًا أنت ملَك الموت، فأمهِلني ساعةً، شيئًا من الوقت كي أُحدِثَ عهدًا، قال ملَك الموت عليه السلام: هيهات انقضَتْ أنفاسُك، انتهى الأجل بكل كنوزِ الأرض لا يستطيع أنْ يؤخّرَ الأجل لدقيقة واحدة، بكل جحافل عساكر الدنيا لو كانوا مليارات لا يقدر منع عزرائيل ولا يقدر أنْ يؤخّرَ نفسَه دقيقة أو يزيد بعمرِه دقيقة.
انظروا الزلازل كيف تبلع البلاد، أين العساكر؟ أين الحكومات والدول والمطارات والقلاع العسكرية والجبال؟ كل ذلك يتدمر بزلزال، بلحظةٍ واحدة.
أليس في بعض الزلازل مما حصل في عصرِنا في ما مضى في بعض البلاد خمسة ملايين إنسان مع الأبنية والعمارات والمؤسسات العملاقة الضخمة ذهبت، ألا نعتبر ونتّعظ؟؟؟
زلزال عواصف نيران طوفان غرق كورونا، كم أنت ضعيفٌ أيها الإنسان!!!!
{وخُلِقَ الإنسانُ ضعيفًا}[النساء/٢٨] فقال له الحاكم لسيدنا عزرائيل فأمهلْني ساعةً كيف أحدِثَ عهدًا، قال هيهات انقضَت أنفاسُك، قال إلى أين، قال إلى لظى، النار السعير جهنم الحطمة، قال إلى لظى نزّاعةً للشوى، منْ عظيمِ حرِّها فروة الوجه والرأس تنسلخ تذوبُ وتقع، جلدُ الكافر في جهنم ينكوي ينشوي يحترق.
الإمام البيهقي يقول ” غِلَظ جلد الكافر في جهنم أربعون ذراعًا” يعني قريب العشرين متر هذا سماكة جلده، ويبقى العصب والروحُ والعظم، قال البيهقي سبعون ألف مرة في اليوم ينسلخ ينكوي ينشوي يقع ويخلق الله له جلدًا ءاخر، نسأل اللهَ السلامة والنجاة والأمن وحسن الختام وأنْ يتوب علينا وأن يُعتقَ رقابنا من النار، اللهُ يقول {كلما نضِجَت جلودُهم بدّلناهم جلودًا غيرَها ليَذوقوا العذاب}[ النساء/٥٦]
واللهِ نحن ضعفاء عاجزون لا قِبلَ ولا طاقةَ لنا بعذاب الله، ولا بشىء من البرد أوالحر أو المرض أو كورونا فكيف بعذاب القبر وكيف بعذاب جهنم؟؟؟
لا يموتُ في جهنم، يأتيه الموت من كلّ جانب وما هو بميّت، خلودٌ دائمٌ أبدي في أعظم وأكبر وأشد نار خلقَها الله {ولَعذابُ الآخرةِ أكبر لو كانوا يعلمون}[القلم/٣٣]
قال هيهات انقضَتْ أنفاسُك، قال فإلى أين؟ قال: إلى لظى نزاعةً للشوى، فقبضَه ووقعَ الحاكمُ ميتًا على الأرض، فلا العساكر ولا التساكر ولا الجيوش ولا الخدم ولا الحشم ولا القلاع ولا القصور ولا الجبال، كل ذلك ما استطاع أنْ يمنع عزرائيل بالدخول على هذا الحاكم.
فتوبوا إلى الله وأقبِلوا إلى طاعةِ الله تعلّموا وعلِّموا انصروا الدين انشروا الإسلام علّموا العقيدة والتوحيد والتنزيه حذّروا من أهلِ الكفر والضلال انصحوا الناس بالتي هي أحسن بالرأفة والرحمة، كلّ منا قد يُذنب فإذا رأيتَ مَنْ أذنب لا تعامله كأنه كافر وعدوٌّ لك تريدُ قتلَه لا، بل مدَّ له يدَ العونِ والإنقاذ.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يَحُثُّنا فيه على التوبة [التائب من الذنبِ كمَنْ لا ذنبَ له]
وقال عزّ وجل {قل يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسِهم لا تقنطوا منْ رحمةِ الله إنّ اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعًا}[الزمر/٥٣]
فأنت يا أخي إذا رأيتَ مَنْ تركَ الصلاة أو مَنْ كان وقع في الزنا أو في شرب الخمر أو القمار أو المخدِّرات أو الكذب أو الظلم أو السرقة، كنْ عونًا له على التوبة كن محبِّبًا له بالتوبة، كن مقرِّبًا له إلى التوبة، كن مساعدًا له ومدّ يدَ العونِ لإخراجِه من الحفرة التي وقع فيها ولا تضربْه برجلِك على رأسِه ليَغرقَ أكثر فأنت مُعرَّض أنْ تكونَ مكانَه.
فكم وكم من الناس الذين يقعون في الكبائر وربما أحيانًا في الكفر ثم يتشهدونَ ويرجِعون إلى الإسلام، أو يقع في كبيرة ويقول تبتُ وندمتُ ثم ينسى ذلك من نفسِه لكنّه إذا رأى صغيرةً من أخيه يُعاديه ويطعن فيه ويُحاربُه ويُشهِّر فيه ويرى القذاة في عينِ أخيه ولا يرى الجذعَ في عينِ نفسِه، بل يرى القذاةَ في عين أخيه ولا يرى الغابةَ والجبل في عين نفسِه، كلُّنا مُخطىءٌ ومُذنبٌ ومُتلَوِّث، نسألُ اللهَ أنْ يتوبَ علينا وأنْ يغفرَ لنا وأنْ يسامِحَنا وأنْ يُصلِحَنا
مُدّوا يدَ العونِ للناس ساعدوهم على التوبة لكم الأجر والخير والبركة والثواب
والحمد لله رب العالمين