الأربعاء ديسمبر 11, 2024

مجلس تلقي كتاب ” سمعت الشيخ يقول” (6)

قال الإمام الهرري رضي الله عنه:

 الرحمة

إذا دُعِيَ للكافرِ بالرحمة معناه الرحمةُ في الدنيا ليس معناه الرحمةَ في الآخرة. هؤلاء الذين يقولون “رحمةُ اللهِ عليه” إذا ماتَ كافر يكْفرون. في الدنيا أخذَ منْ نعمةِ اللهِ ما أخذ، تلكَ النعمة وبالٌ عليه في الآخرة لأنه ما شكرَ. الشكرُ هو الإسلام، أنْ يؤمنَ باللهِ ورسولِهِ. إذا آمَنَ باللهِ ورسولِهِ الذي أرسلَهُ لِيُتَّبَع لِيُصَدَّق هذا الشكر، أما مجرّدُ الإحسانِ إلى الفقراءِ والمساكين والتصدُّقِ على الأراملِ والأيتام، في الآخرةِ ليس له شىءٌ منْ تلكَ الصدقات.

(الكافر في الدنيا اللهُ تعالى رحمَهُ أما إذا ماتَ على الكفرِ فيكونُ والعياذُ باللهِ محرومًا منْ رحمةِ اللهِ في الآخرة. والدليلُ على ذلك أنّ اللهَ قال في القرآنِ في بيانِ أنّه رحمتَهُ سبحانه وسِعَت المؤمنينَ والكافرينَ في الدنيا قال {ورحمتي وسِعَتْ كلَّ شىءٍ}[الأعراف/١٥٦] يعني في الدنيا المؤمن والكافر فسأكتبُها – يعني أخُصُّها للذين يتّقونَ في الآخرة هي خاصة بالذين يتّقونَ الشركَ وسائرَ أنواعِ الكفر. فإذا مات الكافرُ على كفرِهِ لا يُقال رحمه الله، إذا مات على الكفرِ لا يُتَرَحّم عليه ولا يُستَغفر له ولا يُصَلّى عليه ولا يُدفَن في مقابرِ المسلمين. فدفْنُهُ في مقابرِ المسلمينَ حرامٌ لا يجوز.

كذلك حرامٌ الصلاةُ عليه لأنّهُ ماتَ على الكفر واللهُ سبحانه وتعالى قال في القرآنِ {ما كان للنبيِّ والذين آمنوا أنْ يستغفروا للمشركينَ ولوْ كانوا أولي قُرْبَى مِنْ بعدِ ما تبيّنَ لهم أنهم أصحابُ الجحيم}[التوبة/١١٣]

إذًا الكافر بعدَ موتِهِ على الكفرِ لا يُتَرحّم عليه، بل هذا الترحّم عليه مُخالِفٌ للقرآنِ لأنَّ اللهَ أخبرَنا أنه لا يرحم الكافر في الآخرة. فهذا الذي يقول عن كافرٍ مات الله يدخلُهُ الجنة اللهُ يرحمُهُ أسكنَهُ اللهُ فسيحَ جِنانِهِ، هذا عارضَ القرآن عارضَ الإسلام، هذا كأنهُ يقول والعياذُ بالله يا رب كذِّبْ نفسَكَ وارحمْهُ في الآخرة، كأنه يقول يا رب كذِّبْ ما أنزلْتَ في القرآن واغفرْ له واجعلْهُ في الآخرة منْ أهلِ الجنة.

 

لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قال لعمِّهِ [لَأسْتَغفِرَنَّ لك ما لمْ أُنْهَ عنك] يعني أطلبُ لكَ منَ الله أنْ يغفرَ لك بهدايتِكَ للإسلام، أنْ يُهدِيَكَ للإسلام تُسلِم فيَغفِر لك فإذا متَّ على الكفر، إذا متَّ على غيرِ الإسلام عندَ ذلك أتوقف أنقطع عن الدعاء لأنّ الدعاءَ له بالهدايةِ بعدَ أنْ ماتَ على الكفرِ لا معنى له هذا عبَث والأنبياء محفوظونَ منَ العبَث.

 

معنى [ما لمْ أُنْهَ عنك] يعني ما لمْ ينزِلْ عليَّ الوحي يُخبرُني بأنك تموت على الكفر، فإذا أخبرَني الوحي بذلك لا أعود أدعو لك، وإذا ماتَ على الكفر فالدعاء له عند ذلك بالهدايةِ والمغفرة لا معنى له والأنبياء لا يفعلونَ ذلك لا يستغفرونَ له ولا يترحّمونَ عليه ولا يدْعونَ له.

وهكذا ما وردَ في القرآنِ في أمرِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أبيه آزَر، اللهُ قال {وما كانَ استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عنْ مَوْعِدةٍ وعَدَها إيّاه}[التوبة/١١٤] كان وعدَهُ أنْ يدعوَ له بالمغفرةِ بالإسلام.

هنا عندما نقول عن كافر يُدْعى له بالمغفرة يعني بالإسلام ما دامَ على الكفر، لأنه إنْ أسلمَ يُغفَر له بالإسلام، {قل للذين كفروا إنْ ينْتهوا يُغفَرْ لهم}[الأنفال/٣٨] إنْ ينتهوا عن كفرِهِم يعني.

 

ووردَ في القرآنِ {وما كانَ استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عنْ موْعِدةٍ وعَدها إياه فلمّا تبيّنَ له أنهُ عدوٌّ لله تبرّأَ منه}[التوبة/١١٤] ما عادَ يدعو له لأنه ماتَ على الكفر.

فإذًا مَنْ ماتَ على الكفر مهما كانت بينَكَ وبينَه قرابة لا يجوز أنْ تترحّمَ عليه ولا أنْ تستغفرَ له ولا أنْ تصلّيَ عليه صلاةُ الجنازة، هذا خِلافُ شريعةِ اللهِ تعالى، كذلك لا يُدفَنُ في مقابرِ المسلمين ولا يُقرأ له القرآن ولا يُتصَدّق عنْ روحِهِ  لا بالخبز ولا بالماء ولا بالمال ولا بشىءٍ آخَر.

فالكافر إذا جاءَ بعضُ الناسِ يريدونَ أنْ يعملوا على زعمِهم صدقةً لا يُؤخَذ منهم ذلك عنْ  روحِ الكافر لأنه لا يصل إليه ولا ينفَعُهُ، هو في الآخرة محرومٌ منْ رحمةِ اللهِ، أمّا في الدنيا اللهُ تعالى رحمِهُ أعطاهُ الصحة والعافية والمال والرزق والطعام والشراب والهواء، نِعَمٌ كثيرة، لذلك مَنْ ماتَ على الكفرِ لا يجوزُ أنْ يُتَرَحَّمَ عليه ولا أنْ يُستَغفرَ له إنما في الدنيا قبلَ أنْ يموت يُدعَى له بالهداية، يدعَى له بأنْ يُسلِم فيُغفَر له بالإسلام).

 

قال رضي الله عنه: الكافرُ مهما عمِلَ منَ الإحسانِ للناس لا يكونُ شاكرًا، إنّما المسلمُ الذي أدّى الواجبات واجتنبَ المحرَّمات هذا شاكر (يعني هذا التقي الذي أدّى الواجبات واجتنبَ المحرّمات صار تقيًّا، هذا الإنسان الذي وصلَ إلى التقوى إلى الصلاح إلى الولاية، هذا العبد الشَّكور، إذا صار وليًّا صار شكورًا، أمّا إذا إنْ لم يصِلْ إلى الولاية لا يكونُ شكورًا، وإنْ كانَ  فاسقًا – يعني ليس تقيًّا – ما أدّى الواجبات ما اجتنبَ المحرّمات وعمِلَ كثيرًا منَ الحسنات الطاعات النوافل أو بلسانِهِ ذكرَ وسبَّحَ لا يكون ولا شاكر لأنه لا صارَ تقيًّا ولا صار وليًّا، إنما العبدُ التقيُّ هو الذي يؤدّي الواجبات ويجتنب المحرّمات فإذا زادَ على ذلك ووصلَ إلى الولاية بأنْ أكثرَ منَ النوافل صارَ عبدًا شكورًا، وهذه المرتبة ليست لكلِّ أحد إنّما هي مرتبة نادرة في العباد عزيزة قليلة في الناس لأنّ الأولياء في الناسِ قليل، ليس أكثر الناس أولياء، أكثر الناس ليسوا أولياء.

فإذًا بتقوى الله بأداءِ الواجبات باجتنابِ المحرّمات بالإكثارِ منَ النوافل والطاعات يصيرُ العبدُ شاكرًا وشَكورًا).

 

قال رضي الله عنه: إنّما المسلم الذي أدّى الواجبات واجتنبَ المحرّمات هذا شاكر وإذا تمكَّنَ منْ ذلك يُقالُ له شَكور، هذا الذي قال اللهُ تعالى فيه {وقليلٌ مِنْ عباديَ الشكور}[سبأ/١٣] منْ بينِ المسلمين الشَّكورُ قليل.

الشكورُ هو الذي وصلَ إلى درجة وليّ. الشكورُ هو الوليّ أما مَنْ يعملُ حسناتٍ كثيرة لوْ كانَ مسلمًا لا يُقالُ له شكور، إنْ لمْ يكنْ تقيًّا لا يُقالُ له شكور {وقليلٌ منْ عباديَ الشكور}[سبأ/١٣] هذه الآية تعني الوليَّ منْ بينِ المسلمين الذين عقيدتُهم صحيحة ويُؤَدّونَ كثيرًا منَ الواجبات

 

(لأنَّ الوليّ لا يصيرُ وليًّا وهو على عقيدةٍ فاسدة هذا مستحيل. قال العلماء قال الأكابر”ما اتّخذَ اللهُ وليًّا جاهلًا” فمَنْ كانَ مشبِّهًا مجسِّمًا، مَنْ كان حلُوليًّا، هؤلاء ما داموا على هذه العقيدة الكفرية لا يصيرونَ أولياء ولا يصلونَ إلى الولاية مهما أتعبوا أنفسَهمْ بصوَرِ العبادات، مهما صاموا وصلَّوا وزكّوا بزعمِهِم لا يصيرونَ أولياء ما داموا على العقيدة الفاسدة، لأنّ الولي شرطُهُ الأساس أنْ يكونَ على الإسلام فلا يوجَد في غيرِ المسلمين وليّ. اللهُ قال {إنَّ الذين قالوا ربُّنا الله ثمّ استقاموا}[الأحقاف/١٣]

 

وفي صحيح ابن حبان قال صلى الله عليه وسلم [قلْ آمَنْتُ باللهِ ثمَّ استَقِم] إذًا الإيمان باللهِ ورسولِهِ شرطٌ أساسٌ لا بدَّ منهُ للولاية، فإذا كان على عقيدةِ التشبيه لا يصيرُ وليًّا.

من بدايةِ الدنيا إلى اليوم هل سمعتمْ أنّ مجسِّمًا مشبِّهًا صارَ وليًّا وله كرامات؟ هذا لا وجودَ له في التاريخ، كلُّ وليٍّ هو مِنْ أهلِ السنةِ والجماعة، لو بحَثْتُمْ في التاريخ لا تجدونَ وليًّا في غيرِ أهلِ السنة لأنَّ شرطَه صحة المُعتقَد.

فمَنْ كان على عقيدةٍ فاسدةٍ كيف يصيرُ وليًّا؟ هذا الذي يشبِّهُ اللهَ بخلقِهِ أو يعتقد أنَّ مشيئةَ اللهِ تتغير أو يعتقد أنَّ اللهَ حلَّ في الأولياء أو في الأئمة أو في في الكعبة، أو أنَّ اللهَ قاعدٌ على العرش أو ساكن في السماء، هذا مِنْ أينَ يصل للولاية؟ الولايةُ عليه حرام مستحيلة ما دامَ على عقيدةِ التشبيه والتجسيم أو على عقيدةِ الحلول أو على أيِّ كفريةٍ أخرى، ما دامَ على الكفر لا يصيرُ وليًّا ولو عاشَ ألفَ سنة وهو بزعمِهِ يؤدّي صورَ العبادات الولايةُ حرامٌ عليه، لا بدَّ أولًا منَ العقيدةِ الإسلامية العقيدة الصحيحة العقيدة السليمة التي جاء بها الرسولُ صلى الله عليه وسلم وعليها الصحابة ومَنْ بعدَهم إلى يومِنا هذا منَ السوادِ الأعظم منْ جمهورِ الأمةِ الإسلامية.

أمّا مَنْ كان مُخالِفًا في الاعتقاد لا يصيرُ وليًّا مهما أتعبَ نفسَهُ بصورِ العبادات).

 

وقال الإمام الهرري: قال اللهُ تعالى {وقليلٌ منْ عباديَ الشكور}[سبأ/١٣] هذه الآيةُ تعني الوليَّ مِنْ بين المسلمين الذين عقيدتُهُم صحيحة ويُؤَدّون كثيرًا منَ الواجباتِ ويجتنبونَ كثيرًا منَ المُحرَّمات إذا لم يصلوا إلى درجةِ التقوى لا يُقال لأحدِهِمْ شكور، أما المؤمنونَ بما فيهم ممَّنْ هو تقيٌّ أو مَنْ ليس بتقيّ فهم كَثرة ليسوا قلّة.

(يعني هنا القسم الأول منَ المسئلة أنّ مَنْ كان مسلمًا تقيًّا أدّى الواجبات اجتنبَ المحرَّمات أكثرَ مِنْ نوافلِ الطاعات صار وليًّا. أمّا بعدَ هذا لو كان مسلمًا، – الآن نتكلم عن شخص آخر – هو مسلم أدّى كثيرًا منَ الواجبات وتركَ بعضَ الواجباتِ بلا عذر، اجتنبَ كثيرًا منَ المحرَّمات ولم يجتنبْ  كلَّ المحرّمات هذا لا يصيرُ تقيًّا ما دام على هذه الحال، لا يكون تقيًّا لأنّه لمْ يُؤدِّ كلّ الواجبات التي عليه ولم يجتنبْ كلّ المحرّمات فلا يكونُ تقيًّا صالحًا. لذلك لا بدّ منْ التنبّه لهذا المعنى).

 

الكفرُ درجات

قال الإمام الهرري رضي الله عنه: الكفرُ والشركُ درجات ليس درجةً واحدة بعضُها أشدُّ منْ بعض، يوجَدُ شركٌ أكبر وشركٌ أصغر.

الشركُ الأكبر هو الذي يُخرِجُ منَ الملّة، الشركُ الأصغر لا يُخرِجُ منَ الإسلام.

كذلك الكفر درجات كفرٌ يُخرِجُ منَ الملة وكفرٌ لا يُخرِجُ منَ الملّة. بعضُ الذنوبِ الكبيرة يُقال لها كفرٌ أصغر، الحكمُ بغيرِ الشرعِ كفرٌ أصغر ليس كفرًا أكبر.

 

(وهنا قضيةٌ مهمة لا بدَّ منَ التنبُّهِ لها وهي عندما يُقال الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر هذا معناه المُخرِخ منَ الدين منَ الملة، معناه مَنْ فعلَهُ مَنْ حصلَ منهُ شىءٌ منَ الشركِ الأكبر صارَ خارجًا منَ الإسلام.

ومثالُ ذلك مَنْ عبدَ غيرَ الله هذا يقالُ له الشرك الأكبر، مَنْ والعياذُ باللهِ تعالى اعتقدَ أنّ الإنسانَ يخلُقُ أفعالَ نفسِهِ الاختيارية وليس الله يخلُقُها هذا شركٌ أكبر، هذا يُخرجُ منَ الدينِ والملة.

 

منَ الكفرِ الأكبر مسبّةُ اللهِ مسبّةُ الأنبياء الإسلام القرآن الصيام الصلاة الزكاة الحج الكعبة الاعتراض على الله شتم أحكام الشريعةِ الإسلامية، الاستهزاء بالقرآن أو بآياتِ القرآن. هذا كلُّهُ يُقالُ له كفرٌ أكبر يعني مَنْ ماتَ عليه يُخَلَّد في جهنم ولا يرحمُهُ اللهُ كما تكلَّمْنا. مَنْ ماتَ على الكفرِ الأكبر على الشركِ الأكبر هذا يُخلَّد في جهنم إلى غيرِ نهاية ولا يرحمُهُ الله في الآخرة ولا يشفع له شافع ولا يخرُج منَ النار ولا يدخل الجنة.

الله قال في القرآنِ عن الكفار {وما هم بخارجين منَ النار}[البقرة/١٦٧] وقال {وما هم بخارجين منها}[المائدة/٣٧] وقال {إنّ اللهَ لعنَ الكافرين وأعدَّ لهم سعيرًا* خالدينَ فيها أبدًا لا يجدونَ وليًّا ولا نصيرًا}[الأحزاب/٦٤-٦٥] لا يجدونَ شافعًا لهم لا يجدونَ ناصرًا لهم لا يرحمُهم اللهُ في الآخرة لو كان هذا الكافر في الأصل ينتسب للإسلام ثم ارتدّ والعياذُ بالله وماتَ على الردة هذا يُخلَّد في نار جهنم لأنه وقعَ في الكفرِ الأكبر.

 

لكنْ هناك شىء يُقال له الكفر الأصغر أو الشرك الأصغر سُمِّيَ بذلك لعِظَمِ وقُبحِ وشدةِ هذا الذنب لا على أنه يُخرِجُ منَ الدينِ والملّة، إنما مَنْ فعلَهُ استحقّ العذابَ الشديد إنْ لمْ يتبْ، مَنْ فعلَهُ وماتَ عليه استحقَّ أنْ يدخلَ النار إنْ ماتَ بلا توبة، إنْ لمْ يعفُ اللهُ عنه لكنْ لا يُخلّد في النار لأنه مات على الإسلام مرتكِبًا لهذه الكبائر، لأنه مات مسلمًا، انتبهوا نتكلم عن الكفر الأصغر عن الشرك الأصغر.

 

مثالُ ذلك ما وردَ في الحديث قال صلى الله عليه وسلم [مَنْ صلى رياءً فقدْ كفر ومَنْ صامَ رياءً فقدْ كفر] معناه وقعَ في الذنبِ الكبير، هنا الشرك الأصغر إذا قيل عنه هذا شرك أو هذا كفر – يعني أصغر – يعني ذنبٌ كبير لأنّ الرياء منَ الكبائر.

أليس وردَ في الحديث قال صلى الله عليه وسلم وهذا عند الحاكم في المستدرك [اتّقوا الرياء فإنه الشركُ الأصغر] قال الشرك الأصغر يعني ذنبٌ منْ كبائر الذنوب.

وفي لفظٍ [اجتنِبوا الرياء فإنه الشركُ الاصغرُ] والرسولُ عليه الصلاة والسلام قال [إنَّ الطعنَ في الأنسابِ كفرٌ] وقال عن النياحة كفر، ما معنى كفر؟ يعني كفرٌ دونَ كفر، يعني كفرٌ أصغر، ذنبٌ كبير ليس مُخرِجًا منَ الدينِ والملة.

اليوم بعضُ الحاقدينَ الحاسدين إذا أبغضوا إنسانًا وكان شريفًا منْ أهلِ البيتِ بَغيًا وعُدوانًا وحسدًا يطْعَنونَ في نسبِهِ، أو غير هذا  يغضبونَ منْ إنسان فيَطْعنونَ في نسبِهِ أو يقولون هذا ليس ابنًا لفلان والعياذُ بالله، فلانٌ ليس أبوه.

الطعنُ في الأنسابِ ذنبٌ كبير، الرسولُ عليه السلام شبّهَهُ بالكفر، يعني بالكفر الأصغر يعني ذنبٌ منَ الكبائر. ثم الرسولُ عليه الصلاة والسلام قال [لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرِبُ بعضُكُمْ رقابَ بعض] الحديثُ له عدة شروح يعني لا ترجعوا بعدي كالكفار، لا تفعلوا فِعلَ الكفار، لا تتشبّهوا بالكفار، يعني لا تقتتِلوا على الدنيا لا يقتُل بعضُكم بعضًا لأجلِ الدنيا، هذا شرحٌ للحديث.

 

 وهناك شرحٌ آخَر، يعني لا تستَحِلّوا قتلَ المسلمِ بغيرِ حقٍّ فتكفروا، هنا يصير كفرًا أكبر، يصير خروجًا منَ  الإسلام لأنّ الذي يستحلّ قتلَ المسلم بغيرِ سببٍ شرعي كذّبَ الله.

وهناك شرحٌ آخر إذا قتلَ المسلم بُغضًا بدينِه هذا أيضًا كفرٌ أكبر، أما في الصورةِ الأولى [لا ترجعوا بعدي كفارًا] يعني هذا للتشبيه، إذا اقتتَلْتُمْ على الدنيا لغيرِ سببٍ شرعيّ فذنبُكُمْ عظيم فِعلُكُمْ يُشبِهُ فعلَ الكفار، لكنْ في الصورةِ الأولى لا يكونُ خارجًا منَ الدين والملة، أما في الثانية والثالثة يكونُ خارجًا منَ الدينِ والملة.

 

مثالٌ آخر أليس قال اللهُ تعالى في القرآنِ الكريم {ومَنْ لمْ يحكم بما أَنزَلَ الله فأولئكَ هم الكافرون}[المائد/٤٤]؟

ماذا قال عبدُ اللهِ بن عباس ترجُمان القرآن رضي الله عنهما؟ قال ليس بالكفرِ الذي ينْقُلُ عنِ الملة، إنه ليس بالكفرِ الذي تذهبونَ إليه إنه كفرٌ دونَ كفر. يعني معصية منَ الكبائر، هذا تفسير عبدُ الله بن عباس ابن عم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

 

يعني الحاكم إذا حكمَ بالقانون ولمْ يُفضِّلْهُ على القرآن ولا جعلَهُ مُساوِيًا للقرآن  ولا اسْتَحْسَنَهُ على القرآن ولا اسْتَحلَّ ذلك هذا كما قال عبدُ الله بن عباس معصية كبيرة لا يُكفِّرُهُ

والإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنه في كتابِه “أحكام النساء” هكذا فسّر الآية أيضًا ليس بالكفرِ الذي يَنقُلُ عن الملة، يعني كفرٌ دونَ كفر.

إذًا هذه كبائر يُقال لها كفر يعني أصغر لا تُخرج منَ الدين ولا منَ الإسلام إنما سُمِّيَتْ بالكفرِ لِعِظَمِ ذنبِ مَنْ فَعَلَها.

وهكذا الصلاة أليس قال عليه الصلاة والسلام [العهدُ الذي بينَنا وبينَهم الصلاة فمَنْ ترَكَها فقدْ كفر] يعني مِنْ عِظَمِ ذنبِهِ صارَ قريبًا منَ الكفر، صار يُشبِهُ الكفار.

 

أما مَن استَهْزَأَ بالصلاة أو سبَّ الصلاة أو اسْتَخَفَّ بالصلاة أو أنكرَ فرضيةَ الصلاة فهذا كفرٌ أكبر مُخرِجٌ من الدينِ والملة.

أما مَن اعترفَ بفرْضيَّتِها ويحترِمُها ويُعَظِّمُها ويُحبُّها لكنّه تركَها كسلًا كحالِ كثيرٍ منَ المسلمين، فهؤلاء لا يُكَفَّرون لكنْ عليهم ذنبٌ منَ الكبائر، هؤلاء منْ عِظَمِ ذنبِهم قال الرسول [فقد كفر] يعني مِنْ حيثُ الظاهر صارَ يُشبِهُ الكفار صار قريبًا منَ الكفر.

هذا معنى هناك كفرٌ أكبر وكفرٌ أصغر، شركٌ أكبر وشركٌ أصغر على هذا الشرح الذي بيَّناهُ).

 

المعرفةُ شىء والإيمانُ شىء

قال الإمام الهرري رضي الله عنه: وردَ عن جعفر بنِ أبي طالب رضي الله عنه لمّا قدِمَ مِنْ غيْبَتِهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم قامَ إليه مُسرِعًا وقبَّلَهُ بينَ عيْنيْه، المسلمُ إنْ شئتَ تُقَبِّلُهُ بينَ عينيه أو على خدّيْه أو تقَبِّلُ يدَهُ.

الرسولُ صلى الله عليه وسلم قُبِّلَتْ يداهُ ورِجلاهُ (هنا فوائد وأحكام مهم للإنسانِ أنْ يعرِفها وهي أنَّ المسلمَ الذي جاءَ قدِمَ منْ سفر تستطيع أنْ تقومَ له وأنْ تُصافحَهُ وأنْ تُعانقَهُ وأنْ تُقَبّلَهُ لأنه جاءَ منْ سفر. أما ما دامَ في البلد فليس منَ السنةِ كلّما لَقِيتَهُ كلّما رأيْتَهُ أنْ تُعانِقَهُ وأنْ تُقَبِّلَهُ، هذا ليس منَ السنة.

 

اليوم لو الإنسانُ إذا أرادَ أنْ يقتدِيَ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مهم أنْ يعرفَ ما هو الذي كان يفعلُهُ الرسول عليه الصلاة والسلام أو ما هو الشىء الذي أقرَّهُ الرسول أو وجّهَ إليه، لأنه عليه السلام سألَهُ صحابيٌّ أنه كلّما رأى صديقًا أو أخًا مسلمًا له قال أُقَبِّلُهُ؟ قال لا، قال أُعانِقُهُ؟ قال لا، قال أنحني له؟ قال لا، قال أصافحُهُ؟ قال نعم.

إذًا ما دُمتَ في البلدِ تكتفي بالمصافحة. وهذه المصافحة فيها سرّ لأنكَ إنْ أقبَلْتَ إلى أخيكَ المسلم بإخلاص وسلَّمْتَ عليه وتصافَحْتُما وصلَّيْتُما على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لمْ تَفْتَرِقا إلا وقدْ حُطَّتْ عنكما الخَطايا.

 

والرسولُ كانَ يُعلِّمُ الصحابةَ أنْ يفعلوا ذلك عند الْتِقائهِم أنْ يتصَافحوا ويُصلّوا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأيضًا أنْ يقرأوا “والعصر” لأنّ هذه السورة المباركة فيها وصايا عظيمة، سيّدُنا الإمام الشافعي قال مَنْ عمِلَ بها كفَتْهُ، هذه السورة وحدَها فيها الوصايا العظيمة بأمور الدين والآخرة بالتقوى والصلاح والثبات على الحقّ وأنْ يُوصِي بعضُهم بعضًا بذلك، فهذا كان من عادةِ الصحابة السلام، وأنتَ إذا لَقيتَ مسلمًا في الشارع أنتَ ابْدَأْهُ بالسلام إذا قلتَ له: السلامُ عليكم مخلصًا لله عشر حسنات. بعضُ الناس اليوم لا يسلِّمونَ عليه يقولون أريد أنْ أرى هل سيُسلِّم عليَّ هو أمْ لا، لماذا تفَوِّت على نفسِكَ الخير؟ إذا بدأتَهُ بالسلام عشر حسنات، ورحمةُ اللهِ عشرون حسنة، وبرَكاتُه ثلاثين، لماذا تنتظر لترى إنْ كان سيُسلِّم عليك؟

 

أليس قال الرسول عليه السلام [وخيرُهما الذي يبدأ بالسلام] ؟

إذًا تبدأ بالسلام تكون أنت المستفيد الأكبر تسلم عليه تصافحُهُ وتبستمُ في وجهِهِ، وتبسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ صدقة، هل تدفع المال على التبسم؟ لا، لو كنتَ مكروباً لو كنتَ مُتضايقًا لكنْ عندما ترى أخيكَ المسلم أظهِرْ عنايتَكَ به، هذا المسلم أفضل عندَ اللهِ منَ العرش، هذا المسلم أفضل عند اللهِ منَ الكعبة، أليس قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم [وخيرُهما الذي يبدأُ بالسلام]؟ أليس قال الرسول عليه الصلاة والسلام [إنَّ حُرمةَ المؤمنِ أعظمُ عندَ اللهِ منَ الكعبة]؟

ماذا تخسر إنْ سلَّمْتَ عليه بوجهٍ مُنْطَلِقٍ مُتَبَسِّمٍ ثم نويْتَ ذلك لله؟ لا تعب ولا مشقة ولا دفع مال. تسلم عليه تصافحُه وتصلِّيا معًا على الرسولِ صلى الله عليه وسلم وتقرآن هذه السورة التي هي منْ قصارِ السور {والعصرِ* إنّ الإنسانَ لفي خُسرٍ* إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتَواصَوا بالحقِّ وتواصَوا بالصبر}[العصر/١-٣] فإذًا هذا أجرٌ عظيم وثواب وبركة وأسرار، ويَذهبُ الغِلّ  الذي في النفوس بالمصافحة.

كمْ يفرح المسلم عندما تصافحُهُ بهمة وبعناية، ربّما ينسى همَّهُ إنْ عمِلْتَ معه هذه الأعمال الخفيفة بنيةٍ حسنة وتكسب الثواب والأجر، هكذا ينبغي).

قال الإمام الهرري: يهوديّانِ في المدينةِ قالا فيما بينَهما نسألُ محمدًا هذا السؤال هيّئا له سؤالًا لا يعرِفُهُ حتى منَ اليهودِ إلا القليل، فسألاهُ فأجابَهُما، فقالا له أنت نبيّ، قال ما يمْنَعَكُما أنْ تتَّبِعاني؟ قالا: لأنّا نرى لا يطلعُ نبيٌّ إلا منْ ذريةِ داود (موسى ما قال لهم ذلك هم كذَبوا على موسى افْترَوا، قالوا هذا الكلام لِيَطْعنوا في نبُوّةِ نبيِّنا عليه الصلاة والسلام لأنَّ النبي منْ ذريةِ إسماعيل، فهم يقولون هذا الكلام منْ عندِ أنفسِهم يكْذِبون)

 

ثم قبّلا يديْه ورجليْهِ بشدةٍ لشدّةِ اعتِرافِهما بأنه عرَفَ الجوابَ على السؤال.

المعرفةُ شىء والإيمانُ شىء، هذانِ يعرِفانِ أنَّ سيِّدَنا محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيّ لكنْ ما آمنَا، المعرفةُ وحدَها لا تكفي بل لا بدَّ مِنْ إذْعانِ النفس بأنْ تقبلَ النفسُ هذا الشىءَ وتعتَقِدُهُ

(يعني نفسُهُ هذا الكافر ما أذْعَنَتْ ما اعتَقَدَتْ واطْمَأنّتْ ما سلَّمَتْ لذلك ما صدَّقَتْ ما اعتقَدَتْ، أمّا مجَرَّدِ أنه عرَفَ أنه نبيّ لا يصيرُ مسلمًا، لا بدَّ منَ الإذعانِ والاعتقاد والنطق بالشهادتين بالنسبةِ للقادر)

اليهودُ كانوا يعرِفونَ أنّ محمدًا  صلى الله عليه وسلم نبيّ كما يعرِفونَ أبناءَهم لكنْ ما آمَنَ منهم إلا القليل. أما النصارى في ذلك الوقت كانوا أقربَ للإيمانِ، ملِك الحبشةِ في ذلك الوقتِ كان نصرانيًّا أسلَمَ وآمنَ بالرسولِ وهو في أرضِه بواسطةِ بعضِ الصحابةِ الذين ذهبوا إليه، صار وليًّا لمّا مات. في زمنِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم مات، كانَ يُرى على قبرِهِ نورًا في الليالي إلى السماء لأنه تمكَّنَ في الإسلامِ صارَ وليًّا.

 

الرسولُ صلى الله عليه وسلم صلى عليه يومَ ماتَ صلاةَ الغائب، جاءَه وحيٌ بأنَّ النّجاشيَّ ماتَ قال لأصحابِهِ “قوموا نصلّي على أخيكم أصْحَمة” اسمُ النجاشيّ أصحمة، النجاشيُّ لقبُ كلّ مَنْ يملِكُ الحبشة، ماتَ فصلَّوا عليه صلاةَ الغائب هو في الحبشةِ مات وهم كانوا في المدينةِ صلَّوا عليه.

(إذًا مجرّد المعرفة منْ غيرِ إذعان واطمِئنانِ النفس ورضا النفس والقناعة والتصديق بذلك لا يكونُ آمنَ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم. واليهود عرَفوا أنه رسولُ الله لكنْ حسدوهُ بَغْيًا منْ عندِ أنفسِهم، فهذه المعرفة وحدَها ما نفَعَتْهم ما جعلَتْهم مسلمين مؤمنين، كذلك الذين سمِعوا بالرسولِ صلى الله عليه وسلم منَ النصارى وغيرِهم مَنْ لمْ يُذعِنْ ويعتقد ويؤمن ويُصدّق ويُقِرّ ويعترِف وينطق بالشهادتين لا يكونُ صار مسلمًا لوْ كانَ عرَفَ.

أما ملِك الحبشة أصحمةَ النجاشي هذا آمَنَ واعتقدَ وصدَّقَ وأذعنَ ونفسُهُ اطمَأنّتْ وفرِحَتْ ورضيَتْ بذلك وسلَّمَتْ حتى إنه بعثَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالهدايا بعدَما كان أسلمَ على يدِ الصحابةِ الذين ذهبوا إلى الحبشة، جعفر بن أبي طالب وعثمان بن عفان ومَنْ معه منَ الصحابة، وبعدَما أسلمَ أرسلَ الهدايا إلى الرسول وأرسلَ إليه لولا أني في هذا المكان – يعني في مسؤولية البلد وخدمة الناس – لجئتُ وغسلْتُ عنْ قدَمَيْك.

يعني كان تركَ وجاءَ لخدمةِ الرسول، لكنّهُ أسلمَ وبقيَ ونفعَ المسلمين ببقائهِ وحققَ مصلحةً كانَ له واحد منْ أبناءِ أخيه جاءَ إلى المدينةِ ودخل في الإسلام وصارَ صحابيًّا وخدَمَ الرسول صلى الله عليه وسلم  يُقال له ذو مِخْمَر الحبشي ، هذا أصحمة يكونُ عمُّهُ، نزلَ إلى دمشق ومات ودُفِنَ في دمشق وقبرُه معروف ويُزار.

 

الحاصل أصحمة لمّا مات كان صار مسلمًا وليًّا صالحًا لمْ يبقَ على النصرانية، لا، إنما أسلمَ إسلامًا حقيقيًّا لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليه صلاةَ الغائب.

بعدما مات جبريل عليه السلام نزَل وقال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم “صلِّ على أصحمة فإنه قد مات” فقال الرسول للصحابة – والرسولُ في المدينة وأصحمة في الحبشة رضي الله عنه – [صلّوا على أخيكم أصحمة فإنه قد مات]

إذًا جبريل الوحي  وللرسول وقال للصحابة وقال على أخيكم لأنه كان أسلمَ يقينًا.

وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول “كنا نُحَدَّث أنَّ النورَ ما يزال يُرى على قبرِه” رضي الله عنه وأرضاه.

وقبرُهُ الآن في الحبشة مشهورٌ كبيرٌ ضخم له زيارةٌ كبيرة الناس يقصِدونَهُ منْ كلِّ بلادِ الحبشة وأثيوبيا وإفريقيا وكلِّ بلادِ الدنيا رضي الله عنه وأرضاه وكان وليًّا صالحًا تقيًّا لكنّه لمْ يتمكّنْ منَ المَجِيء إلى المدينةِ فلمْ يصِرْ صحابيًّا، إنما اجتَمعَ بالصحابةِ فصارَ تابعيًّا).

 

مَقولةُ وحدةِ الكلام

قال الإمام الهرري رضي الله عنه: اتفقَ أهلُ السنةِ على وحدةِ كلامِ اللهِ تعالى. قالَهُ الإمام أبو عليٍّ السَّكونيِّ الإشبيليّ المُتوَفّى سنةَ سبعمائة وسبعة عشر من الهجرة, وكذلك البيهقيُّ ذكرَ وحدَ الكلامِ في كتابينِ منْ كتبِهِ. وكذلك أهلُ السنةِ يعتقدونَ أنّ اللهَ تعالى صفاتُهُ لا تشبهُ صفاتِ خلقِهِ، اللهُ متكلِّمٌ بكلامٍ ليس حرفًا وصوتًا لأنّ الكلامَ الذي يكونُ بالحرفِ والصوت مخلوق، اللهُ تعالى لا يتّصِفُ بحادث قال الإمام أبو حنيفةَ رضي الله عنه في كتابِه الفقه الأكبر “نحنُ نتكلّمُ بالآلات والحروف واللهُ يتكلمُ بلا ءالةٍ ولا حرف”.

وكلامُ اللهِ الذي هو غيرُ حرفٍ وصوت أزليٌّ أبديٌّ لا ينقطع لا يجوزُ على اللهِ أنْ يتكلَّم ثم يسكت، الكلامُ القائمُ  بذاتِ اللهِ ليس حرفًا وصوتًا يسمعُهُ الإنسُ والجنُّ في الآخرة. وأما الكلامُ الذي هو حرفٌ وصوت كالقرآنِ الذي نقرؤُهُ بالحروف والتوراةِ والإنجيل والزبور هؤلاء عباراتٌ عنْ كلامِ الله ليست عينَ كلامِ اللهِ الذاتي.

(هنا فائدة وهي أنّ القرآن والتوراة الأصلية والزبور الأصلي والإنجيل الأصلي هي عباراتٌ تدلُّ على كلامِ الله الذاتي الأزلي وليست هيَ عيْن الكلامِ الذاتي.

إنّ اللهَ كلامُهُ ليس بصوتٍ ولا حرفٍ ولا لغة. فإذا سُئلْتُمْ فكيفَ تكون هذه الكتب السماوية بلغاتٍ مختلِفة وتقولون إنَّ اللهَ كلامُهُ ليس حرفًا وليس صوتًا وليس لغة؟

 

فالجوابُ عن ذلك أنّ هذه الكتب السماوية ليست هي عين كلامِ اللهِ الذاتي الأزلي، بل هي دليلٌ يدلُّ على الكلامِ الذاتي الأزلي.

يعني إذا أردْنا أنْ نُفصّلَ قليلًا نعطي مثالًا للتقريب. لو كتَبْنا مثلُا على اللوح لفظ الجلالة “الله” بمائة لغة هل تعدّد هذه اللغات يدلُّ على تعدّدِ ذاتِ الله؟ حاشى فالذاتُ واحد لكنْ إنْ سمّيَ باللغة العربية الله وباللغة الفرنسية كذا وباللغة الأنكليزية كذا وباللغة التركية كذا وباللغةِ التركيةِ كذا وباللغةِ العبريةِ كذا والسريانية كذا هذا لا يدلُّ على تعدّدِ الذات، ذاتُ اللهِ واحد، فلو كُتبَ لفظُ الجلالةِ الله بمائة لغة الذاتُ واحد وهذه اللغات المتعدّدة اللفظ الذي كُتبَ بها يدلُّ على ذاتٍ واحد، كذلك الكتب السماوية المتعدّدة بلغاتٍ متعددة تدلُّ على كلامٍ واحد.

 

فكلامُ اللهِ ليس مُتعدِّدًا إنما هو كلامٌ واحد وهذه الكتب تدلُّ عليه.

مثالٌ آخر، الآن نحن لو كتبْنا في هذا السقف “البحر” هل نحنُ هنا في هذه المكتبة سنغرق؟ لا، ولو كتبْنا على الخزائن المكتبات الخشب “النار” هل ستحترق هذه المكتبة؟ لا.

فالبحر الذي كُتبَ بهذه الحروف هذا اللفظ يدلُّ على ذاتِ البحرِ لكنْ هذه الحروف ليست هي عين ذاتِ البحر وإلا كنا نغرقُ هنا.

النار كُتبَ بهذه الحروف، هذه الحروف تدلّ على ذاتِ النار وليست هذه الحروف هي عين ذات   النار.

والكتب المنزلة تدلُّ على عينِ ذاتِ اللهِ الذاتي الأزلي الذي ليس حرفًا وليس صوتًا وليس لغةً وهو كلامٌ واحد ليس مُبتدَأً ليس مُخْتَتَمًا بلا فم ولا لسان ولا أسنان ولا اصتكاكِ أجرام ولا انْسِلالِ هواء ولا مخارجِ حروف وهو كلامٌ واحدٌ وهذه الكتب السماوية تدلُّ عليه، فلا يكونُ الكلامُ متَعدِّدًا. لذلك قلنا إنَّ الإجماعَ قائمٌ على وحدةِ كلامِ الله.

السّكونيّ والبيهقي نقلا الإجماعَ على وحدةِ كلامِ اللهِ تعالى. فإذًا هذا معنى أّن القرآنَ باللغة العربية والإنجيل باللغة السريانية والتوراة باللغةِ العبرية والزبور باللغةِ العبرية، هذا معناه أنهُ يدلُّ على كلامِ اللهِ الذاتي وليست هذه الحروف هي عين كلامِ الله بل هي دليلٌ يدلُّ على الكلامِ الذاتي الذي لا يشبه كلامَ المخلوقين، وإلا لو كان هذا الحرف والصوت واللغة ولو كانت هذه الكتب المنزّلة هي عين كلامِ اللهِ الذاتي لكانَ معنى ذلك أنّ صفةَ اللهِ الذاتية انفصلَتْ وصارت في تصرُّفِ المخلوقين وعندَما يحترق المصحف أو يتمزّق أو يغرق تكون صفة لله تعالى والعياذ بالله أُتلِفَتْ وهذا لا يقولُهُ إلا كافر، لا يقولُهُ مسلم، لا يقولُهُ عاقل.

إذًا لا يستطيع الخَلق أنْ يتصرفوا في صفةٍ منْ صفاتِ اللهِ فكيفَ يكونُ اللفظ المُنَزّل وهذه الكتب المنزلة هي عين الكلامِ الذاتي لصار معنى ذلك أنّ المخلوقينَ يتصَرَّفونَ في صفةِ الله وهذا كفرٌ عجيب.

معنى أنّ هذه الكتب المنزّلة هي كلامُ الله لأنها ليست منْ تأليفِ إنس ولا جنّ ولا ملائكة، إنما معنى أنها كلامُ الله هي تدلُّ على كلامِ الله، هي دليلٌ يدلًّ على الكلامِ الذاتي الأزلي الذي ليس حرفًا وليس صوتًا وليس لغة.

هذا معنى أنّ الكتبَ السماوية المُنزّلة هي كلامُ اللهِ على المعنى الذي قلناه لأنّ جبريل نزلَ بها على الأنبياء أخذَها منَ اللوحِ المحفوظ بأمرٍ منَ اللهِ وليست منْ تأليفِ أحدٍ منَ المخلوقين لذلك قيلَ لها كلامُ الله ولأنها تدلُّ على الكلامِ الذاتي لا أنها هي عين كلامِ اللهِ الذاتي الأزلي، حاشى وتنزّه الله، لأنّ اللهَ صفاتُهُ ليست كصفاتِ خلقِهِ).

 

قال الإمام الهرري: ثمّ إنّ اللهَ تبارك وتعالى أخبرَ في القرآنِ أنهُ يخلُقُ الأشياءَ بكلامِهِ وكلُّ ما خلقَ الله وما سيَخلُقُهُ وجودُهُ بكلامِ اللهِ تعالى وهذا معنى قولِهِ تعالى {إنّمآ أمرهُ إذا أرادَ شيئًا أنْ يقولَ له كنْ فيكون}[يس/٨٢] معنى الآية أنّ الشىءَ الذي أرادَ اللهُ وجودَه يخلُقُهُ بكلامِهِ الأزلي ليس المعنى أنهُ يَنْطِقُ بالكافِ والنون. النطقُ بالكافِ والنونِ منْ صفاتِنا، ثم القولُ بأنَّ اللهَ يخلقُ الأشياءَ بالكافِ والنون أي يخلقُ الأشياءَ بعدَ النطقِ بالكافِ والنون هذا مستحيل، إنما المعنى أنه يخلقُ الأشياءَ التي أرادَ وجودَها بالكلامِ الأزلي الذي ليس حرفًا وصوتًا، هذا معنى الآية {إنّمآ أمرُهُ إذا أرادَ شيئًا أنْ يقولَ له كنْ فيكون}[يس/٨٢]

 

(يعني ليس الآن يتلفظ أو ينطق بكنْ فيوجِد الأشياء هذا مستحيل، هذا تشبيهٌ للهِ بخلقِهِ. كنتُ شرحتُ أنا أي أنّ اللهَ حكمَ في الأزلِ بوجودِ الأشياء التي أرادَ أنْ توجَد ليس اليوم أرادَ اللهُ تعالى أنْ توجَدَ وليس اليوم حكم وليس اليوم قال بأنْ توجَد لا، اللهُ في الأزل بحكمِهِ الأزلي، قولُهُ حكمُهُ، وهو في الأزلِ حكمَ بوجودِ الأشياء التي أرادَ أنْ توجَدَ ليس عندَ وجودِ كلِّ شىءٍ يقول له كن كن كن كن، هذا مستحيل.  وقدْ شرَحْنا أيضًا أنّ كن لغة عربية منْ حرفين كاف ونون وهذه صفةُ المخلوق فلا تجوز على الله تعالى.

أما إذا سُئلْتُمْ عن معنى الآية الكريمة {فإذا قرَأناهُ فاتَّبِعْ قرآنَهُ}[القيامة/١٨] يعني إذا قرأهُ عليك جبريل بأمرِنا فاتَّبِعْ قراءتَهُ ليس معناه أنَّ اللهَ يقرأُ القرآنَ على محمد كما يقرأُ الأستاذ على التلميذ، لا، إنما جبريل عليه السلام أخذ القرآنَ منَ اللوحِ المحفوظ  بأمرٍ منَ الله وقرأهُ على الرسولِ بأمرٍ منَ الله   

جبريل قرأهُ على الرسول عليهما السلام وليس الله قرأهُ على محمد كما يقرأ الأستاذ على التلميذ حاشى وتنزّه الله.

 

فإذًا معنى الآية {فإذا قرأناهُ} أي إذا قرأهُ عليك جبريل، أضافَ القراءة إلى ذاته لأنّ قراءة جبريل على محمد كانت بأمرِهِ سبحانَهُ، لذلك قال {فإذا قرأناه} يعني إذا قرأَهُ جبريل عليك بأمرِنا فاتّبِعْ تلاوة وقراءة  جبريل هذا معناه، أما الله لا يُقال تلفّظَ ولا يقال نطق ولا يقال يتكلم بكلام متعاقب أو بحرف وصوتٍ ولغة، كلّ هذا تشبيهٌ ومَنْ شبّهَ اللهَ بخلقِهِ فهو كافرٌ بإجماعِ الأمة.

 

اللهُ في الأزل بقولِهِ بكلامِهِ بحكمِهِ الأزلي حكمَ  بوجودِ الأشياء التي أرادَ أنْ توجدَ وليس اليوم حكم أو أرادَ أوْ توجَد هذا لا يليق بالله).

وأما ما يقولُهُ بعضُ الناس سبحانَ مَنْ أمرُهُ بين الكاف والنون، فكلامٌ فاسد لا هو قرآن ولا حديث ولا هو كلامُ أهلِ العلم.

(وهذا الكلام يوهم بأنّ اللهَ يتلفظ بكاف ونون أو أنّ اللهَ تعالى كلامُهُ مخلوق، لذلك قلنا هذه العبارة لا هي منَ القرآن ولا هي منَ الحديث ولا منْ إجماعِ الأمة، فينبغي أنْ تُترَكَ هذه العبارة لأجلِ أنْ لا يتوهّمَ منها الجهال ما لا يليقُ باللهِ سبحانه وتعالى.

إذًا كلامُ اللهِ كلامٌ واحدٌ بإجماعِ الأمة ليس حرفًا ليس صوتًا وليس لغةً ولا يُشبهُ كلامَ العالمين).

والحمدُ لله رب العالمين