مجلس تلقي كتاب “سمعت الشيخ يقول” رقم (71)
قال فضيلة الشيخ الدكتور جميل حليم الحسيني حفظه الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمامُ الهرريُّ رضي الله عنه: تضييعُ الأوقاتِ عن المهم عن الاستفادة في الأمور المهمة خسارةٌ فاغتنموا أوقاتَكم لا تضيِّعوها باللهوِ واللعب.
)هنا موضوعٌ عظيم مهم وله أهمية عند العلماء وعند العُبادِ والزهد وقبلهم عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ما هو أصلُ هذا الموضوع؟
هو اغتنامُ الوقتِ في الخيرات في الطاعات بتحصيل العلم والعمل والالتزام وخدمةِ الدينِ والدعوة وأنْ يملأَ الإنسانُ وقتَه بالنافع والمفيد بما فيه مصلحة لدينِه ودنياه ولعامّةِ المسلمين ولمصحلتِهم.
هنا يحذّرُنا رحمه الله من تضييعِ الوقت، أولًا لنستحضر أنا وأنتم ما هي أهمية الوقت في مَنْ يعرف قدرَ الآخرة، فيمَنْ يفهم الأمور كما هي، فيمَنْ يعرف كم أنّ الأنفاس والأوقات والساعات أغلى منْ كلِّ كنوز الأرض لأّنّ هذه الكنوز هي في أيدي الكافرين والمسلمين، الأموال في أيدي الكفَرة والفسَقة والفجَرة والمسلمين الفسَقة والمسلمين الأتقياء، كل هؤلاء بإمكانِهم الحصول على المال وعلى الذهب وعلى الفضة واللآلىء واليواقيت والكنوز الحسية.
يمكن اليوم مُعظَم تجار الأرض الذين لهم شهرة واسعة ومَن يسمَّوْنَ بأصحابِ رؤوسِ الأموالِ الدولية، يمكن هؤلاء أكثرُهم من غيرِ المسلمين لكنْ في حقيقةِ الأمر هل هذا بحدّ ذاتِه هو الفوزُ والنجاةُ في الآخرة؟ لا، لو كان كذلك لكان قارون وهامان وفرعون وشداد بن عاد من سادات الآخرة وحاشى، والأمر ليس كذلك، ولماذا أضرب هذا المثل؟
لأنك إنْ عرَفتَ كيف تغتنم الوقت والأنفاس والساعات ربِحتَ الجنة والآخرة والثواب وربحتَ النعيم الذي لا يزول ولا ينفد ولا ينتهي ولا ينقضي ولا ينقطع في الجنة، ربِحْتَه بإذن الله تعالى، بالثباتِ على طاعةِ الله والاستكثار من الطاعاتِ والحسنات والعبادات.
عرَفتم ما معنى أنْ تشغَلوا أوقاتَكم بالنافعِ والمُفيد؟ لأنّكم بكلّ نفَس في كلّ دقيقة في كلّ ساعة ف كلّ يوم في كلِّ أسبوع كلّما ارتقيْتُمْ في الدرجات وارتفَعْتُم في المقامات بسببِ كثرةِ الطاعات والعبادات هذا ارتفاعُ مقاماتٍ لكم في الجنة، هذا علُوٌّ في درجاتِ النعيم في الجنة، فالجنة ليست كلُّها في مرتبةٍ واحدة من حيثُ النعيم ليس كل أهلِ الجنة في درجةٍ واحدة، الجنةُ درجات.
فأنت لا يضحك عليك الشيطان لا تقبل أنْ يلعبَ بك فيقول أنت لو كنتَ آخر واحد من أهلِ الجنة وأنْ تكونَ خلفَ بابِ الجنة يكفيكَ، لأنه بهذا يحتال عليك لتتركَ الواجبات وترتكب المحرّمات وتقتصر على ما أنت فيه من الكسل والتخاذل والتراجع وتركِ طلبِ الخير والأعلى، فيضحكُ عليك بهذه الحيلة لأجلِ أن لا تعمل، أنت كيف تردّ عليه عمليّا؟ بأنْ تعمل وتُكثِر لأنك ترجو أنْ يكونَ لك درجة عالية في الجنة، لا تكن كسولًا ولا تكن مقصِّرًا ولا مُسَوِّفًا مؤجِّلًا للخير لأجلِ أنْ ترقَى في الدرجات في المقامات في النعيم في الجنة.
فالجنةُ درجات، والذي يعمل أكثر ويُعطي أكثر ويتعب أكثر درجاتُه أعلى، أنت لا تقبل لنفسِك أْنْ تكونَ في آخر القوم ولا أنْ تكونَ من المُقَصِّرينَ الكُسالى ولا أنْ تكونَ ممَّنْ ركَنوا إلى الدنيا وخدعَهم الشيطان.
من هذه القواعد نفهم أهمية اغتنامِ الوقت ونفهم أهمية الأوْلى فالأوْلى في ملىءِ الوقتِ، لأنه سيأتي معنا أيضًا من عباراتِه رضي الله عنه أنْ لا نضَيِّعَ وقت الفرائض بأنْ نشغلَهُ بالنوافل، يعني أنْ لا نتركَ الفرائض ونشتغل بالنوافل، وهذا يدخل تحت العنوان الذي ذكرتُه الآن تقديم الأوْلى فالأوْلى.
ومن هنا نعرف أنّ العاقل والذكي هو الذي يغتنم وجود هذه الأنفاس قبلَ أنْ تنقطع قبلَ أنْ تنتهي فيشغَلَها بطاعةِ اللهِ عز وجل.
ورد في الحديث الذي رواه الحافظ ابن أبي الدنيا قال عليه الصلاة والسلام [نِعمتانِ مَغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحةُ والفراغ]
أنْ نملأَ الفراغ بالنافع والمُفيد وأنْ لا نُضيِّعَ الأوقات والأعمار الغالية، هذه الأوقات غالية، كلّ نفَس واحد أغلى منْ كنوز الأرض لأنَّ الكنزَ إنْ كان عندَكَ فذهب قد تحصِّل أكثرَ منه وقد تحصِّل ما هو فوقَه بكثير أما نفَس واحد منك يذهب بغيرِ طاعة وفي غير خير بكنوزِ الأرض لن تستطيعَ أْنْ تُرجعَ هذا النفَس الواحد، عرفْتَ لماذا أنفاسكَ أغلى من الكنوز؟
هذه الكنوز تذهب وتجِىء أما ساعة من عمُرِكَ تنقضي في سهوٍ ولهو حسرة لأنك ضيّعْتَها بغيرِ النافع.
من هنا ينبغي أنْ ننتبه أنْ لا نكونَ من هؤلاء الذين قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم فيهم كثيرٌ من الناس مغبون، قال [نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحةُ والفراغ] لأنّ الفراغَ إنْ لم تشغَلْهُ بالخير-هذه من عبارات شيخِنا رحمه الله- وإنْ لم تملأْهُ بالخير قد يجُرُّكَ إلى الشر.
كم رأينا ونرى وسمعنا ونسمع في هذه العصور عن أُناسٍ جرّبوا كلّ ملذاتِ الدنيا في الغرب وفي الشرق بسبب كثرةِ النِّعم وكثرة المال والأسباب المُتيسِّرة لهم جرّبوا كلّ أنواع الملذات ما تركوا شيئًا منَ الزنا واللواط وشرب المُسكِرات واستعمال المُخدِّرات والفساد والرذيلة، جرّبوا، ثم بسبب الفراغِ الذي هم فيه وصلوا إلى الملل، وصل الأمر ببعضِهم إلى أنْ جرّبَ إبرة المُخدِّرات في لسانِه فأدّى إلى قتلِه، يعني يريد أنْ يجرِّب والشيطان يلعب به، يرى التلفزيون والنت ومواقع وفضائيات ومحليات وأفلام ومسلسلات وتمثيليات يجرب، وصل في تجريبِ هذه الأمور الوضيعة الخسيسة الدنيئة بعد الزنا واللواط والخمر وإلى ما هنالك أنْ جرّبَ إبرة المخدِّرات في لسانِهِ وبعضُهم جرَّبَها في غيرِ هذا الموضع فأدّى إلى موتِه.
ثم في وقتٍ من الأوقات إنْ كنتم تذكرون في بعضِ البلاد صار هؤلاء الناس مع كثرةِ المال الذي عندَهم وأنهم حاصلون على ملذّاتِ الدنيا، لكنْ الملل بالفراغ صاروا ينتحرون عن الجسر في البحر أو في النهر.
ودرجت عادة مرة أنه يقعد في البانيو ويُطلقُ النار على نفسِه يعني يتفنّنونَ في ما يحبُّه الشيطان في ما يُرضي إبليس، هذا سببُه الفراغ الذي كانوا فيه وجرّبوا ملذات الدنيا فجرّهم من هذا الفراغ إلى الشر.
إذًا انتبه، الفراغ إنْ لم تملأْهُ أنت بحفظِ القرآن وبقراءة القرآن على أهل العلم وبالتلقي وبتلاوة القرآن وبالسهر في الصلاة وبالسهر في العبادات والسهر في الركوع في السجود في البكاء في الدعاء في التضرّع إلى الله، بالدعاء لنفسِك ولأهلِك وللمسلمين، هذا الفراغ إنْ لم تشغلْهُ بصلةِ الرحم بتحصيلِ العلم والتردد إلى مجالس العلم ومجالس الخير، إنْ لم تشغلْهُ بحفظ المختصَر ومتنِ الطحاوية ومتنِ الصراط، وإنْ لم تشغلْهُ بتحصيلِ شروحِ هذه الكتب وإنْ لم تشغلْهُ بعدَ ذلك بالتطبيق وبالتعليم هذا الفراغ إنْ لم تشغَلْهُ وتملَؤْهُ بالتردد إلى المساجد وبالصلاةِ جماعة وفي المساجد وبالمحافظة على صلاة الجمعة وبزيارةِ الفقراء والترددِ إليهم وهذ يليِّنُ القلب ويعلّمُ التواضعَ والانكسار، إنْ لم تشغلْ هذا الفراغ ولم تملأْهُ بزيارةِ القبور التي تذكّر الآخرة وتذكِّرُك بالموت فيرِقّ القلب ويلين فيستعدّ أكثر ويعمل أكثر، وزيارة القبور مستحَبة حتى في يوم العيد.
واحذروا هؤلاء مشايخ الفتنةِ والفساد الجهل والضلالة الذين حرّموا على الناس زيارة القبورِ في الأعياد بماذا احتجوا على زعمِهم ومِنْ جهلِهم العريض؟
قالوا العيد يومُ فرح وزيارة القبور حزن فكيفَ يذهبونَ إلى المقابر في يومِ العيد؟ فلذلك حرّموا عليهم
قال شيخنا رحمه الله “في يوم العيد ينبغي أنْ تُزارَ المقابر ليتذكّرَ الإنسان أنه راحلٌ عن الدنيا فلا يغرق في الدنيا واللهو لأجلِ أنْ لا ينْجرَّ إلى المعصية”
حتى في يوم العيد لأنه يرَقِّقُ القلب ويساعد على تذَكُّر الآخرة.
فهؤلاء الشياطين بعمائم قالوا حرام زيارة المقابر في الأعياد، هؤلاء ما لم يردْ في القرآن ولا في الحديث ولا في الإجماعِ تحريمُه، يعني حرّموا ما هو حلال، بل وليس مُباحًا فقط بل هو مُستحب لأنّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام قال [ألا فزوروها فإنها تُذَكِّرُكم الآخرة]
إذا كان الرسول قال [ألا فزوروها] ولم يقل إلا في العيد ولم يستثنِ فكيف لهؤلاء أنْ يحرّموا شيئًا هو مُستحبّ في الإسلام وفي الشريعة؟
فهذا تكذيبٌ لدينِ الله تكذيبٌ لشريعةِ الله حيثُ جعلوا هذا الزائر مُستحِقًّا لعقوبة اللهِ في القبرِ وفي الآخرة.
إذا لم تشغلْ هذا الفراغ بزيارةِ القبور بخدمةِ الدعوة بخدمة الإسلام بخدمة الفقراء قد يشغلُكَ بما يعود عليك بالنتائج الوخيمة وبالحسرة.
انظروا معي اليوم كم وكم يُعرَض على التلفزيون وعلى الشاشات وفي نشرات الأخبار العصابة الفلانية في المنطقة الفلانية، تزوير سرقة سطو مسلح احتيال نصب سرقة سيارات سرقة عملات توزيع مخدِّرات، يقبضونَ عليهم ويعرضوهم على التلفزيونات، هل هذا يُفرِحُهم؟ يُفرِحُ أبناءَهم؟ لا هذا يعود بالحسرة وبالألم –وهذا في الدنيا- ويعود بالنكد والهم وهذا يؤدي أحيانًا إلى خرابِ البيوت.
إذا كانت هذه النتائج الوخيمة بالدنيا هي المحرّمات القتل- بغير حق- والغصب والسرقة والسطو المسلح وما شابه، نتيجتُه في القبر ما هي؟ نتيجتُه في مواقفِ القيامة ما هي؟ أشدّ حسرةً وأشد نكدًأ وألمًا وتوْبيخًا.
الفراغ قد يجرُّكم إنْ لم تنتبهوا إلى نتائج وخيمة مؤلمة قد تستمر حسرتُها طولَ العمر وربما بعد الموت في القبر والآخرة والعياذ بالله.
لذلك يا إخواني انظروا في هذا الحديث الشريف الرسول عليه الصلاة والسلام ينبِّهُنا يحذِّرُنا قال [نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحةُ والفراغ]
أولًا سمّى الصحة نعمة وسمّى الفراغ نعمة، نعمة لِمَنْ عرَفَ كيف يستعملُها في الطاعات وإلا فبعضُ الناس تكون عليهم نِقمة إن استعملوها في الشر والمعاصي.
الصحة نعمةٌ عظيمة بهذه الصحة كم تستطيع أنْ تقوم من أعمالٍ تخدم بها المجتمع تخدم بها الناس تخدم بها الفقراء، أنت مثلًا بالصحة والعافية بقوة وهمة الشباب كم تستطيع أنْ تقدِّم من أعمال للمجتمع للفقراء للأيتام للأرامل للمهجرين للمشرّدين للمنكوبين.
مثلًا لو تخيّلْنا الآن ما كان يقومُ به مولانا زينُ العابدين علي –السجاد- بن حسين بن علي بن أبي طالب، هذا الإمام العظيم رضي الله عنه تعرفون ماذا كان يفعل بنفسِهِ مع أنه كان عند الناس مقبولًا محبوبًا معظَّمًا مُحترَمًا، بل الناس يَهابونَه أكثر ممّا يهابونَ الملوك لتقْواه لعلمِهِ لشرفِه لأنه حفيد النبيّ صلى الله عليه وسلم، حفيد علي، الملقَّب بالإمام السجاد وبزين العابدين، تعرفونَ ماذا كان يفعل في المدينةِ المنوّرة؟
كان في الليل يتقنّع ثم يحمل على ظهرِه على كتفِهِ الأمتعة والحوائج والطعام ويدور على بيوتات الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، يضع هذا الطعام أو هذه الأغراض هذه الثياب وأحيانًا المال يضعُه في شىء كالصرة ثم يوزّع على مائةِ بيتٍ في المدينةِ المنوّرة، تتخيّل معي كم تحتاج إلى وقت وجهد وتعب ومشي وما شابه؟
ثم عندما مات رضي الله عنه وأرضاه انقطعت هذه المساعدات عن تلك البيوت هو الذي كان يُوزّع لهم ويُوصل إليهم ويحمل على ظهرِه وعلى كتفِه.
عندما وُضِعَ على المُغتسَل رضي اللهُ عنه رأوا على ظهرِه وعلى أكتافهِ كالخطوط منْ أثرِ ما كان يحمل رضي الله عنه وأرضاه.
هذا لأنه في تلك المدة كان نشيطًا صحيحًا قويًّا، أما لو كان في تلك المدة مكسورَ القوة عاجزًا مشلولًا مفلوجًا أعمى هل كان يستطيع أنْ يقومَ بهذا العمل بنفسِه؟
انظروا إلى فائدة الصحة وإلى منفعة الصحة وقوة الشباب عندما تُستَعمل في الطاعات والعباداتِ والخيرات.
اليوم ترى شابًا مثلًا يتدرب عشرين سنة ويترك أنواعًا من الطعام ويأكل أنواعًا ويستعمل أدوية ويعمل رياضة عجيبة غريبة وحركات قاسية جدا ويعرّضُ نفسَه للخطر ليتسلّق الجبال أو يمشي على حبل مثلًا من عرض بحر إلى عرضِه الآخر، أو يتسلق في الصخور ليصلَ إلى أعلى مسافة أو أعلى جبل ليدخلَ في مجموعة غينيس مثلًا، يا خيبةَ العمر، يا ضيعةَ العمر تمشي سبَهلَلًا.
تراه يقع من علوّ ألف متر فيصيرُ شقفًا ويصير رأسه قطعًا كحباتِ العنب فقط لأجل الدنيا وللشهرة الدنيوية، ينزل على الصخور فيصيرُ قطعًا صغيرة، كلّ هذا لأجل الشهرة الدنيوية ومَن يأخذ السبق في مجموعة غينس مثلًا.
ما هذا الهدف؟ السعادين تعمل أكثر من هذا، أنت ما هدفكَ؟ شهرة دنيوية؟ هذه القوة والصحة والنشاط استخدمْهُ في الخير ليس للدنيا ولا للتكبر ولا للانتفاخ ولا لأغراضٍ دنِيّة، إنما استخدمْ جسدَكَ قوّتَك قوة الشباب في الطاعات والخير.
لما تكون قادرًا على تسلق جبل ألف متر لتُنقِذَ مسلمًا يكاد أنْ يقعَ تسلَّق بارك الله فيك، هذا إنْ كنتَ قادرًا على ذلك، أما تتدرب عشرين سنة لتصعد وتضع العلم على رأس أعلى جبل في الأرض، ماذا حصّلْنا؟
إذًا انتبهوا ليكنْ عندكم أهدافًا عظيمة فتستخدمونَ البدن والصحة والوقت في تحقيقِها، أهدافًا راقية، أهدافًا عمِلَ لأجلِها الأنبياء أهدافًا عملَ لأجلِها الصلَحاء والأخيار ليس تقتدوا بالفسقَة والفجَرة.
ترى بعضَ الأشخاص يصرفونَ أوقاتَهم وأبدانَهم ويستهلكونَ صحتَهم وعافيتَهم بالطابة بالفوتبول بالباسكت بول، إذا لعبتَ إلى وقتٍ بنيةِ أنْ تنشِّطَ نفسَكَ لتحصل فائدة أو تنفع مَنْ حولَك لا مانع لكن أنا أتكلم بما فيه تضييعٌ للوقت والعمر والصحة لأغراض الدنيا أو للتكبر أو للرياء أو للانتفاخ، هذا الذي أنا أُحذِّر منه.
أما إذا الواحد عمل رياضة بقصدٍ حسن هذا لا مانع به بل شىء مطلوب، إنْ كان يقوى بهذه الرياضة ليُكثِر من الطاعات ليَعمل من الخيرات بدنُهُ يقوَى أكثر فيُعطي أكثر هذا مطلوب.
وكما قال لنا الشيخ رحمه الله “كثيرٌ من الأمراض تندفع برياضة المشي”
مرة كنتُ معه في برلين ألمانيا وخرجَ في الليل بعد أنْ أنهَى الدروس والمحاضرات واستقبال الناس، وكان إذا ذهب إلى مدينة المدُن الأخرى تأتي إليه وهكذا يقعد هنا أسبوع يقعد هنا عشرة أيام هنا ثلاثة أيام، على حسَب ما يرى من المصلحة والفائدة وإقبالِ الناس والتدريس والدعوة.
فأحيانًا تحصل زحمة شديدة جدا والشيخ يستقبل الناس ويدخل للصلاة يدخل مثلًا لقضاء بعضِ الحاجاتِ الخاصة بالناس ثم يعود إلى المجلس العام، وهكذا في الليل خرجَ قال نخرج إلى المشي وكان يمشي بنيةٍ حسنة بقصدٍ حسَن ليتقوّى على الإعطاءِ أكثر ليتنشط فيُعطي أكثر.
خرجْنا معه فمشى على رصيف طويل جدا ومستوي، مشَى مشى ثم بعد مدةٍ وقف نظرَ إليّ وقال: الواحدُ هنا يمشي حتى يشبع ليس مثل بيروت.
ببيروت ما كان يجد مكانًا يستطيع أنْ يمشي فيه براحة كما يريد خالية عن الزحمة وعن الناس الذين يشربون الخمور.
فهذا شىءٌ مطلوب وله فوائد، هو قال “كثيرٌ من الأمراض تندفع برياضة المشي” ليس عن هذا نتكلم، نتكلم عن تضييعِ العمر وتضييع الوقت للتكبر للانتفاخ للأغراض الدنيوية، هذا الذي نحذّر منه كي لا أحد يقول أننا لا نريدُه أنْ يعمل رياضة.
سيدّنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه هذا البطل العظيم كان من قوّتِه البدنية والجسدية إذا أراد أنْ يركبَ الخيل بحركة واحدة يرفع رجلَه اليُمنى فيصير فوق الخيل، هذا عمر رضي الله عنه وأرضاه، هذا بالقوة البدنية، بالقوة البدنية تستطيع أنْ تصليَ مائة ركعة في الليلة أنْ تصومَ النهار أنْ تدورَ على المرضى في المستشفيات أنْ تدورَ على المرضى في البيوت.
أما إذا كنت أنت معلول ومريض ومشلول ومفلوج وأعمى كيف تستطيع أنْ تقومَ بهذه الأعمال؟
رأيتم لماذا الصحة نعمة؟
]نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منَ الناس الصحةُ والفراغ[
الفراغ تستطيع أنْ تجمعَ منْ خلالِه إن استعملَته في الطاعات وملَأتَهُ بالنافع والمفيد وجعلتَ برنامَجًا لنفسِكَ منذُ تستيقظ إلى أنْ تنام، ليس كما يعمل بعض الناس ينامونَ لبعد الظهر ويسهرون بالليل على ماذا يسهرون؟
يا ليت بقراءة القرءان وبالصلاة وبالعلم، يا ليت بالاستماع للعلم أو بحفظِه وبحفظِ المختصر والصراط والطحاوية، بماذا؟ بالتلفزيونات، من قناة إلى قناة بعدَها ينتهي ويبدأ بالتلفون، بعدها يدخل إلى النت والفيس بوك والواتساب كلّ هذا إلى الفجر، وربما بعضُهم قبل الفجرِ بقليل فينام بدل أنْ ينتظر فيقوم قبل الفجر ويصلي إنْ كان نام ثم استيقظ فيصلي التهجد أو إنْ كان مستيقظًا فيصلي من قيام الليل ثم إذا دخلَ الفجر يصلي سنةَ الفجر ثم يصلي جماعةً مع ابنِه مع زوجتِهِ لا، بعضُهم لا يعمل هذا، قبل الفجر بقليل يذهب إلى النوم، هذه عادة الكُسالى.
الأولياء في الليل لهم عمل، أحيانًا بعضُهم ثلاث ساعات يشتغل في الليل وبعضُهم أكثر وبعضُهم أقل على قدر الاستطاعة والقوة النشاط.
وهذه الأعمال هي أنواع وعناوين كثيرة بعضُهم يكون حُبِّبَ إليه كثرةَ الصلاة يجد لذةً عظيمة وعجيبة فيُكثِر من الصلاة في الليل، بعضُهم يمكن جسدُه أضعف يقعد فيشتغل بأنواع الذكر، صلاة على النبي الاستغفار، أو بعضُهم يأخذ كلَّ وقتِه في الصلاة على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أو في التهليل أو في الاستغفار أو في الحوقلة وبعضُهم يُنزِّع، وهذا كلُّه من قيامِ الليل، هذا اشتغالٌ بالطاعات وبالعبادات، وبعضُهم يشتغل مع الفكر والتدبّر والذكر في وقتٍ واحد، هذا من قيامِ الليل، الأولياء في الليل لهم عمل.
أما العوامّ مُعظم الناس لهم عملٌ في الليل وهو الشخير وهو التلفزيون والأركيلة والرصيف والوقوف في الطرقات ومداخل البنايات، وأحيانًا لا يقتصرونَ على الأركيلة بل ينجرّونَ إلى الغيبة المحرّمة بالاتفاق، وأحيانًا ينجرّونَ إلى الوقوعِ في أعراضِ المسلمينَ والمسلمات، هذا الفراغ الذي نتكلم عنه أحيانًا يجرُّ إلى المهالك.
هذا الفراغ أوصلَ بعض الناس إلى السهو واللهو بغيرِ المحرّمات وأوصلَ بعضَ الناس إلى الاشتغالِ بالمحرّمات، والذكيُّ العاقل يغتنِمُه في الطاعات فيتنَوَّر قلبُه وقبرُه في القبر وفي القيامة يكون من أصحابِ المقامات.
لذلك رُويَ عن بعضِ الأكابر قال الوقتُ كالسيف إنْ لم تقطعْهُ قطعَك.
الوقتُ أغلى من الذهب إنْ لم تغتَنِمْهُ في الخيرِ عليك ذهب، راح، يعني فاتَك خسرتَه
[نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس الصحةُ والفراغ] ما معنى مغبونٌ فيهما؟
يعني الكثير من الناس في هذه النِّعَم تفوتُه ويخسرُها وخسارتُه كبيرة وحسرتُهُ عظيمة ما عرفَ كيف يغتنم هذه النعمة.
ثم الآن أذكرُ لكم حديثًا فيه ألفاظ مُوافقة تمامًا لهذا الحديث الأول، وهو من حديثِ ابنِ عباس رضي الله عنهما فيما رواه الحاكمُ أبو عبدِ اللهِ النيسابوري في كتابهِ المستدرك على الصحيحين
قال صلى الله عليه وسلم [اغتنِم خمسًا قبلَ خمسٍ صحتَكَ قبلَ سقمِكَ وفراغَكَ قبلَ شُغلِكَ وشبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ وغِناكَ قبلَ فقرِكَ وحياتَك قبلَ موتِكَ]
هذه الامور الخمسة كم من الناس يُضيِّعُها اليوم يُهملُها يُقصِّر فيها، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول اغتنِم، هذه غنيمة، مَن الذي يُضيِّع الغنيمة من الذي يُضيِّع النعمة؟
الحديث الأول سمّاها نعمة هنا سمّاها غنيمة، مَن الذي يضَيِّع النعمة والغنيمة؟ المُغفَّل، إذا كان هذا القلب اسودَّ ثم قسى ثم غرِقَ في اللهو والسهو وتضييعِ الأمورِ المهمة في الدين وتضييع الأمور المهمة وتضييع مصالح الأمة بماذا يشغَل وقتَه؟
الوقتُ كالسيف إنْ لم تقطعْه قطعَك، أنت كيف تقطع الوقت؟ ليس معناه كما يُقطَع اللحم بالسكين لا، معناه إنْ لم تربحْهُ وتوَظِّف لك أعمالًا فيه فتملأ هذا الوقت من الفراغ بالخير بالنافع والمفيد.
لذلك قال بعض العلماء “كي تظهرَ بركةُ الوقتِ اجعلْ لكلِّ وقتٍ عملًا”
اعمل برنامج لنفسِك من وقت تستيقظ إلى أنْ تنام. لا تقتصر على الروتين اليومي من عمل ونحوِه وتنسى صلاة الجماعة ومجلس العلم.
مجلس العلم ينزلُ فيه من البركات والأسرار والأنوار والخيرات والرحمات ما لا يُحيطُ به علمًا إلا الله، مجلسُ العلم الملائكة يتَداعَوْنَ يحُفُّ بعضُهم بعضًا فوقَ مجلسِ العلمِ إلى أنْ يصلوا إلى السماء، هذا المعنى وردَ في حديثٍ رواه مسلم في الصحيح.
ما هذا الروتين الممل؟ دنيا وتلفزيون وأخبار وأحيانًا مجالس غيبة، أين مجالس الطاعات والعبادات؟ غيِّرْ برنامجَك المملّ الذي تضيِّع وقتَك وعمرَك به بغير النافع والمفيد.
هل وضعتَ في برنامجِك اليوم أنْ تعملَ في كلِّ يومٍ لك من أيامكَ عملًا من أنواعِ الطاعات المنوّعة الكثيرة لتأتيَ يومَ القيامة وقد دخلْتَ في كلّ أبواب الخير؟ هل خطرَ على بالِك؟
شعَب الإيمان كثيرة الحمد لله، كم شعبة من شُعب الإيمان كم عمل كم طاعة كم نوعًا من الحسنات عملتَ؟ ادخل فيها ونوِّع وأكثِر وحافظ ولا تتراجع لا تقصِّر لا تسوِّف لا تُقنِع نفسَك بما أنت فيه من الكسل ومن التقصير ومن التأجيل، لا تدع الشيطان يضحك عليك ويُقنِعك أنك من الواصلين وحالُك من المرضيين لا، قل أنا مقصّر ينبغي أنْ أعطيَ أكثر لنفسي لقبري لأهلي ولأمتي.
أنت اليوم إنْ متّ ماذا فعلتَ للأمة؟ راجِع معلوماتك وافتح حساباتِك وليس شرطًا أنْ تجيبَني أنا لا أسأل لتجيبني ولا لتكتبَ لي على الصفحة، أنت اسأل نفسك أنا الآن إنْ متُّ بماذا خدمتُ الإسلام؟ كم إنسان أدخلت في الإسلام؟ أنا الآن إنْ متُّ كنتُ سببًا في تعليم كم شخص الدين أم لا؟ وكنتُ سببًا في كم شخص علمّتُهم الصلاة أم لا؟ كنتُ سببًا في كم شخصٍ جلبتُهم إلى الجامع أو لا؟ كنتُ سببًا في توبةِ كم شخص أم لا؟
ماذا قدّمتُ للأمة؟ ماذا قدّمتُ للمسلمين؟ ماذا قدّمتُ لقبري؟ ما هو العمل الذي أنتَ عملتَه لو متَّ اليوم ترجو أنْ يكونَ ذخرًا لك في قبرِك وفي آخرتِك؟
مثلًا لو جئنا لسيرة الإمام الشافعي إلى أبي حنيفة إلى مالك إلى أحمد إلى الأوزاعي إلى عمر بن عبد العزيز فلان وفلان وفلان، كم قدّموا للأمة ليس فقط لهم ولعائلاتهم على النطاق الضيق، لكل عشيرتِه، بل لكل الأمة الإسلامية.
انظروا إلى اليوم كم مضى على موتِ الشافعي رضي الله عنه كلّ الأمة تنتفع بعلومِه إلى اليوم هذا في صحيفتِه، ملايين البشر انتفعوا بعلوم مولانا الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، وفيه فُسِّرَ حديث الترمذي [لا تسبّوا قريشًا فإنَّ عالمَها يملأُ طِباقَ الأرضِ علمًا] وفي رواية [يملأُ طباقَ الأرضِ عملًا ونورًا]
الإمام الشافعي لما مات كان عمره 54 سنة، ولدَ سنة 150 للهجرة مات 204، رضي الله عنه.
اليوم بعض الناس في بيروت مثلًا يرَوْن شابًا عمره ثلاثون سنة يقولون عنه لا زال طفلًا وبالحضانة.
استحضروا عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد أمير المؤمنين لما مات كان عمره على قول بعض العلماء 37 سنة.
إذا قلنا الشافعي عمره كان 54 وعلمُه نفعَ مئات الملايين وملأَ طباق الأرض، عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين الخليفة الراشد مَنْ كان يجتمع بالخَضر يقظةً عليه السلام مات كان عمره 37 سنة على قول بعض علماء السيَر.
محمد الفاتح رضي الله عنه كم كان عمره لما فتح القسطنطينية؟
لو كانوا يريدونَ أنْ يمشوا على عاداتِ بعض الناس لكانوا قالوا ما زال طفلًا.
انظروا بعض الصحابة مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومثل أخيه لسعد بن أبي وقاص عمر لما جاء وأرادَ أنْ يدخلَ المعركة وضعَ السيف بحمائلِه وصلَت الحمائل إلى الأرض، أخوه سعد رضي الله عنه صار يعقد له الحمائل ثم رآهُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم فاسْتَصْغَرَه –هنا ليس للتحقير- يمكن خاف عليه أنه لا يُطيق الجهاد لا يتحمل لا زال شابًا صغيرًا عمره صغير لعل عمرُه كان والله أعلم خمسة عشر سنة أو قريبٌ من ذلك، هذا معنى استصغرَه، أرادَ أنْ يرُدَّهُ صار يبكي.
هؤلاء الأبطال مع صغَر عمرِهم، هم أبطال في المعنى أبطال في العمل، أبطال في عمل الأبطال وفي العمر كانوا صغارًا أما في القدر كانوا عظامًا رضي الله عنهم.
كان يبكي عندما ردَّه الرسول عن الجهاد، فأقرّه الرسول أذِنَ له، دخل المعركة وصناديد الكفار لا يلتفونَ إليه وهو ينظر مَنْ منَ الكفار يؤذي المسلمينَ كثيرًا يأتي فيضربُهُ وهكذا، عملَ فيهم بعضُهم انتبه له.
انظروا هؤلاء الذين كانوا صغارًا في العمر كيف كانت أفكارُهم بقلوب منوّرة، وأهدافُهم الجنة الفردوس الأعلى.
اليوم يكون عمره أربع وعشرون سنة هدفه في الحياة مُناه في الدنيا أن يشتري دراجة نارية، ما هذا الهدف الذي سنحقق به تقدّم وانتصارات الأمة على مستوى الدنيا والأرض؟ للأسف، حسبنا الله ونعم الوكيل ضعُفَت الهمم وضعُف التفكير وانجرف الكثير ولا نقول الكل إلى الانشغال بالدنيا وملذّاتِها وما يُلهي عن تحقيق الأهداف العظيمة التي تنفعُنا وتنفع الأمة.
فكّر أنت اليوم إنْ متّ ماذا فعلت للأمة ماذا قدّمت ماذا خدمت ديني وأمتي وشعبي.
بعض الناس تأتي وترحل وكأنّ لا أحد يحس بهم، لو كان زعيمًا ورئيسأ غنيًّا وزيرًا تاجرًا مقاولًا، يموت فتنساه الناس ناس يلعنونَه ناس يسبّونَه.
هذا قارون وهامان وفرعون وشداد بن عاد أين هم؟ جمعوا الدنيا لكنْ خسروا الآخرة وإلى الآن الناس تلعنُهم.
لذلك يا إخواني إياكم وتضييع الأوقات، نصيحة لله، اشتغلوا بها بما يعود عليكم بالنفعِ العظيم والفائدة في العلم في الطاعات في العبادات في خدمة الدين والإسلام والمسلمين لتنوِّروا هذا القلب وتنوِّروا القبر قبل أنْ تُوضَعوا فيه
والحمد لله رب العالمين