الخميس نوفمبر 21, 2024

متى يبدأ رمضان

الرسول صلى الله عليه وسلم جعل رؤية القمر هي العلامة الدالة على دخول الشهر وفي ذلك يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته فإنّ غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما)، ومع وجود الفلكين العرب وأهل الحساب جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرؤية للقمر هي القاعدة في دخول الشهر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين رواه البخاري ومسلم.

وروى الإمام مَالِكٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ) قال أبو الوليد سليمان بن خلف القرطبي الباجي الأندلسي رحمه الله (ولَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ شَوَّالٍ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ (وقبله الشافعيّ) يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ (الشاهد) الْوَاحِدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ فَلَمْ يُقْبَلْ فِيهَا أَقَلُّ مِنْ اثْنَيْنِ أَصْلُ ذَلِكَ سَائِرُ الْحُقُوقِ.

قال شيخ الإسلام القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم (باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غم فى أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً)
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ (لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الهِلالَ، وَلا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ، فَإِنْ أُغْمِىَ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لهُ).
وقوله (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له) أى قدروا تمام الشهر بالعدد ثلاثين يوماً، يقال قدرت الشىء أقدره، وأقدره وقدَّرته وأقدرته بمعنى، وقال ابن قتيبة معناه أى قدّروه بالمنازل وحكاه الداودى. قال الإمام (1) ذهب بعض أهل العلم إلى أن الهلال إذا التبس يُحْسَب له بحساب المنجمين وزعم أن هذا الحديث يدل على ذلك واحتج أيضاً بقوله تعالى (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون) وحمل جمهور الفقهاء ما فى الحديث على أن المراد به إكمال العدة ثلاثين، كما فسره فى حديث آخر، وكذلك تأولوا قوله سبحانه (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُون) على أن المراد به الاهتداء فى الطريق فى البر والبحر، وقالوا أيضاً لو كان التكليف يتوقف على حساب التنجيم لضاق الأمر فيه، إذ لا يعرف ذلك إلا قليل من الناس، والشرع مبنىٌ على ما يعلمه الجماهير، وأيضاً فإن الأقاليم على رأيهم مختلفة، ويصح أن يرى فى إقليم دون إقليم فيؤدون إقليم فيؤدى ذلك إلى اختلاف الصوم عند أهلها، مع كون الصائمين منهم لا يقولون غالباً على طريق مقطوع به ولا يلزم قوماً ما ثبت عند قوم، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (الشهر تسع وعشرون يوماً) ثم قال (فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين) معناه أن الشهر مقطوع بأن لابد أن يكون تسعاً وعشرين، فإن ظهر الهلال وإلا فيطلب أعلى العدد الذى هو ثلاثون، وهو نهاية عدده).
قال القاضى رحمه الله (لم يحك مذهب الصوم بتقدير النجوم والمنازل إذا غم الهلال إلا عن مطرف بن عبد الله بن الشخير من كبار التابعين بل من المخضرمين، قال ابن سيرين وليته لم يفعل، وحكى ابن شريح عن الشافعى مثله والمعروف من مذهب الشافعى والموجود فى كتبه خلاف هذا، وموافقة جميع علماء المسلمين من أن معنى (اقدروا له) فى الأيام عِدَّة الشهر ثلاثين كما فسره به عليه السلام فى حديثه الآخر بقوله (فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين) وفى الحديث الآخر (فكملوا العدة ثلاثين) ولهذا أدخل مالك فى موطئه هذا الحديث المبين إثر الأول ليكون كالمفسر له، والرافع لإشكاله تهذيباً للتأليف، وإتقاناً للعلم، وقفا البخارى أثره فى ذلك، ولو كلف الأمة حساب النجوم والمنازل لشق عليهم، وليبين ذلك عليه السلام كما بين لهم أوقات الصلوات).

وقوله (الشهر هكذا وهكذا) الحديث، وإشارته بيده إلى الثلاثين والتسع وعشرين حجة الحكم بالإشارة، وأنها تقوم مقام النطق فى الطلاق والبيوع والوصايا وغيرها، ويدل على صحة الاعتداد بها وفيه حجة أيضاً لصحة طلاق الأبكم وإقراره وشهادته وحده إذا فهم منه القذف وتحقق ما أشار به، وفيه تقريب الأمور بالتمثيل وهو مقصده عليه السلام بذلك لا لغيره، وليس من أجل وصفه لهم بالأمية، وأنهم لا يحسبون ولا يكتبون إذ كانوا لا يجهلون ثلاثين ولا تسعاً وعشرين، ولكان ذكره لها عليه السلام أخفّ عليه من الإشارة وتكرارها بيديه ثلاث مرات، كما قد اختصر ذلك، وقاله بلفظه فى الحديث الآخر، ولم يَنْفِ عنهم معرفة مثل هذا الحساب، وإنما وصفهم بذلك طرحاً للاعتداد بالمنازل، وطرق الحساب التى تقول عليه الأعاجم فى صومها وفطرها وفصولها، وقد وقع فى الأحاديث فى هيئة إشارته عليه السلام اختلاف، وأصحها وأبينها ما جاء فى رواية سعيد بن عمرو بن سعيد، عن ابن عمر (الشهر هكذا وهكذا وهكذا) وعقد الإبهام فى الثالثة (والشهر هكذا وهكذا) يعنى تمام ثلاثين، ونحوه فى حديث ابن المثنى، فهذا يبين أن الشهر يكون مرة ثلاثين، ومرة تسعاً وعشرين، وفى بعضها من رواية موسى بن طلحة عن ابن عمر (هكذا وهكذا وهكذا عشراً وتسعاً)، كذا لهم وللسمرقندى (عشراً وعشراً وتسعاً) وهو الصواب) انتهى من بعض كلام القاضي رحمه الله.

أي إننا لانعتمدُ الحساب لدخول الأشهر إلا بالرؤيا، وأغلب المسلمين اليوم لايعرفون حسابات الفلكين ولا يحسنونها تماماً، كما كان الأمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعرب كانوا يعرفون بالنجوم والفلك كما يعرف أحدنا اليوم طرق مدينته وكما ينظر الواحد منا في الساعة التى في يده لشدة معرفتهم بمنازل القمر والنجوم وارتباطهم بها للتأقيت والتأريخ ومع ذلك كله قيدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ دخول الشهر بالرؤية والمشاهدة والعيانية.

وروى مالك وأبو داوود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإنّ غمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)، فوضحَ أنَّ الشهر ثلاثين ما لم يُر الهلال في التاسع والعشرين منه، و من قال أنَّ العبرة بغير الرؤيا فقد ردَّ ما أمرَ به النبيّ صلى الله عليه وسلم وما شرَعُهُ لأمتهِ حتى يوم القيامة، ولقد شدَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلَّ التشديد على مراعاة ترائي الهلال حتى إنه عندما قال بعض التابعين عن الهلال هو ابن ليلتين وقال بعضهم ابن ثلاث سألهم ابن عباس (أيُ ليلة رأيتوه) فقالوا ليلة كذا وكذا فقال إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إنَّ اللهَ مَدّه للرؤية (أي أطال مدته إلى الرؤية) فهو ليلة رأيتموه)، وهذا الكلام من النبي صلى عليه وسلم كافٍ في هدم كل ما يقوله البعض في أيامنا من أنَّ العلم تطور ولزم الأخذ بالحساب والفلك فليس لأحد كلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(1) أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التَّميمي المازَري، إمام المالكية في عصره ومن المحدّثين المشهورين، بلغ درجة الاجتهاد المطلق حتى سُمِّي بالإمام، قال عنه القاضي عياض (هو آخر المتكلمين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقّة النظر، لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض أفقه منه ولا أقوم بمذهبهم).