إنّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكُرُهُ ونستغفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنْفُسِنا ومِنْ سَيّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ .
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا ضِدَّ ولا نِدّ لهُ ولا شكلَ ولا صورةَ ولا أعضاءَ لهُ ولا جسمَ ولا جُثّةَ لهُ ولا كميّةَ ولا مكانَ لهُ . هوَ اللهُ الواحدُ الأحدُ الفردُ الصمدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ لهُ كُفُوًا أحدٌ، جلَّ ربي لا يشبهُ شيئًا ولا يُشبِهُهُ شىءٌ ولا يَحُلُّ في شىءٍ ولا يَنْحَلُّ منهُ شىءٌ ، ليسَ كمثلِهِ شىءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ .
وأشهدُ أنّ سَيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفيُّهُ وحبيبُهُ ، بلّغَ الرسالةَ وأدّى الأمانَةَ ونصحَ الأمّةَ، فجزاهُ اللهُ عنّا خيرَ ما جَزَى نبيًا منْ أنبيائِهِ ، اللهمّ صلِّ على سيِّدِنا محمّدٍ صلاةً تَقضي بها حاجاتِنا ، اللهمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمّدٍ صلاةً تُفرِّجُ بها كُرُباتِنا، اللهمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمّدٍ صلاةً تَكفِينا بها شرَّ أعدائِنا وسلِّمْ عليهِ وعلى ءالِهِ سلامًا كثيرًا.
أمَا بعدُ عبادَ اللهِ، فإني أوصِيكُمْ ونَفْسِي بتقْوَى اللهِ العلِيِّ القديرِ، أوصيكُمْ ونفسي بإيثارِ الآخرةِ على الدنيا الفانيةِ، أوصيكُمْ ونفسي بإيثارِ الذي يَبقى على الذي يَفنى ، يقولُ ربُّ العزّةِ في القرءانِ العظيمِ : (سورة الأعلى/16-17) .
ءاثِروا الذي يبقى على الذي يفنى ، ءاثِروا الآخرةَ على الدنيا ، ءاثروا الآخرةَ الباقيةَ على الدنيا الزائلةِ الفانيةِ فنعيمُ الجنةِ لا ينقطعُ ، لا يزولُ ، المؤمنُ في الجنةِ يتنعَّمُ إلى ما لا نهايةَ لهُ، فآثِروا الذي يبقى على الذي يفنى ، وذلك لا يتِمُّ إلا بتركِ التنعمِ ، هذا رسولُ اللهِ، هذا حبيبُ اللهِ عَرَضَ عليهِ الملَكُ أنْ يجعلَ لهُ بَطحاءَ مكّةَ ذَهَبًا، وقيلَ إنّ بطحاءَ الوادي تُرابٌ لَيِّنٌ مما جرّتْهُ السيولُ ، عَرَضَ عليهِ الملَكُ أنْ يجعلَ لهُ بطحاءَ مكةَ ذهبًا أبَى صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ، قال: “أجوعُ يومًا وأشبعُ يومًا” .
كانَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمِ يمضي عليهِ الشهرُ والشهرانِ ولا توقَدُ نارٌ في بيتِهِ، كانَ يمضي عليهِ الشهرُ والشهرانِ ولا يأكلُ شيئًا ساخنًا إلا التمرَ والماءَ ، فالذي يريدُ الفلاحَ يقتدي بالأنبياءِ والأولياءِ والصالحينَ .
فالتنعُمُ إخوةَ الإيمانِ كما جاءَ في كتابِ لسانِ العربِ الترَفُّهُ والرَّفاهَةُ والرَّفَاهِيَةُ، لينُ العيْشِ أيْ عيشٌ كثيرٌ رفيهٌ ، فالتنعُمُ عَقَبَةٌ في طريقِ طالبِ الآخرةِ . لَمّا وَجّهَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ مُعاذَ بنَ جَبَلٍ رضيَ اللهُ عنهُ إلى اليمنِ قالَ لهُ: “إيّاك والتنعُمَ فإنّ عبادَ اللهِ ليسوا بالمتنعِّمينَ “ .
إخوةَ الإيمانِ، اذكُروا أحوالَ السلَفِ الصالِحِ واقتدُوا بهم ولا تنْظُروا إلى الراحاتِ واللذاتِ ، فقدْ كانَ عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ في سَفَرِهِ إلى بيتِ المقدسِ ليصالِحَ أهلَ الكتابِ المستعصينَ بإغلاقِ بابِ الحِصْنِ في بيتِ المقْدِسِ الذينَ طالبوا أنْ يُصالِحوا أميرَ المؤمنينَ كانَ زادُهُ سَوِيقَ الشعيرِ والتمرَ والزيتَ. سَوِيقُ الشعيرِ طعامٌ يُتّخَذُ منْ مدقوقِ الشعيرِ . وكانَ رضيَ اللهُ عنهُ يلبَسُ ثيابًا رثّةً، فقيلَ لهُ لوْ لبستَ غيرَ هذا ، فلبسَ ثُمّ خلَعَهُ وعادَ إلى لباسِهِ الأوّلِ ، فلَمّا رأوْهُ قالوا : هذا الذي نعرفُهُ في كتبِنا فاسْتسْلَموا.
كانَ بإمكانِه رضيَ اللهُ عنهُ أنْ يلبَسَ أفخرَ الملابسَ ويتزوّدَ غيرَ هذا الزادِ لأنّ بيتَ المالِ في أيامِهِ كانَ غنيًا ولكنّهُ منْ وَرَعِهِ رضيَ اللهُ عنهُ كانَ يقولَ : ” أنا في بيتِ المالِ كوصِيِّ اليتيمِ ” .
هذا هوَ حالُ السَّلفِ الصالِحِ وكذلكَ مَنْ بعدَهُمُ الخلفُ الصالِحُ ، فلقدْ قالَ رجلٌ منْ كبارِ الصالحينَ : ” أمضيتُ عشرينَ عامًا على الخبزِ والشايِ واللبنِ” قال: “كانَ طعاميَ الخبزُ والشايُ واللبنُ الرائبُ وأحيانًا البندورةُ ” قالَ: “ولم اشترِ اللحمَ قطُّ “.
يا أحبابَنا كانَ في قومِ عادٍ ملِك اسمُهُ شدّادُ بنُ عادٍ هذا حَكَمَ الدنيا كلَّها، كانَ تحت يدِهِ مائتانِ وستونَ مَلِكَا هوَ يحكُمُهُم ، عاشَ تسعمائَةِ سنةٍ، كانَ كافرًا ، لما سَمِعَ أنّهُ توجدُ الجنّةُ وصِفَتُها كذا وكذا لَمَّ الجواهرَ والذهَبَ وقالَ أنَا أعملُ مثلَها ثُمّ لما انتهى منْ بنائِها بعدَ ثلاثمائةِ سنةٍ ماتَ قبلَ أنْ يدخلَها .
فأينَ الملوكُ ؟ وأينَ الأغنياءُ ؟ وأينَ الفقراءُ ؟ أينَ منْ ءاثرَ الدنيا على الآخرةِ ؟ وأينَ منْ ءاثرَ الآخرةَ على الدنيا ؟ كأنّهُ ما جاعَ مَنْ جاعَ وما شَبِعَ مَنْ شَبِعَ، فثمارُ ترْكِ التنعُمِ أنّكَ تُقبِلُ على الآخرةِ ، عندما تتركُ نعيمَ الدنيا الزائلَ تُقبلُ بإذنِ اللهِ على العملِ الذي ينفعُكَ في الآخرةِ الباقيةِ، أبو هريرةُ رضيَ اللهُ عنهُ كانَ لا ينامُ حتى يُسَبِّحَ اثنتيْ عَشْرَةَ ألْفِ تسبيحةٍ ، كانَ لهُ خيطٌ فيهِ ألفَا عُقدَةٍ، فكانَ لا ينامُ حتى يُسَبِّحَ بهِ اثنتيْ عَشْرَةَ ألْفِ تسبيحةٍ .
ويُذكَرُ أيضًا أنّ أبا الدرْداءِ كانَ يُسَبِّحُ في اليومِ مِائةَ ألفِ تسبيحةٍ، وكانَ خالدُ ابنُ مَعْدانَ يُسَبِّحُ في اليومِ أربعينَ ألفِ تسبيحةٍ سِوَى ما يقرأُ من القرءانِ ، فلمّا وُضِعَ ليُغَسَّلَ أيْ بعدَ موتِهِ وُضِعَ ليُغَسَّلَ صارَ يحرّكُ إصْبَعَهُ بالتسبيحِ ، منْ كثرةِ تسبيحِهِ في الدنيا ظَهَرَ هذا على إصْبَعِهِ ، بعدَ موتِهِ صارَ يحرّكُ إصْبَعَهُ بالتسبيحِ .
إخوةَ الإيمانِ، الإنسانُ خُلِقَ ليعبُدَ اللهَ ، مَا خُلِقَ للأكلِ والشربِ ، وعبادةُ اللهِ كيفَ تكونُ ؟ تكونُ بالتعلُّمِ ، بتعلُّمِ علْمِ الدِينِ ، فلا عُذْرَ للجاهِلِ ، فمنْ أعْرَضَ عنْ نعيمِ الدنيا ومباهِجِ الدنيا ومَلَذاتِ الدنيا وشهواتِ الدنيا أقْبَلَ إلى مجالِسِ علمِ الدِّينِ وتعَلَّمَ ما أوْجَبَ اللهُ عليهِ منْ علْمِ الدِّينِ بلْ وسَعَى بعدَ ذلكَ بإذنِ اللهِ لنشرِ علْمِ الدِّينِ فلمْ يقعدْ في بيتِهِ متكاسِلاً بسبَبِ تعَلُّقِ قلبِهِ بالرّفاهِيَةِ والتَرَفُّهِ بلْ أقبلَ وتعلّمَ وعَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِمَ ، فمنْ تعلّمَ وعَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِمَ يُدعى في السماءِ عظيمًا .
اللهم بلِّغْنا التقوى وعلِّمْنا ما ينفعُنا وانفعْنا بما عَلّمْتَنا وزِدْنا عِلْمًا وزَهِّدْنا في هذه الدنيا الزائلَةِ الفانيَةِ إنّكَ على كلِّ شىءٍ قديرٌ .
هذا وأستغفِرُ اللهَ لي ولكُمْ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الْوَعْدِ الأَمِينِ وَعَلَى إِخْوَانِهِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ. وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَءَالِ الْبَيْتِ الطَّاهِرِينَ وَعَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَعَنِ الأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللَّهِ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِيَ بِتَقْوَى اللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَاتَّقُوهُ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نَبِيِّهِ الْكَرِيْمِ فَقَالَ ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ علَى سَيّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ اللَّهُمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعَاءَنَا فَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلاَ مُضِلِّينَ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَءَامِنْ رَوْعَاتِنَا وَاكْفِنَا مَا أَهَمَّنَا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّف. عِبادَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِي، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يُثِبْكُمْ وَاشْكُرُوهُ يَزِدْكُمْ، وَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ وَاتَّقُوهُ يَجْعَلْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مَخْرَجًا، وَأَقِمِ الصَّلاةَ.