قال المؤلف: كان أهلُ الجاهلية من كل ملة ودين، وكانت الزندقة والتعطيل في قريش، والمزدكية والمجوسية في تميم، واليهودية والنصرانية في غسان، والشرك وعبادة الأوثان في سائرِهم…
وكانت هذه البيئة تحتويها أمم زيغ من كل طراز، ففي مثلِ هذا الوسط البعيد الغور في صنوف الغواية، بعثَ اللهُ تعالى سيد المرسلين وخاتم النبيين محمدًا ﷺ بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بالحكمة والموعظةِ الحسنة. وبعد مضيِّ نحو ثلاث عشرةَ سنة مِن بعثتِه أذِنَ اللهُ له في الدفاع عن الحقِّ بالقوة إزاء التعنّت، بعد تمامِ إقامةِ الحجة فاستنارَت القلوب بنور دعوَتِه ﷺ، وانقمَعَ أهلُ الباطل وانقشَعَتْ ظلمات الجاهلية أمام ذلك النور الوهّاج.
وعندما توفيَ النبيُّ ﷺ بعد أداء رسالتِه وانتشالِه الأمة من كبوَتِها، ارتدَّ أناسٌ في الأطراف وحاولَ أناسٌ تفريق شؤون الدنيا من شؤون الدين، بالامتناعِ عن أداءِ الزكاة، فقام الصحابة رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين بصدِّ هذه التفريقات بطرائق متعددة للمحافظةِ على هذا الدين القويم.
ففي عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حدثَ أنه ارتدَّ بعض أناس عن الدينِ الإسلامي وامتنعَ بعضٌ من دفعِ الزكاةِ الواجبة عليهم، فقاتلهم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لرَدِّ المرْتَدّين إلى الدين، وردع مانعي الزكاة عن امتناعِهم عن أداءِ الحقّ الواجب عليهم في أموالِهم.
ثم في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه أخذ رجلٌ يسأل عن المتشابه ويتكلم في ما لا يعنيه، مما قد يُحدِث فتنًا بين العامة، فردّه عمر رضي الله عنه وزجَره حتى لا يعودَ لمثلِه.
ثم لما حدثت الفتن في عهدِ ثالث الخلفاء الراشدين ورابعِهم – يعني عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهما – وجد الفاتنونَ من الأممِ الأخرى المندسّونَ بين المسلمين مرتعًا خصبًا لبذر بذور الشر والفسادِ بين أهلِ الإسلام، فبدؤوا يسعونَ جهدَهم في تفريقِ كلمة المسلمين بالوسائلِ المتعددة، انتقامًا منهم لأممِهم، فتمَّ لهم بعض ما أرادوه. فكانت فتنة الخوارج([1]) المتجردين لتفريقِ كلمة المسلمين من أخطرِ أيام الإسلام. ونشْأة فرق الشيعة رد فعل لعمل هؤلاء. ثم نشأت فرقة المعتزلة… وذلك عندما بايع الحسن بن علي u معاوية وسلّم إليه الأمر، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس، ولذلك سُمّوا المعتزلة([2]).
وهكذا عمّت البلوى وشملت المصيبة، إلى أنْ بلغ عدد أصول الفرق وفروعها عددًا كبيرًا، ولا سيّما بعد اتّساع الفتوحات، وتفرغَ بعض الناس للجدل في مسائلِ كانوا في غنًى عن الخوض فيها، والبحث عن دقائقِها. وبذلك تحقق قول رسولِ الله ﷺ: «وإنّ هذه المِلةَ ستفترِقُ على ثلاثٍ وسبعينَ، ثِنتانِ وسبعونَ في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة»([3]). والجماعة هم السوادُ الأعظمُ من المسلمين.
فقامَ حماةُ الدينِ علماء أصول الدين بالذبِّ عن هذا الدين الحنيف ودفعِ شُبَهِ المُحَرِّفين وحراسة عقيدة المسلمين في جميعِ أدْوارِ التاريخ، بتفنيدِ مسائلِ أهلِ الضلال ونصبِ الأدلةِ من الكتاب العزيز والسُّنَّة النبوية الشريفة في ردّ معتقَداتِهم الفاسدة. فجزاهم اللهُ عن هذه الأمة المحمدية خيرَ الجزاء وأوفرَه.
[1])) الخوارج في اللغة جمع خارج، وخارجي اسم مشتق من الخروج، وقد أطلق علماء اللغة كلمة الخوارج في آخر تعريفاتِهم اللغوية في مادة: (خ ر ج) على هذه الطائفة من الناس، معلِّلين ذلك بخروجِهم عن الدين أو عن الإمام علي، أو لخروجِهم على الناس. الزبيدي، تاج العروس ج2، ص30. وقد أُطلِقَت كلمة الخوارج هذه في كتب اللغة على طائفة من أهل الآراء والأهواء لخروجِها على الدين أو على الإمام علي t. الأزهري، تهذيب اللغة، ج7، ص50. وقيل: الحرورية والخارجية طائفة منهم، وهم سبع طوائف سموا بها لخروجِهم على الناس أو عن الدين أو عن الحق أو عن علي كرّم اللهُ وجهَه بعد صفّين. الزبيدي، تاج العروس ج2، ص30.
[2])) المعتزلة: ينقسمون إلى عشرين فرقة، كلّ فرقة منها تكفّر سائرها، منها من يقول بنفي صفات الله U الأزلية، ومنها من يقول بحدوث كلام الله تعالى، ومنها من يقول بأنّ الله غير خالق لأكساب الناس ولا لشيء من أعمال الحيوانات، ولأجل هذا سماهم المسلمون «قدرية»، ومنهم من يقول باتفاقِهم على دعواهم في الفاسق من أمة الإسلام بالمنزلة بين المنزلتين، وأنه لا مؤمن ولا كافر، ولأجل هذا سماهم المسلمون «معتزلة» لاعتزالِهم قول الأمة بأسرِها، وغيرها من الضلالات. البغدادي، الفرق بين الفرق الفصل 3، ص93 (بتصرف).
[3])) أبو داود، سنن أبي داود، السُّنَّة، باب: شرح السُّنَّة، ج4، ص198.