معنى هذه الآية أن من حلف بلا إرادة كقول: «لا والله، بلى والله» بدون إرادة لا يُكتب عليه ذلك ولا يكون عليه كفَّارة. وفرقٌ بين «الأيمان» التي هي جَمعُ «يمين» كما فسَّرها القرطبي في «الجامع لأحكام القرءان»([1])، «وهو القَسَم»، وبين التلفظ بكلام الكفر فالأيمان بفتح الهمزة جمع يمين والإيمان بكسر الهمزة هو المعتقد فلم يقل بإيمانكم بكسر الهمزة بل بفتحها فالذين أباحوا الكفر حرفوا الآية مبناها ومعناها، فالآية مُفَسَّرَةٌ بقول الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، فلا مناسبةَ بين هذه الآية وبين مسألة من تلفظ بالكفر وهو لا يقصد الكفر. فإن من فرط الجهل المؤدي إلى الكفر احتجاج بعض الجهال بالآية، ظانِّينَ أن معناها أن الإنسان لا يكفرُ إذا لم يقصد بكلام الكفرِ الكفرَ، والعياذ بالله تعالى.
قال القرطبي في «الجامع لأحكام القرءان»([2]) مُبَيِّنًا الإجماع الذي نقله المروزي في هذه المسألة، ما نصه: «فقال ابن عباس: هو قول الرجل في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصدٍ لليمين. قال المروزي: لغو اليمين التي (اتفق العلماء) على أنها لغو هو قول الرجل: لا والله، وبلى والله، في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدها» ثم قال: «وفي البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: نزل قوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} في قول الرجل: لا والله، وبلى والله – أي بلا إرادة -». اهـ.
وقال الفخر الرازي في كتابه «التفسير الكبير» ما نصه([3]): «وعن عائشة أنها قالت: «أيمان اللغو ما كان في الهزل والـمِراء والخصومة التي لا يُعقَد عليها القلب»، فقولها: «لا يُعقَدُ عليها القلب» أي بلا إرادة ولا قصدٍ، ولذلك قال الشافعي: «ليس فيه كفارة». ويقول ما نصه([4]): «قال الشافعي رضي الله عنه: إنه قول العرب: لا والله، بلى والله، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف، ولو قيل لواحدٍ منهم: سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك». اهـ.
وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ جِدُّهم جِدٌّ وهزلهن جِدٌّ: الطلاقُ والنِّكاح والرَّجعَةُ» فإذا كان الطلاقُ والنكاحُ والرَّجعة جِدُّهنَّ جِدٌّ وهزلهن َّجِدٌّ فبالأولى أن يكونَ قول الكفرِ جِدًّا إن كان في حال المزح وإن كان في حال الغضب وإن كان في حال الرضا. فلا يُغتَرَّ بقولِ بعض الجهَّالِ السُّقاطِ عن الكفر الذي يتفوهون به بلا اعتقاد إنه من لَغوِ اليمينِ ويستدلون بالآية {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} يزعمون أن الأيْمانَ المذكورة في الآية الكلامُ الذي يتكلم به الناس بلا اعتقاد، وما درَوا أن الأيْمانَ هي الحَلِفُ، وأن لَغوَ اليمين هو الحلفُ بالله الذي يجري على اللسان بلا قصدٍ ولا إرادةٍ، فإنه لا كفارة في ذلك الحلفِ الذي يجري فيه قول والله، فهؤلاء جمعوا بين كُفرينِ الكفر الذي خرج من ألسنتهم عمدًا بلا اعتقاد، والكفر الذي هو تعليل كفرهم مستدلينَ بالآية على غير وَجهِها، لأنهم بهذا نَسَبوا تحليلَ الكفرِ إلى الآية، والآية بريئةٌ من قولهم ومِنَ استدلالهم.
ومَن تلفَّظ بلفظٍ صريحٍ في الكفرِ مازحًا أو لاعبًا أو غاضبًا وهو يفهم ما يقوله، يُكَفَّرُ ظاهرًا وباطنًا ولا يُسأل عن نيته وقصده ولا يُشترط انشراحَ صدره ولا أن يكون ناويًا الخروج من الإسلام كما لا يُشترط أن يكون عالمًا بحكم هذه الكلمة، وسترى ذلك موسَّعًا مُفصَّلا في هذا الكتاب عند تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106].
([1]) الجامع لأحكام القرءان (المجلد السادس/ص264).
([2]) المصدر نفسه، (المجلد الثالث/ص99).
([3]) التفسير الكبير (الجزء السادس المجلد الثالث، دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1411هـ في ص67).