الأحد ديسمبر 7, 2025

كتاب المعاملات

قال المؤلف رحمه الله: فصل.

الشرح أن هذا فصل معقود لبيان أهمية تعلم أحكام البيع وغيره من المعاملات.

قال المؤلف رحمه الله: يجب على كل مسلم مكلف أن لا يدخل في شىء حتى يعلم ما أحل الله تعالى منه وما حرم لأن الله سبحانه تعبدنا أي كلفنا بأشياء فلا بد من مراعاة ما تعبدنا.

الشرح على العبد أن يطيع خالقه بأداء ما أمر به واجتناب ما نهى عنه لأنه أهل لأن يطاع، وسواء في ذلك ما عقلت الحكمة فيه وما لم تعقل الحكمة فيه لأن بعض ما تعبدنا به معقول المعنى لنا وبعضا غير معقول المعنى لنا، وذلك ابتلاء منه لعباده واختبار لأنه من سلم لله في كل شىء فهو العبد المطيع المسرع في الطاعة ومن لم يكن كذلك فليس كامل الطاعة.

قال المؤلف رحمه الله: وقد أحل البيع وحرم الربا وقد قيد الشرع هذا البيع بآلة التعريف لأنه لا يحل كل بيع إلا ما استوفى الشروط والأركان فلا بد من مراعاتها.

الشرح أن الله تبارك وتعالى لما ذكر في كتابه البيع الذي أحله وعرفه بأداة التعريف وهي أل العهدية أي التي تفيد أن البيع الذي أحله هو البيع المعهود في شرعه بالحل وجب على متعاطي البيع والشراء معرفة ما أحل الله من ذلك لأنه بدون هذه المعرفة لا يأمن على نفسه من الوقوع في البيع الذي لم يحله الله. فمن شروط جواز البيع أي صحته أن يكون العوضان أي المبيع والثمن مباحين في الشرع فلا يجوز بيع المحرم كبيع نجس العين كالدم ولحم الميتة وسائر أجزائها من عظم وشعر وغير ذلك. ومنها أن يكون غير موقت أو معلق فلا يصح أن يقول له بعتك هذا الغرض لسنة أو أن يقول له إن جاء أبي من سفره فقد بعتك هذا الكتاب، ومنها أن يكون المعقود عليه أي كل من الثمن والمثمن طاهرا وأن يكون معلوما، وأن يكون البائع قادرا على تسليمه، وأن لا يكون معدوما كبناء لم يبن بعد.

قال المؤلف رحمه الله: فعلى من أراد البيع والشراء أن يتعلم ذلك وإلا أكل الربا شاء أم أبى. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء» وما ذاك إلا لأجل ما يلقاه من مجاهدة نفسه وهواه وقهرها على إجراء العقود على الطريق الشرعي وإلا فلا يخفى ما توعد الله من تعدى الحدود.

الشرح لما ذكر الله تبارك وتعالى إحلاله البيع وتحريمه الربا علمنا أنه ليس كل بيع حلالا وأن السبيل لتجنب الحرام وموافقة الأحكام الشرعية المتعلقة بالبيع والشراء وما يتبع ذلك التفقه في دينه لأن من لم يتعلم ما يتعلق بذلك من الأحكام الشرعية يخشى عليه أن يقع في الربا الذي هو من أكبر الكبائر وفي غير ذلك من المعاملات المحرمة، وقد ثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال «لا يقعد في سوقنا من لم يتفقه» رواه الترمذي. وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «التاجر الصدوق يحشر يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء» بشارة لمن تعاطى التجارة واتقى الله بتجنب ما حرم الله تعالى من أنواع التجارات المحرمة والخيانة والغش والتدليس بأن يوهم المشتري خلاف الحقيقة والتزم الصدق في وصفه لبضاعته وسلعته وفي إخباره بالثمن الذي اشترى به بضاعته إن ذكره بأنه من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأما من لم يكن كذلك فهو مستحق للعذاب الأليم.

قال المؤلف رحمه الله: ثم إن بقية العقود من الإجارة والقراض والرهن والوكالة والوديعة والعارية والشركة والمساقاة كذلك لا بد من مراعاة شروطها وأركانها.

الشرح أن هذه المذكورات حكمها حكم البيع في وجوب معرفة أحكامها الشرعية على من أراد تعاطيها.

وقول المؤلف «من الإجارة» يريد به أنه يجب تعلم أحكام الإجارة على من أراد تعاطيها فالإجارة منها ما هو جائز ومنها ما هو باطل فالإجارة الصحيحة هي التي استوفت الشروط وتعريفها شرعا أنها تمليك منفعة مباحة بعوض مع بقاء العين على وجه خاص. والمراد بالمنفعة هنا المنفعة المعتبرة حسا وشرعا. وتشترط فيها الصيغة عند الإمام الشافعي وأن تكون معلومة لا مجهولة بأن يكون كل من الأجرة والعمل معلوما.

وقول المؤلف «والقراض» يريد به أنه يجب على من أراد تعاطي القراض معرفة ما يحتاج إليه من أحكامه. والقراض هو تفويض الشخص وإذنه لشخص أن يعمل في ماله في نوع أو أنواع من التجارة على أن يكون الربح مشتركا.

وقول المؤلف «والرهن» يريد به أن من أراد تعاطي الرهن يجب عليه معرفة ما يحتاج إليه من أحكامه. والرهن هو جعل عين مالية وثيقة بدين يستوفى منها الدين عند تعذر الوفاء، فمعناه أن يستمسك الدائن بشىء من مال المدين ليستوفي من هذا حقه إذا تعذر عليه الإيفاء، ويكون الاستيفاء بطريق الحاكم. وأما ما يسميه بعض الناس استرهانا وهو أن يدفع الشخص شيئا يملكه لمن أقرضه مبلغا من المال على أن ينتفع به المقرض مجانا إلى أن يوفيه دينه أو يشرط عليه أجرة مخففة من أجل الدين فذلك حرام بالإجماع وهو نوع من أنواع الربا وكثير من الناس واقعون فيه فهؤلاء وقعوا في هلاك عظيم لأنهم يستحقون العذاب بهذا العمل وهم مطالبون بدفع أجرة مثل هذا الشىء فإن كان المرهون الذي شرط الانتفاع به بسبب الدين بيتا سكنه الدائن مجانا أو دابة أو سيارة ركبها مجانا وجب عليه أجرة المثل للقدر الذي استعمله فيه، وهذا منصوص عليه في كثير من مؤلفات الفقهاء.

وقول المؤلف «والوكالة» يريد به أنه يجب على من أراد تعاطي الوكالة معرفة ما يحتاج إليه من أحكامها وهي تفويض شخص إلى غيره تصرفا على وجه خاص ليفعله حال حياته.

وقول المؤلف «والوديعة» يريد به أنه يجب معرفة أحكام الوديعة على من أراد تعاطيها. والوديعة هي ما يوضع عند غير مالكه لحفظه. ولا يجوز قبول الوديعة ممن يعلم من نفسه أنه لا يستطيع حفظها، وتستحب لمن وثق بأمانة نفسه مع القدرة على حفظها.

وقول المؤلف «والعارية» يريد به أنه يجب معرفة أحكام العارية على من أراد تعاطيها. والعارية هي إباحة الانتفاع بشىء مجانا مع بقاء عينه. ويشترط في المعار أن يمكن الانتفاع به انتفاعا مباحا مع بقاء عينه فلا يصح إعارة مطعوم للأكل أو الشمعة للوقود. وليس للمستعير أن يعير غيره ما استعاره بدون إذن المعير.

وقول المؤلف «والشركة» يريد به أنه يجب معرفة أحكام الشركة على من أراد تعاطيها. والشركة هي عقد يتضمن ثبوت الحق في شىء لاثنين فأكثر على جهة الشيوع.

وقول المؤلف «والمساقاة» يريد به أنه يجب معرفة أحكام المساقاة على من أراد تعاطيها. والمساقاة هي معاملة شخص على شجر ليتعهده بنحو سقي على أن تكون الثمرة بينهما. ويشترط في المساقاة أن يكون الشجر نخلا أو عنبا مغروسا معينا.

 

فصل في النكاح

 

 

 قال المؤلف رحمه الله: وعقد النكاح يحتاج إلى مزيد احتياط وتثبت حذرا مما يترتب على فقد ذلك.

الشرح النكاح أشد حاجة إلى معرفة أحكامه الشرعية من كثير من الأمور فإن من جهل أحكامه قد يظن ما ليس بنكاح نكاحا فيتفرع من ذلك مفاسد فهو جدير بمزيد احتياط وتثبت لأن حفظ النسب من الكليات الخمس التي اتفقت عليها الشرائع وهي حفظ النفس والمال والعرض والعقل والنسب.

ولصحة النكاح شروط أحدهما الصيغة كأن يقول الولي زوجتك فلانة فيقول الزوج قبلت زواجها. الثاني لفظ زوجت أو أنكحت أو ترجمتهما عند الإمام الشافعي، وفي بعض المذاهب يصح بكل لفظ يدل على المقصود. الثالث كون الزوج مسلما بالنسبة للمسلمة فلا يجوز تزوج الكافر بمسلمة إن كان كتابيا وإن كان غير ذلك لقوله تعالى ﴿فإن علمتموهن مؤمناٰت فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن﴾ [سورة الممتحنة/10] فلا يجوز تزويج مسلمة من المسلم الذي ارتد بسبب من أسباب الردة كسب الله أو سب الرسول أو الطعن في شريعة الله أو إنكار ما هو معلوم من الدين علما ظاهرا بين الخواص والعوام من كل ما هو عائد إلى تكذيب الدين. الرابع كون الزوجة مسلمة أو كتابية يهودية أو نصرانية بالنسبة للمسلم. الخامس كون الزوجة خلية من عدة لغير الزوج فلا يصح عقد النكاح على معتدة وفاة أو معتدة طلاق أو فسخ إلا بعد انتهاء العدة. السادس عدم التأقيت فلو قال الولي زوجتك بنتي إلى سنة مثلا فهو فاسد، أما من نوى في قلبه أن يتزوج امرأة ويعاشرها سنة ثم يطلقها ولم يدخل ذلك في صلب العقد فهو نكاح صحيح، وقد نص الشافعي رحمه الله على جواز ذلك في كتاب الأم فليس هذا من المتعة المحرمة.

 

 قال المؤلف رحمه الله: وقد أشار القرءان الكريم إلى ذلك بقوله تعالى ﴿يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة﴾ [سورة التحريم/6] قال عطاء رضي الله عنه «أن تتعلم كيف تصلي وكيف تصوم وكيف تبيع وتشتري وكيف تنكح وكيف تطلق».

الشرح أن من أهمل ذلك لم يحفظ نفسه ولا أهله من النار التي عظم الله أمرها. وهذا عطاء بن أبي رباح هو الإمام المجتهد الذي تلقى العلم من عبد الله بن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة.

 

فصل في الطلاق

 

الطلاق معرفة أحكامه مهمة جدا لأن كثيرين من الناس يحصل منهم الطلاق على زوجاتهم ولا يدرون أنهن طلقن فيعاشرونهن بالحرام.

والطلاق قسمان صريح وكناية فالصريح ما لا يحتاج إلى نية فيقع الطلاق به سواء نوى أو لم ينو وهو خمسة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح والخلع ولفظ المفاداة من الخلع واللفظ الخامس قول الشخص نعم في جواب من أراد منه أن يطلق زوجته الآن. والكناية هو ما لا يكون طلاقا إلا بنية كقوله اعتدي، اخرجي، سافري، تستري، لا حاجة لي فيك، أنت وشأنك، سلام عليك، لأن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيره احتمالا قريبا. فإن أتى بالصريح وقع الطلاق نوى به الطلاق أم لم ينو، ومن أتى بألفاظ الكناية فلا يقع الطلاق إلا أن ينوي به باللفظ الطلاق وتكون النية مقرونة بأول الكناية.

والطلاق إن كان ثلاثا بلفظ واحد أو في أوقات متفرقة حتى لو قال أنت طالق ونوى به الثلاث فهو طلاق ثلاث لا تحل له بعده حتى تنكح زوجا غيره بعد عدة منه ويدخل بها ثم يطلقها وتنقضي العدة منه فمن قال لزوجته أنت طالق ثلاثا طلقت ثلاثا وإن قال «أنت طالق أنت طالق أنت طالق» ولم ينو بتكرار اللفظ تأكيد الطلقة الواحدة فهو طلاق ثلاث، وإن نوى بتكرار اللفظ تأكيد الطلقة الواحدة وهي الأولى فلا يعد طلاقا ثلاثا بل يعد طلاقا واحدا. وكثير من الناس يجهلون هذا فيرجعون إلى زوجاتهم إذا أوقعوا طلاقا ثلاثا بلفظ واحد يظنون أنه طلاق واحد وأنه يجوز لهم أن يرتجعوهن قبل مضي العدة بلا عقد جديد ويظنون أنه بعد مضي العدة بتجديد العقد فهؤلاء يعاشرون أزواجهم بالحرام.

ولا فرق في الطلاق بين أن يكون منجزا وبين أن يكون معلقا على شىء فإذا قال أنت طالق إن دخلت دار فلان أو إن فعلت كذا فدخلت أو فعلت ذلك الشىء وقع الطلاق، فإن كان قال إن دخلت دار فلان فأنت طالق بالثلاث فدخلت كان ثلاثا فتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. ولا يجوز إلغاء هذا الطلاق، ولا عبرة برأي أحمد بن تيمية الذي خرق به الإجماع في قوله إن الطلاق المعلق المحلوف به لا يقع مع الحنث وليس عليه إلا كفارة اليمين فرأي ابن تيمية هذا خلاف الإجماع، وقد نقل الإجماع على هذا الحكم الفقيه المحدث الحافظ الثقة الجليل محمد بن نصر المروزي وجماعة غيره.

ثم الطلاق إما جائز سني وإما بدعي وإما لا ولا. فالطلاق السني هو ما خلا عن الندم واستعقب الشروع في العدة وكان بعد الدخول وهي ممن عدتها بالأقراء فكان في طهر لم يطأها فيه ولا في حيض قبله. وأما البدعي فهو أن يطلق بعد الدخول في حيض أو نفاس أو في طهر وطئها فيه ولم يظهر بها حمل. وهذا الطلاق حرام ومع حرمته فإنه يقع. وإنما كان طلاق الحائض والنفساء بدعيا لأنها تتضرر بطول مدة الانتظار. وأما الطلاق في طهر وطئ فيه فإنه يؤدي إلى الندم عند ظهور الحمل لأن الإنسان قد يطلق الحائل دون الحامل وعند الندم قد لا يمكنه التدارك فيتضرر هو والولد. وإما طلاق لا ولا أي الذي لا يسمى سنيا ولا بدعيا فهو أن يطلقها قبل الدخول أو غير بالغة أو ءايسة أو حاملا منه.

ولا فرق بين طلاق الجد وطلاق الهزل لقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة» رواه أبو داود في السنن فإذا حصل النكاح بشروطه وكان الولي والزوج مازحين ثبت النكاح، وكذلك الطلاق فإن كان الزوج والزوجة مازحين أو جادين أو أحدهما جادا والآخر مازحا كأن طلبت الزوجة الطلاق بجد وهو أوقعه بمزح فقد ثبت الطلاق. وإن كان الطلاق واحدا أو اثنين تصح الرجعة قبل انتهاء العدة بقول أرجعتك إلى نكاحي ونحوه فإن انتهت العدة قبل أن يرتجعها لا تحل له إلا بعقد جديد بوليها وشاهدين مسلمين. والجد خلاف الهزل وهو بكسر الجيم.

 

فصل في الخلع

 

الخلع بضم الخاء من الخلع بفتحها وهو لغة النزع لأن كلا من الزوجين لباس الآخر فكأنه بمفارقة الآخر نزع لباسه. وهو ثابت قبل الإجماع وبقوله تعالى ﴿فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا﴾ [سورة النساء/4] وبقوله صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس «اقبل الحديقة وطلقها تطليقة» رواه البخاري والنسائي. واختلف في الخلع هل هو طلاق أو فسخ، ومشهور مذهب الشافعي الجديد أنه طلاق، وفي كتاب أحكام القرءان للشافعي وهو من كتبه الجديدة أنه فسخ وهو مذهبه القديم. وهو مكروه إلا عند الشقاق أو خوف تقصير من أحدهما في حق الآخر أو كراهة الزوجة للزوج أو كراهته إياها لزناها أو نحوه كترك الصلاة أو للتخلص من وقوع الثلاث أو الثنتين بالفعل فيما لو حلف بالطلاق ثلاثا أو اثنتين على فعل ما لا بد منه.

وتعريفه شرعا أنه فرقة بعوض مقصود راجع لجهة الزوج. وأركانه خمسة أحدها ملتزم للعوض إن كان زوجة أو غيرها والثاني البضع والثالث العوض والرابع الصيغة والخامس الزوج.

ثم على القول بأنه الخلع فسخ يصلح لمن يريد الخلاص من وقوع الطلاق المعلق إن كان ثلاثا فإذا كان الزوج لا يريد أن يقع الطلاق المعلق خالعها بغير قصد الطلاق بل بقصد الفسخ أي حل النكاح فتصير الزوجة بالخلع بائنا فلو فعلت بعد ذلك المحلوف عليه لم يقع الطلاق به ثم يعمل عقدا جديدا بطريق وليها الولي الخاص أو غيره إن لم يتيسر العقد من طريق الولي الخاص كأن يجري الحاكم العقد فيكون في حكم الولي الخاص الأصلي. وهذا المخلص المذكور لا يتأتى على مشهور مذهب الشافعي لكن يصح على القول القديم وعلى قول قاله الشافعي في كتاب أحكام القرءان كما تقدم فلا بأس بالعمل به، فينبغي إرشاد من يخشى منه أن يعاشر المرأة بالحرام بعد وقوع المعلق به إلى هذا المخلص لأن كثيرين يعدلون إلى المعاشرة بالحرام بعد وقوع الطلاق المعلق الذي هو ثلاث من دون أن يتزوجها زوج غيره. وبعضهم يعدلون إلى طريق لا ينفعهم وهو أنهم يتفقون مع شخص يجرى له عليها العقد بعد وقوع الثلاث ثم يشترطون عليه أن لا يجامعها ويحتجون بأن بعض المجتهدين من التابعين يجيز ذلك، وذلك المجتهد يشترط أن لا يكون الزوج الثاني يقصد بذلك إحلالها للأول، فهؤلاء الذين يرشدون الناس إلى هذا الأمر الفاسد يغشون الناس الذين يقصدونهم للاستفتاء لأنهم لم يوافقوا ذلك المجتهد بل كان عملهم هذا حراما عند جميع المجتهدين فلا وافقوا الجمهور ولا وافقوا هذا المجتهد الذي شذ. قال بعض أكابر الحنفية وهو صدر الشريعة فيمن أخذ بقول ذلك المجتهد «من فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» وإنما لم يعتبر قول هذا المجتهد لأنه خالف حديثا صحيحا باتفاق علماء الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا تحلين له حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» أي لا يحل لك أن ترجعي للزوج الأول إلا بعد أن يجامعك هذا الثاني، وهو حديث صحيح ثابت مشهور رواه البخاري فالفتوى بخلافه لا عبرة بها لأن المجتهد إذا خالف قوله نصا قرءانيا أو حديثيا يعد دليلا باتفاق لا يقلد في اجتهاده ولو كان قاضيا قضى بذلك وجب على غيره من القضاة أن ينقض حكمه. نسأل الله أن يثبتنا على سبيل وسنة.

 

فصل في الربا

 

 

 

قال المؤلف رحمه الله: فصل.

الشرح أن هذا فصل معقود لبيان أحكام الربا.

قال المؤلف رحمه الله: يحرم الربا فعله وأكله وأخذه وكتابته وشهادته وهو بيع أحد النقدين بالآخر نسيئة أو بغير تقابض أو بجنسه كذلك أي نسيئة أو افتراقا بغير تقابض أو متفاضلا أي مع زيادة في أحد الجانبين على الآخر بالوزن. والمطعومات بعضها ببعض كذلك أي لا يحل بيعها مع اختلاف الجنس كالقمح مع الشعير إلا بشرطين انتفاء الأجل وانتفاء الافتراق قبل التقابض ومع اتحاد الجنس يشترط هذان الشرطان مع التماثل.

الشرح الربا هو عقد يشتمل على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في المعيار الشرعي حالة العقد أو مع تأخير في العوضين أو أحدهما. هذا الربا لم يكن معروفا مشهورا بين العرب في الجاهلية قبل نـزول ءاية التحريم وإنما الربا الذي كان مشهورا عندهم هو ربا القرض وهو أن يكون للرجل على الرجل دين إلى أجل ثم إذا حل الأجل يقول صاحب الدين للمدين إما أن تدفع وإما أن أزيد عليك، قال بعض الحنفية هذا أول ما نـزل تحريمه من الربا. وينقسم ذلك العقد إلى ثلاثة أنواع أحدها ربا الفضل وهو بيع أحد العوضين الربويين وهما متفقا الجنس بالآخر زائدا عليه كبيع دينار بدينارين أو درهم بدرهمين أو صاع قمح بصاعي قمح. والثاني ربا اليد وهو بيع أحد العوضين الربويين بالآخر مع تأخير قبضهما أو قبض أحدهما بأن يفترق المتبايعان قبل القبض بشرط اتفاق العوضين في علة الربا بأن يكون كل منهما مطعوما أي مقصودا للأكل غالبا تقوتا أو تأدما أو تفكها أو تداويا أو غيرها وذلك كالبر بالشعير أو الملح بالزعفران والتمر بالزبيب والتفاح بالتين، أو أن يكون كل منهما نقدا وإن اختلف الجنس كالذهب بالفضة والعكس. والثالث ربا النساء بفتح النون أي التأجيل وهو البيع للمطعومين أو للنقدين المتفقي الجنس أو المختلفيه أحدهما بالآخر لأجل ولو كان الأجل قصيرا جدا كلحظة أو دقيقة أي أن يشرط ذلك لفظا بأن يقول أحدهما بعتك هذا الدينار بهذا الدينار أو هذا الدينار بهذه الدراهم أو هذا القمح بهذا القمح أو هذا القمح بهذا الشعير ويزيد في كل من ذلك شرط الأجل كأن يقول على أن تسلمنيه غدا أو في ساعة كذا أو لساعة كذا أو في الدقيقة السادسة من الآن أو نحو ذلك فهذا ربا محرم. ولا يحصل الأجل بدون الذكر. وإنما كان الربا خاصا بالنقد دون الفلوس مثلا من بين الأثمان لأن النقد هو المذكور في حديث الربا الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم «الذهب بالذهب ربا إلا مثلا بمثل والفضة بالفضة ربا إلا مثلا بمثل» ولأن النقد أي الذهب والفضة مرجع الأثمان.

وأما ربا القرض فهو كل قرض شرط فيه جر منفعة للمقرض أو له وللمقرض سواء كان الشرط جر منفعة له وحده أو له وللمقترض سواء كانت المنفعة زيادة أو غير زيادة فالربا الذي هو بالزيادة هو الربا الذي بالبنوك ونحوها مما يشترط فيه الزيادة أما الربا الذي بغير الزيادة في قدر الدين فهو مثل ما يفعله بعض الناس من أن أحدهم يقرض شخصا مالا إلى أجل ويشترط عليه أن يسكنه بيته مجانا أو بأجرة مخففة إلى أن يؤدي الدين ويسمونه في بعض البلاد استرهانا وقد مر ذكره وهو حرام بالإجماع اتفق على تحريمه المجتهدون الأئمة الأربعة وغيرهم.

ومن الربا ما يفعله بعض الناس من أنهم يبيعون الشىء بأقساط مؤجلة إلى ءاجال معلومة مع شرط أنه إن أخر شيئا من هذه الأقساط يضاف عليه كذا من الزيادة، ولولا هذا الشرط لكان بيعا جائزا مهما حصل من الربح بسبب التقسيط مما هو زائد على ثمن النقد فأصل بيع التقسيط جائز إذا افترقا على البيان أي بيان أنه يريد بيع النسيئة لا النقد أو النقد لا النسيئة، وأما إذا تفرقا قبل البيان ثم أخذ الشىء فهو حرام وذلك كأن يقول البائع للمشتري بعتكه بكذا نقدا أو بكذا نسيئة فيقول المشتري قبلت من غير أن يبين أنه اختار النقد أو النسيئة فيأخذ المبيع من غير بيان وهو المراد بما ورد النهي عنه من بيعتين في بيعة.

 

فصل فيما يحرم بيعه

 

قال المؤلف رحمه الله: فصل.

الشرح أن هذا فصل معقود لبيان المعاملات المحرمة.

 قال المؤلف رحمه الله: ويحرم بيع ما لم يقبضه.

الشرح من البيوع المحرمة بيع المبيع قبل قبضه، وهذا الحكم عند الإمام الشافعي رضي الله عنه عام شامل لجميع أنواع البيع سواء كان المبيع مطعوما أو غيره. ويحصل القبض بالتخلية أي التمكين في العقار كالأرض فإن كان بيتا اشترط مع ذلك تفريغه من أمتعة غير المشتري وتمكينه من التصرف بتسليمه المفتاح، ويحصل القبض فيما ينقل بالنقل إلى مكان لا يختص بالبائع، وبالمناولة فيما يتناول باليد كالثوب.

قال المؤلف رحمه الله: واللحم بالحيوان.

الشرح يحرم بيع اللحم بالحيوان من مأكول وغيره سواء كان اللحم مأخوذا من جنس هذا الحيوان أو غيره لحديث «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان» وهي مسألة خلافية بين الأئمة.

فائدة. لا يجوز بيع الحيوان وزنا أي لا يجوز بيعه على أن يكون ثمن الرطل كذا ولا يأباه قواعد مذهبنا معشر الشافعية لأنه إذا بيع حيوان بشرط الوزن كما هو معروف اليوم يدخل القذر الذي في جوفه في المقابلة بالثمن فينصرف قسم من الثمن إلى القذر والقسم الآخر إلى ما سواه كاللحم والعظم، والقذر لا يقابل بمال، والخلاص من ذلك أن لا يعتبر الوزن شرطا وإن ذكر لتخمين السعر فإنه لو قال البائع هذا وزنه كذا ليساعد المشتري على تخمين السعر من غير أن يقول بعتك كل رطل بكذا ثم قال بعتكه بكذا فقال المشتري اشتريته بما ذكرت صح البيع.

قال المؤلف رحمه الله: والدين بالدين.

الشرح يحرم بيع الدين بالدين وله صور متعددة كأن أسلم إلى رجل دينارا في قمح مؤجل إلى أجل معين ثم يبيع ذلك القمح من شخص ءاخر بدينار مؤجل وذلك لحديث «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ» رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما. فيحرم ما يفعله بعض الناس من أن الشخص يكون له في ذمة شخص ثمن مبيع مقسط إلى ءاجال ثم يأتي إلى موظف بنك أو شخص ءاخر قبل حلول الدين فيقول له لي كذا وكذا في ذمة فلان فأبيعكه بمبلغ كذا فهذا حرام لأنه من بيع الكالئ بالكالئ وهو مما اتفق على تحريمه.

قال المؤلف رحمه الله: وبيع الفضولي أي بيع ما ليس له عليه ملك ولا ولاية.

الشرح الفضولي هو الشخص الذي يبيع ما ليس ملكا له ولا له عليه ولاية بطريق من الطرق الشرعية فلا يجوز بيعه هذا، وأما من كان له ولاية على مال غيره بأن يكون ولي يتيم أو وكيلا عن المالك فبيعه صحيح ويشترط أن يراعي مصلحة موليه أو موكله.

قال المؤلف رحمه الله: ومالم يره ويجوز على قول للشافعي مع الوصف.

الشرح يحرم بيع عين غير مشاهدة للمتعاقدين أو أحدهما وهذا مذهب الشافعي، وجمهور الأئمة يجوزونه على أن يكون له الخيار إذا رءاه، وللشافعي قول بصحته إذا وصفه وصفا يخرج به من الجهالة المطلقة.

قال المؤلف رحمه الله: ولا يصح بيع غير المكلف وعليه أي لا يصح بيع المجنون والصبي ويجوز بيع الصبي المميز في مذهب الإمام أحمد.

الشرح لا يصح بيع المجنون والصبي ماله من غيره ولا يجوز للمكلف أن يبيعه ماله، وأجاز بعض الأئمة بيع الصبي المميز بإذن وليه وذلك مذهب أحمد وءاخرين. ويدخل في حكم ما مر من عدم صحة بيع غير المكلف عدم صحة بيع المكره وكذلك شراؤه، والمكره هو من هدد بنحو القتل أو قطع الأطراف أو الضرب الشديد أو نحو ذلك فلا يصح بيعه لأنه غير مكلف بالنسبة لما أكره عليه كما يفهم من حديث «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه الترمذي، فإذا حرم إكراهه على بيعه حرم شراؤه منه مع العلم بأنه مكره إلا أن يكون أكره بحق شرعي.

قال المؤلف رحمه الله: أو لا قدرة على تسليمه.

الشرح من البيع المحرم أن يبيع ما لا قدرة له على تسليمه، يستثنى ما لو كان المشتري قادرا على تسلمه فيجوز ويصح البيع، فلا يصح بيع ضال ومغصوب وناد لمن لا يقدر على رده بخلافه لقادر على ذلك بلا كثير مؤنة أو كلفة فيجوز.

قال المؤلف رحمه الله: وما لا منفعة فيه.

الشرح لا يجوز شراء ما لا منفعة فيه حسا كالخبز المحترق الذي لا يقصد للأكل أو شرعا مع وجودها حسا كالآت اللهو وصلبان الذهب والفضة والصور التي هي لذوي الأرواح التي تكون بهيئة يعيش بها ذلك الحيوان وكذلك الحشرات وهي صغار دواب الأرض كالحية والعقرب والفأرة والخنفساء وإن ذكر لها أصحاب ذكر خواص الحيوانات خواص فلا يجوز بيعها ولا شراؤها بخلاف ما ينفع منها كالضب لأكله والعلق لامتصاصه الدم. وكذلك لا يجوز بيع السباع التي ليس لها نفع معتبر كالأسد والذئب والنمر بخلاف ما ينفع منها كالضـبع للأكل في مذهب الشافعي رضي الله عنه والفهد للصيد والفيل للقتال. ويشترط في الثمن مثل ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: ولا يصح عند بعض بلا صيغة ويكفي التراضي عند ءاخرين.

الشرح من شروط البيع على ما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه الصيغة أي اللفظ من الجانبين، واختار بعض أصحابه صحته بالمعاطاة بدون صيغة وهي أن يدفع الثمن ويأخذ المبيع بلا لفظ وهو مذهب مالك فالبيع عنده ينعقد بكل ما يعده الناس بيعا من غير اشتراط اللفظ وهو اختيار بعض أهل المذهب كما تقدم.

قال المؤلف رحمه الله: وبيع ما لا يدخل تحت الملك كالحر والأرض الموات.

الشرح يحرم بيع ما ليس مملوكا كالإنسان الحر أي غير الرقيق والأرض الموات أي التي لم تعمر لأن الموات لا يملك إلا بالإحياء أي بتهيئته للانتفاع إما للزراعة أو السكن ونحو ذلك.

قال المؤلف رحمه الله: وبيع المجهول.

الشرح من شروط البيع أن يكون العوضان معلومين فيحرم ولا يصح بيع المجهول لأنه من الغرر المنهي عنه كأن يقول له بعتك أحد هذين الثوبين من غير أن يبين له فيأخذ أحدهما.

قال المؤلف رحمه الله: والنجس كالدم.

الشرح يحرم بيع النجس على اختلاف أنواعه وذلك كالدم فإنه متفق على نجاسته وعلى تحريم أكله وقيل دم السمك طاهر. والمراد بالنجس هنا نجس العين. وحكم المتنجس الذي لا يمكن تطهيره بالماء كالزيت المتنجس مثل حكم نجس العين.

قال المؤلف رحمه الله: وكل مسكر.

الشرح يحرم بيع المسكر أي ما يغير العقل مع نشوة وطرب ولو كان هذا المسكر من غير عصير العنب كالعسل الممزوج بالماء إذا غلى من المكث. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «اجتنب كل شىء ينش» رواه النسائي. والنشيش صوت غليان الشراب وهو الحد الفاصل بين النبيذ الحلال والنبيذ المحرم فنبيذ التمر والعسل والحنطة والشعير ونحو ذلك لا يحرم قبل أن يغلي ولا يسمى خمرا إلا بعد أن يغلي وليس المراد بالغليان الغليان بالوضع على النار بل الغليان الذي ينشأ في العصير من المكث مع تغطية إنائه، فيحصل للغليان صوت فيرتفع الشراب عند الغليان إلى أعلى وعند ذلك يصير مسكرا ثم ينـزل ويصفو فيستطيبه شربة الخمور ثم لا يزال محرما إلى أن يصير خلا وذلك بتغيره إلى الحموضة ولو كانت حموضة خفيفة فيصير خلا طاهرا حلالا.

قال المؤلف رحمه الله: ومحرم كالطنبور وهو ءالة لهو تشبه العود.

الشرح من البيع المحرم بيع ءالات اللهو المحرمة كالطنبور وهو شىء يشبه العود، وكذلك المزمار والكوبة وهو الطبل الضيق الوسط. ويحرم أيضا بيع النرد إلا أنه يصح بيعه إن صلح بيادق للشطرنج.

قال المؤلف رحمه الله: ويحرم بيع الشىء الحلال الطاهر على من تعلم أنه يريد أن يعصي به كالعنب لمن يريده للخمر والسلاح لمن يعتدي به على الناس.

الشرح يحرم بيع الحلال الطاهر لمن يعلم أنه يريده للمعصية كبيع العنب ممن يعلم أنه يعصره خمرا، والخشب ونحوه ممن يتخذه ءالة لهو محرم أو صنما، وبيع السلاح لمن يستعين به على قتال محرم في شرع الله، وبيع الحشيشة ونحوها من المخدرات ممن يعلم أنه يستعملها للمعصية. والحشيشة لا تعد من المسكرات وإنما تحرم لأنها من الأشياء المخدرة الضارة. ومن هذا القبيل بيع الديك لمن يهارش به والثور لمن يناطح به.

قال المؤلف رحمه الله: وبيع الأشياء المسكرة.

الشرح يدخل تحت عموم هذه الجملة الإسبيرتو ولو لغير الشرب، ومن احتاج إليها فليحصلها بغير طريقة البيع والشراء كأن يقول بعني هذه القنينة بكذا إلا الإسبيرتو الذي فيها فإني أستعمله مجانا. الإسبيرتو مسكر بل هو روح الخمر أي قوته فلا يجوز أن يسترسل في شرائه لأنه كسائر المسكرات حكما، فالحديث الوارد في تحريم بيع الخمر وهو ما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة ولحم الخنـزير والأصنام» قيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس قال «لا هو حرام» شاهد لتحريم بيع الإسبيرتو الذي هو مسكر لمن يقصده للسكر أو لغير ذلك كالوقود والتداوي لظاهر الجسم لأنه عليه الصلاة والسلام حرم بيع الميتة بقصد جملتها أو بقصد شحمها لغير الأكل كطلي السفن بها ودهن الجلود والاستصباح بها أي اتخاذها سراجا يستضاء به.

قال المؤلف رحمه الله: وبيع المعيب بلا إظهار لعيبه.

الشرح يحرم بيع المعيب مع كتمان عيبه أي ترك بيانه. وقد روى مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع الطعام فأدخل يده فيه فمست يده بللا فقال «يا صاحب الطعام ما هذا» فقال أصابته السماء أي المطر فقال «هلا جعلته ظاهرا حتى يراه الناس من غشنا فليس منا». والمراد بالطعام في الحديث القمح.

قال المؤلف رحمه الله: فائدة. لا تصح قسمة تركة ميت ولا بيع شىء منها ما لم توف ديونه ووصاياه وتخرج أجرة حجة وعمرة إن كانا عليه إلا أن يباع شىء لقضاء هذه الأشياء فالتركة كمرهون بذلك.

الشرح لا تصح قسمة التركة التي خلفها الميت من كل حق مالي ما لم تؤد ديون الميت من دين للناس أو من دين لله كالزكاة الواجبة في عين المال وما لم تنفذ الوصايا أي ما أوصى به بأن يصرف بعد موته، وما لم تخرج أجرة الحج والعمرة المستقرين في ذمته كأن مات وقد كان وجب عليه أداؤهما وتسلم لمن يؤدي النسك عنه، فلا يجوز تصرف الورثة في شىء من التركة حتى يخرج ذلك قبلا كما أن المرهون لا يجوز التصرف فيه بما يزيل الملك قبل قضاء الدين الذي رهن به إلا أن يكون ما بيع لقضاء شىء من هذه الأشياء.

قال المؤلف رحمه الله: كرقيق جنى ولو بأخذ دانق لا يصح بيعه حتى يؤدي ما برقبته أو يأذن الغريم في بيعه.

الشرح العبد إذا تعلق برقبته غرامة كأن سرق دانقا فأتلفه لا يجوز لسيده بيعه حتى يؤدي ما برقبته لأن حق الغريم متعلق بالرقبة فهي مشغولة تمنع صحة بيع السيد لها أو حتى يأذن الغريم وهو ذو المال لسيد العبد في بيعه فيصح حينئذ. والدانق سدس الدرهم.

قال المؤلف رحمه الله: ويحرم أن يفتر رغبة المشتري أو البائع بعد استقرار الثمن ليبيع عليه أو ليشتريه منه.

الشرح يحرم على المسلم المكلف أن يفتر رغبة المشتري من غيره كأن يخرج له أرخص مما يريد شراءه أو يبيع بحضرته مثل المبيع بأرخص أو يعرض عليه ليشتريه كما يحرم تفتير رغبة البائع كأن يرغبه باسترداده ليشتريه منه بأغلى أو يطلبه من المشتري بزيادة ربح بحضرة البائع. وحرمة ذلك تكون إن حصل التفتير بعد استقرار الثمن بأن يكونا قد صرحا بالرضا به وإن فحش نقص القيمة عن الثمن.

قال المؤلف رحمه الله: وبعد العقد في مدة الخيار أشد.

الشرح أن ما ذكر من التفتير إن وقع بعد إجراء العقد وقبل لزومه أي في مدة الخيار أي خيار المجلس أو خيار الشرط فهو أشد منه قبل العقد وبعد الاتفاق لأن الإيذاء هنا أكثر.

قال المؤلف رحمه الله: وأن يشتري الطعام وقت الغلاء والحاجة ليحبسه ويبيعه بأغلى.

الشرح يحرم أن يشتري الإنسان الطعام أي القوت حتى التمر والزبيب ونحوهما وقت الغلاء والحاجة إليه ليحبسه ويبيعه بأغلى من ثمن المثل عند اشتداد حاجة أهل محله أو غيرهم إليه، وهذا يسمى الاحتكار وهذا تفسيره في المذهب، فخرج بذلك احتكار طعام غير قوت، واحتكار قوت لم يشتره كغلة ضيعته أو اشتراه وقت الرخص أو الغلاء لنفسه وعياله أو ليبيعه لا بأكثر. ونقل السبكي عن القاضي حسين أنه في وقت الضرورة يحرم احتكار ما بالناس ضرورة إليه وهو في غنية عنه.

قال المؤلف رحمه الله: وأن يزيد في ثمن سلعة ليغر غيره.

الشرح هذا يسمى النجش وقد ثبت النهي عنه في الصحيح وذلك ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم «ولا تناجشوا» فيحرم النجش ولو كانت الزيادة في مال محجور عليه لترويجه له. ويلتحق بالنجش مدح السلعة ليرغب غيره فيها بكذب.

قال المؤلف رحمه الله: وأن يفرق بين الجارية وولدها قبل التمييز.

الشرح يحرم التفريق بالبيع بين الأمة وولدها قبل أن يميز الولد ولو رضيت بذلك، وكذلك لو كان ولدها مجنونا بالغا فيحرم التفريق بينهما قبل إفاقته.

قال المؤلف رحمه الله: وأن يغش أو يخون في الكيل والوزن والذرع والعد أو يكذب.

الشرح مما يحرم من البيع الغش فيه أو الخيانة في الكيل أو الوزن أو الذرع أو العد أو الكذب بالقول في شىء من ذلك. قال الله تعالى ﴿ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [سورة المطففين] أي للحساب.

قال المؤلف رحمه الله: وأن يبيع القطن أو غيره من البضائع ويقرض المشتري فوقه دراهم ويزيد في ثمن تلك البضاعة لأجل القرض، وأن يقرض الحائك أو غيره من الأجراء ويستخدمه بأقل من أجرة المثل لأجل ذلك القرض أي إن شرط ذلك ويسمون ذلك الربطة أو يقرض الحراثين إلى وقت الحصاد ويشترط أن يبيعوا عليه طعامهم بأوضع من السعر قليلا ويسمون ذلك المقضي.

الشرح أن هذه المذكورات حرام بشرط أن يسبق اتفاق على ذلك وذلك من جملة ربا القرض. وأما لو أقرض في هذه المسائل فأجرى العقد بدون هذا الاتفاق لم يحرم.

قال المؤلف رحمه الله: وكذا جملة من معاملات أهل هذا الزمان وأكثرها خارجة عن قانون الشرع.

الشرح كل ما كان في معنى المذكورات فهو حرام لأنه لا يخلو من محظورات الشرع. ومن جملة هذه المعاملات الفاسدة أنواع التأمينات التي تعارفوها في هذا الزمن كتأمين السيارة أو تأمين البضائع المستجلبة وما يسمونه التأمين على الحياة فيجب على من وقع في ذلك أن يخرج منه بالتوبة، إلا أنه يحل لمن لا يمكن من شراء السيارة إلا بطريق التأمين أن يدخل في ذلك ثم لا يأخذ بعد ذلك ممن أمن منهم إلا قدر ما دفع.

قال المؤلف رحمه الله: فعلى مريد رضا الله سبحانه وسلامة دينه ودنياه أن يتعلم ما يحل وما يحرم من عالم ورع ناصح شفيق على دينه فإن طلب الحلال فريضة على كل مسلم.

الشرح يجب تعلم علم الدين الذي يعرف به الحلال والحرام تلقيا من أهل المعرفة والثقة فلا يجوز استفتاء من ليس له كفاءة في علم الدين ولا استفتاء العالم الفاسق. قال الإمام المجتهد التابعي الجليل محمد بن سيرين رضي الله عنه «إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» رواه مسلم في مقدمة صحيحه.

ومعنى قوله إن طلب الحلال فريضة على كل مسلم أنه لا يجوز تناول رزق من طريق حرام بل على من أراد تحصيل المال لحاجة نفسه أو حاجة عياله أن يسعى للتحصيل بطريق مباح شرعا، وليس معنى ذلك أنه يحرم على الشخص أن يمكث من دون تعاطي عمل فلو ترك الشخص العمل وهو قادر عليه غير معتمد على السؤال من شخص معين أو على الشحاذة بل كان غير متعرض لذلك واثقا بربه أنه يسوق إليه رزقه فلا إثم عليه. وقد روى الترمذي بإسناد صحيح أن رجلا شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاه لأنه لا يحترف معه فقال له «لعلك ترزق به». الشاهد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر على الأخ ترك الاحتراف مع أخيه.

 

فصل في النفقة

قال المؤلف رحمه الله: (فصل):

الشرح أن هذا فصل معقود لبيان أحكام النفقة.

 قال المؤلف رحمه الله: يجب على الموسر نفقة أصوله المعسرين أي الآباء والأمهات الفقراء وإن قدروا على الكسب.

الشرح يجب على من استطاع أن ينفق على أصوله أي الأب والجد وإن علا والأم والجدة وإن علت إن كانوا معسرين بالمعروف بلا تقدير بحد معين. وإن كان لا يملك أملاكا تكفيهم وجب عليه أن يعمل ويكسب في تحصيل نفقتهم ولا فرق بين أن يكونوا قادرين على الكسب أو عاجزين.

قال المؤلف رحمه الله: ونفقة فروعه أي أولاده وأولاد أولاده إذا أعسروا وعجزوا عن الكسب لصغر أو زمانة أي مرض مانع من الكسب.

الشرح تجب نفقة الفروع من الذكور والإناث إن أعسروا عما يكفيهم وعجزوا عن الكسب لصغر أو زمانة وكذلك إن كان عجزهم عن كفاية أنفسهم لجنون أو عمى أو مرض ومن ثم لو أطاق صغير الكسب أو أطاق تعلمه وكان لائقا به جاز للولي أن يحمله عليه وينفق عليه منه، فإن امتنع أو هرب لزم الولي الإنفاق عليه، وأما البالغ غير العاجز عن الكسب لزمانة أو نحوها فلا يجب على الأصل الإنفاق عليه وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه لا فرق فيه بين الفرع الذكر والأنثى. والنفقة التي تجب في حق الأصول والفروع هي الكسوة والسكنى اللائقة بهم والقوت والإدام اللائق بهم، ولا يجب عليه إطعامهم إلى حد المبالغة في الشبع لكن أصل الإشباع واجب.

قال المؤلف رحمه الله: ويجب على الزوج نفقة الزوجة.

الشرح يجب على الزوج نفقة زوجته الممكنة نفسها له ولو كانت أمة مملوكة أو كافرة وكذلك العاجزة عن التمكين لمرض. وهذه النفقة هي في المذهب مدا طعام لكل يوم على موسر حر ومد على معسر ومد ونصف على متوسط، وعليه طحنه وعجنه وخبزه وأدم غالب البلد ويختلف بالفصول، ويقدر الأدم القاضي باجتهاده عند الاختلاف ويتفاوت بين موسر وغيره. ويجب لها كسوة تكفيها وءالة تنظيف.

قال المؤلف رحمه الله: ومهرها وعليه لها متعة إن وقع الفراق بينهما بغير سبب منها.

الشرح أنه يجب على الزوج أداء مهر زوجته فإن كان حالا فمتى طلبت وإن كان مؤجلا فعند حلول الأجل لا قبله. ويشترط في المهر أن يكون مما يصح جعله مبيعا أو ما يصح أن يكون منفعة مقصودة كتعليم القرءان أو سورة منه فيصح جعل المهر تعليم أقصر سورة من القرءان أو تعليم حرفة كخياطة. ويجب للزوجة التي وقع الفراق بينها وبين زوجها بغير سبب منها متعة على الزوج وليست مقدارا معينا ولكن يستحب أن تكون للمتوسط ثلاثين درهما وأن لا تبلغ نصف مهر المثل، ويجزئ ما يتراضيان عليه ولو أقل متمول فإن تنازعا قدره القاضي باجتهاده معتبرا حالهما.

قال المؤلف رحمه الله: وعلى مالك العبيد والبهائم نفقتهم وأن لا يكلفهم من العمل ما لا يطيقونه ولا يضربهم بغير حق.

الشرح روى البخاري في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال «إخوانكم خولكم ملككم الله إياهم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا يكلفه من العمل ما يغلبه فإن كلفتموهم فأعينوهم». وروى مالك في الموطإ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف» أي بلا إسراف ولا تقتير.

قال المؤلف رحمه الله: ويجب على الزوجة طاعته في نفسها إلا في ما لا يحل وأن لا تصوم النفل ولا تخرج من بيته إلا بإذنه.

الشرح يجب على الزوجة طاعة الزوج فيما هو حق له عليها من الاستمتاع وما يتعلق به إلا فيما حرمه الشرع من أمور الاستمتاع فلا يجب عليها أن تطيعه في الاستمتاع المحرم كأن كانت حائضا أو نفساء وأراد أن يجامعها بل يحرم عليها، ولا يجب عليها أيضا طاعته في الجماع إذا كانت لا تطيق الوطىء لمرض. ويجب عليها أن تتزين إن طلب منها ذلك وأن تترك ما يعكر عليه الاستمتاع من الروائح الكريهة كرائحة الثوم والبصل والسيجارة إن كان يتأذى بها. ويجب عليها أن لا تصوم النفل وهو حاضر إلا بإذنه، أما الواجب كرمضان فإنها تصومه رضي أو لم يرض لأن الله أحق أن يطاع وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» رواه الترمذي. ويجب عليها أن لا تأذن لأحد في دخول بيته إلا بإذنه، ولا يجوز لها أن تخرج من بيته من غير ضرورة إلا بإذنه، فأما الخروج لضرورة فهو جائز وذلك كأن أرادت أن تستفتي أهل العلم فيما لا تستغني عنه وكان الزوج لا يكفيها ذلك فإنها تخرج بدون رضاه، وهذا شامل لمعرفة ما هو من أصول العقيدة وما هو من الأحكام كأمور الطهارة كمسائل الحيض فإن لها تشعبا. ومن الضرورة أن تخشى اقتحام فجرة في المنـزل الذي أسكنها فيه أو انهدامه.