الأحد ديسمبر 22, 2024

كِتَابُ الْحَجِّ

 

   قَالَ تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ [سُورَةَ ءَالِ عِمْرَان/97[.

   وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ».

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً.

   الشَّرْحُ الْحَجُّ قَصْدُ الْكَعْبَةِ بِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْعُمْرَةُ زِيَارَةُ الْكَعْبَةِ لِأَفْعَالٍ مَخْصُوصَةٍ.

   وَالْحَجُّ فَرْضٌ بِالإِجْمَاعِ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ وَمَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَهُ كَفَرَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ تَرْكِهِ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ وَفَرْضِيَّتِهِ فَلا يَكُونُ كُفْرًا وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ.

   وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا فَذَهَبَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ مِنْهُمُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهَا فَرْضٌ كَالْحَجِّ، وَذَهَبَ بَعْضٌ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ لَيْسَتْ فَرْضًا.

   وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِلْحَجِّ مَزِيَّةً لَيْسَتْ لِلصَّلاةِ وَلا لِلصِّيَامِ وَلا لِلزَّكَاةِ وَهِيَ أَنَّهُ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ]، بِخِلافِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ فَإِنَّهَا لا تُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَمَعَ ذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مَرْتَبَتُهَا فِي الدِّينِ أَعْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ الْحَجِّ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَزِيَّةَ لا تَقْتَضِي التَّفْضِيلَ، أَيْ أَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ كَانَ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ بِخِلافِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «فَلَمْ يَرْفُثْ» أَيْ كَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الْجِمَاعِ مَا دَامَ فِي الإِحْرَامِ.

   ثُمَّ الشَّرْطُ فِي كَوْنِ الْحَجِّ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ وَالصَّغَائِرَ وَيَجْعَلُ الإِنْسَانَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ [تَنْبِيهٌ مَنْ حَجَّ لا يَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَوَاتُ الَّتِي لَمْ يَقْضِهَا وَلا الصِّيَامُ الَّذِي لَمْ يَقْضِهِ وَلا الزَّكَاةُ الَّتِي لَمْ يُؤَدِّهَا وَلا يَسْقُطُ عَنْهُ حُقُوقُ النَّاسِ الَّتِي فِي ذِمَّتِهِ كَأَنْ كَانَ أَكَلَ مَالَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ بَلْ لا بُدَّ لَهُ مِنْ رَدِّهِ لَهُ، وَلا بُدَّ لَهُ مِنْ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ] أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ الَّذِي يَتَزَوَّدُهُ لِحَجِّهِ حَلالًا، وَأَنْ يَحْفَظَ نَفْسَهُ مِنَ الْفُسُوقِ أَيْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَالْجِمَاعِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلا يَجْعَلُهُ حَجُّهُ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، هَذَا مَعْنَى بَعْضِ مَا يَحْتَوِيهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ»، لَكِنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْفَظْ نَفْسَهُ مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ فَلا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الْفَضِيلَةِ وَهِيَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، فَلا يُقَالُ لِلَّذِي تَحْصُلُ مِنْهُ الصَّغَائِرُ وَهُوَ فِي الْحَجِّ كَكَذْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِلْحَاقُ ضَرَرٍ بِمُسْلِمٍ وَنَظْرَةٍ بِشَهْوَةٍ «فَسَدَ حَجُّكَ وَلا أَذْهَبْتَ ثَوَابُهُ» لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ صَبِيحَةَ الْعِيدِ بِمِنًى امْرَأَةً شَابَّةً جَمِيلَةً تَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْحَجِّ فَجَعَلَ ابْنُ عَمِّهِ الْفَضْلُ بنُ الْعَبَّاسِ يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَعْجَبَهُ حُسْنُهَا وَجَعَلَتْ هِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ أَعْجَبَهَا حُسْنُهُ، فَصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّهِ الَّذِي كَانَ رَاكِبًا خَلْفَهُ عَلَى الْبَعِيرِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَنْتَ أَذْهَبْتَ ثَوَابَ حَجِّكَ لِأَنَّكَ نَظَرْتَ نَظْرَةً مُحَرَّمَةً هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] وَالتِّرْمِذِيُّ [فِي سُنَنِهِ].

   وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْحَجِّ أَنَّهُ جَمَعَ أَنْوَاعَ رِيَاضَةِ النَّفْسِ أَيْ تَهْذِيبِهَا فَفِيهِ إِنْفَاقُ مَالٍ وَفِيهِ جَهْدُ نَفْسٍ بِنَحْوِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالسَّهَرِ وَاقْتِحَامِ مَهَالِكَ وَفِرَاقِ وَطَنٍ وَأَهْلٍ وَإِخْوَةٍ أَيِ الأَصْحَابِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ الْمُكَلَّفِ الْمُسْتَطِيعِ بِمَا يُوصِلُهُ وَيَرُدُّهُ إِلَى وَطَنِهِ فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ وَمَسْكَنِهِ وَكِسْوَتِهِ اللَّائِقَيْنِ بِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ لِلْحَجِّ شُرُوطَ وُجُوبٍ وَشَرْطَ صِحَّةٍ.

   فَأَمَّا شُرُوطُ الْوُجُوبِ فَهِيَ: الإِسْلامُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالِاسْتِطَاعَةُ وَالْحُرِّيَّةُ.

   وَأَمَّا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَهُوَ الإِسْلامُ فَيَصِحُّ الْحَجُّ مِنَ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْمُسْتَطِيعِ وَغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، وَمِنَ الصَّبِيِّ فَيَصِحُّ مِنَ الْمُمَيِّزِ بِمُبَاشَرَةِ الأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ كَالْبَالِغِ وَلا بُدَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ وَلِيُّهُ، وَمِنْ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ بِطَرِيقِ وَلِيِّهِ، الْوَلِيُّ يَقُولُ بِقَلْبِهِ جَعَلْتُ ابْنِي هَذَا مُحْرِمًا فِي حُضُورِ الصَّبِيِّ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ فَيَكُونُ انْعَقَدَ الْحَجُّ لَهُ، لَكِنْ لا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَهُ لِلطَّوَافِ وَلِعَرَفَةَ وَلِلسَّعْيِ إِمَّا يَحْمِلُهُ وَإِمَّا يُوَكِّلُ شَخْصًا بِحَمْلِهِ يَكُونُ مَعَهُ فَلَوْ كَانَ ابْنَ سَنَةٍ أَوْ أَقَلَّ يَصِحُّ وَيُكْتَبُ الأَجْرُ لِلْغُلامِ وَيَكُونُ لِلأَبِ ثَوَابُ السَّبَبِيَّةِ، فَإِذَا أَحْرَمَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ الَّذِي لَيْسَ مُمِيِّزًا أَيْ نَوَى جَعْلَهُ مُحْرِمًا وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ غَيْرَ حَاضِرٍ عِنْدَ إِحْرَامِ الْوَلِيِّ عَنْهُ ثُمَّ أَحْضَرَهُ وَلِيُّهُ الْمَشَاهِدَ أَيْ طَافَ بِهِ الْكَعْبَةَ وَسَعَى بِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَشْهَدَهُ عَرَفَةَ صَحَّ لِهَذَا الطِّفْلِ حَجُّهُ لِحَدِيثِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَتَتْ بِوَلَدٍ تَحْمِلُهُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ «نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ]، فَإِذَا جَعَلَهُ وَلِيُّهُ مُحْرِمًا يَفْعَلُ عَنْهُ مَا لا يَتَأَتَّى مِنَ الطِّفْلِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ مِثْلَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ. وَنِيَّةُ الْوَلِيِّ عَنْ طِفْلِهِ تَكُونُ بِأَنْ يَقُولَ جَعَلْتُ ابْنِي هَذَا مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ طِفْلِهِ الصَّغِيرِ فِي ءَانٍ وَاحِدٍ.

   أَمَّا صِحَّةُ الْمُبَاشَرَةِ فَشَرْطُهَا التَّمْيِيزُ وَإِذْنُ الْوَلِيِّ لِلصَّبِيِّ كَمَا تَقَدَّمَ.

   وَأَمَّا صِحَّةُ وُقُوعِ الْحَجِّ عَنْ نَذْرٍ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّكْلِيفُ.

   وَأَمَّا وُقُوعُ الْحَجِّ عَنْ فَرْضِ الإِسْلامِ بِحَيْثُ لا يَجِبُ إِعَادَتُهُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً أُخْرَى فَشَرْطُهُ مَعَ التَّكْلِيفِ الْحُرِّيَّةُ التَّامَّةُ.

   فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لا يَجِبَانِ إِلَّا عَلَى الْمُسْلِمِ الْحُرِّ الْكَامِلِ الْحُرِّيَّةِ الْمُكَلَّفِ الْمُسْتَطِيعِ، فَلا يُطَالَبُ الْكَافِرُ الأَصْلِيُّ بِأَدَائِهِمَا حَتَّى لَوْ زَالَتْ عَنْهُ الِاسْتِطَاعَةُ ثُمَّ أَسْلَمَ لا يَجِبَانِ عَلَيْهِ لِأَنَّ اسْتِطَاعَتَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ كَلا اسْتِطَاعَةٍ، لَكِنَّ الْكَافِرَ يُخَاطَبُ بِهِمَا خِطَابَ عِقَابٍ فِي الآخِرَةِ. وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيُخَاطَبُ بِهِمَا خِطَابَ لُزُومٍ فَإِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا فِي حَالِ رِدَّتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَقَدِ افْتَقَرَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَوْ مَاتَ فِي زَمَنِ اسْتِطَاعَتِهِ مُرْتَدًّا لَمْ يُحَجَّ عَنْهُ.

   وَيُعْلَمُ أَيْضًا أَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لا يَجِبَانِ عَلَى الْقِنِّ وَالْقِنُّ هُوَ الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ كُلُّهُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمُكَلَّفِ لا يَجِبَانِ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ وَإِنْ كَانَ لَوْ تَكَلَّفَ بِاسْتِدَانَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَجْزَأَهُ [وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ].

   وَالصَّبِيُّ الَّذِي حَجَّ فِي حَالِ الصِّبَا إِذَا بَلَغَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ يُعِيدُ الْحَجَّ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ ثُمَّ بَلَغَ الْحِنْثَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى، وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ.                                  

   قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ الْعَالِمُ الْجَلِيلُ عَبْدُ اللَّهِ الْحَدَّادُ الْحَضْرَمِيُّ إِنَّ مَنْ تَكَلَّفَ الْحَجَّ شَوْقًا إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَحِرْصًا عَلَى إِقَامَةِ الْفَرِيضَةِ إِيـمَانُهُ أَكْمَلُ وَثَوَابُهُ أَعْظَمُ وَأَجْزَلُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لا يُضَيِّعَ بِسَبَبِهِ شَيْئًا مِنَ الْفَرَائِضِ وَإِلَّا كَانَ ءَاثِمًا وَاقِعًا فِي الْحَرَجِ كَمَنْ بَنَى قَصْرًا وَهَدَمَ مِصْرًا اهـ مَعْنَاهُ خَسَارَتُهُ أَكْبَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِ.

   وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ فِي شَرْحِ الِاسْتِطَاعَةِ:

   فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ وَمَسْكَنِهِ وَكِسْوَتِهِ اللَّائِقَيْنِ بِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ.

   مَعْنَاهُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ الِاسْتِطَاعَةُ، وَالِاسْتِطَاعَةُ نَوْعَانِ: اسْتِطَاعَةٌ حِسِّيَّةٌ وَاسْتِطَاعَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ.

   فَالِاسْتِطَاعَةُ الْحِسِّيَّةُ أَنْ يَجِدَ الشَّخْصُ مَا يُوصِلُهُ إِلَى مَكَّةَ وَيَرُدُّهُ إِلَى وَطَنِهِ مِنْ زَادٍ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ وَمَسْكَنِهِ وَكِسْوَتِهِ اللَّائِقَيْنِ بِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ مَعَ الأَمْنِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ.

   وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ أَيِ الِاسْتِطَاعَةُ الْحُكْمِيَّةُ فَمِنْهَا أَنْ تَجِدَ الْمَرْأَةُ مَحْرَمًا يَحُجُّ مَعَهَا أَوْ نِسْوَةً ثِقَاتٍ بَالِغَاتٍ أَوْ مُرَاهِقَاتٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ وَجَدَتْ ثِقَةً وَاحِدَةً يَكْفِي لِحُصُولِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنْ كَانَ مَحْرَمُهَا لا يُسَافِرُ مَعَهَا لِلْحَجِّ إِلَّا بِالأُجْرَةِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وَاجِدَةً لِهَذِهِ الأُجْرَةِ أَيْ قَادِرَةً عَلَيْهَا، فَلا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَحُجَّ إِلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ جَازَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِحَجِّ الْفَرْضِ وَحْدَهَا، أَمَّا لِغَيْرِ الْحَجِّ الْوَاجِبِ وَهُوَ النَّفْلُ فَلا يَجُوزُ لَهَا السَّفَرُ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهَا وَلا مَعَ النِّسْوَةِ الثِّقَاتِ، وَيَشْمَلُ هَذَا الْحُكْمُ سَفَرَهَا لِزِيَارَةِ الأَوْلِيَاءِ أَوْ لِزِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ لِغَيْرِ الْفَرْضِ مِنْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا مَعَ مَحْرَمٍ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] وَفِي رِوَايَةٍ «مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] وَفِي رِوَايَةٍ «بَرِيدًا» [أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالْبَرِيدُ هُوَ مَسَافَةُ نِصْفِ النَّهَارِ] «إِلَّا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ» وَكُلُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحَةُ الإِسْنَادِ.

   فَإِذَا كَانَ لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِلا مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ لِحَجِّ النَّفْلِ وَزِيَارَةِ قَبْرِ الرَّسُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَبِالأَوْلَى أَنْ لا يَجُوزَ لَهَا السَّفَرُ وَحْدَهَا لِلتَّنَزُّهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفَرُهَا لِضَرُورَةٍ كَأَنْ تَخَافَ عَلَى نَفْسِهَا فِي بَلَدِهَا أَوْ لا تَجِدَ الْمُؤْنَةَ الَّتِي لا تَسْتَغْنِي عَنْهَا مِنْ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَمَسْكَنٍ، أَوْ لا تَجِدَ مَنْ يُعَلِّمُهَا دِينَهَا أَيْ عِلْمَ دِينِهَا الضَّرُورِيَّ، أَوْ حَدَثَتْ لَهَا حَادِثَةٌ احْتَاجَتْ لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِيهَا فَلَمْ تَجِدْ فِي بَلَدِهَا مَنْ يُفْتِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، أَوْ كَانَ لَهَا أَبٌ أَوْ أُمٌّ تَخَافُ عَلَيْهِمَا الضَّيَاعَ إِنْ لَمْ تَذْهَبْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تُسَافِرَ وَحْدَهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ وَلَوْ خَالَفَتْ هَذَا الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فَسَافَرَتْ وَحْدَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً مُحَرَّمَةً مِنَ الصَّغَائِرِ، فَلا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَقُولَ إِنِّي مُتَشَوِّقَةٌ لِزِيَارَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُسَافِرَ بِلا مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ كَمَا يَحْصُلُ لِبَعْضِ النِّسَاءِ.

   وَهَذَا الْحُكْمُ أَيْ جَوَازُ السَّفَرِ لِحَجِّ الْفَرْضِ لِلْمَرْأَةِ بِلا مَحْرَمٍ أَوْ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ انْفَرَدَ بِهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ فَلا يُجِيزُونَ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرَ بِلا مَحْرَمٍ فِي حَجِّ الْفَرْضِ وَغَيْرِهِ.

   وَهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةُ تُسَمَّى الِاسْتِطَاعَةَ بِالنَّفْسِ وَهُنَاكَ اسْتِطَاعَةٌ بِالْغَيْرِ وَذَلِكَ فِي الْمَعْضُوبِ وَالْمَعْضُوبُ الْمَقْطُوعُ أَيِ الَّذِي قَطَعَهُ الْمَرَضُ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَافِرَ لِيَحُجَّ بِنَفْسِهِ مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا، فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنِيبَ عَنْ نَفْسِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِأُجْرَةٍ، وَهَذَا النَّائِبُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ، أَمَّا الَّذِي لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ فَلا يَنُوبُ عَنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْضُوبُ إِذَا كَانَ لا يَجِدُ الأُجْرَةَ لَكِنْ وَجَدَ مَنْ يَتَبَرَّعُ عَنْهُ وَهُوَ عَدْلٌ أَيْ يَحُجُّ بِلا أُجْرَةٍ وَلَوْ أُثْنَى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَطِيعًا، لَكِنَّ هَذَا الْمَعْضُوبَ إِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ أَقَلُّ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ وَيَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ.

   ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الِاسْتِئْجَارِ لِلْحَجِّ [يُبَيِّنُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فِي الْعَقْدِ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ أَحَجُّ بِالأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ الَّتِي خِلافَ فِيهَا وَمَا زَادَ فَتَبَرُّعٌ] إِمَّا أَنْ تَكُونَ إِجَارَةَ عَيْنٍ أَوْ إِجَارَةَ ذِمَّةٍ، فَإِجَارَةُ الْعَيْنِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الشَّخْصَ لِيَحُجَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَيِّتِهِ فَيَقُولَ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنِّي بِكَذَا، أَوْ يَقُولَ اسْتَأْجَرْتُكَ لِتَحُجَّ عَنْ وَالِدِي الْمَيِّتِ أَوْ عَنْ أُمِّي الْمَيِّتَةِ بِكَذَا مِنَ الأُجْرَةِ. وَأَمَّا إِجَارَةُ الذِّمَّةِ فَهِيَ أَنْ يُلْزِمَ ذِمَّتَهُ الْحَجَّ عَنْهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ أَلْزَمْتُ ذِمَّتَكَ الْحَجَّ عَنِّي أَوْ عَنْ مَيِّتِي بِكَذَا وَيُسَمِّي أُجْرَةً مَعْلُومَةً فَفِي إِجَارَةِ الذِّمَّةِ الأَجِيرُ لَهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ.

   وَتَخْتَلِفُ إِجَارَةُ الذِّمَّةِ عَنْ إِجَارَةِ الْعَيْنِ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهَا تَسْلِيمُ الأُجْرَةِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ أَيْ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا وَإِلَّا فَهِيَ فَاسِدَةٌ، أَمَّا إِجَارَةُ الْعَيْنِ فَلا يُشْتَرَطُ فِيهَا قَبْضُ الأُجْرَةِ فِي الْمَجْلِسِ فَلَوْ دَفَعَ لَهُ الأُجْرَةَ بَعْدَ زَمَانٍ صَحَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَبَرَّعَ شَخْصٌ بِالْحَجِّ عَنْ مَيِّتٍ دُونَ أَنْ يُلْزِمَهُ أَحَدٌ أَوْ يَطْلُبَ مِنْهُ.

   فَائِدَةٌ لَوْ مَاتَ الأَجِيرُ أَيِ الشَّخْصُ الَّذِي اسْتُؤْجِرَ لِيَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ فِي الطَّرِيقِ أَيْ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ بَعْدَمَا بَدَأَ بِأَعْمَالِ الْحَجِّ يَسْتَحِقُّ قِسْطَهُ مِنَ الأُجْرَةِ أَيْ قِسْطَ الْقَدْرِ الَّذِي عَمِلَهُ وَسَقَطَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَيْ لا يَسْتَحِقُّ مَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي أَدَّاهُ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ، وَلَوْ فَعَلَ الأَجِيرُ مَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ فَالْفِدْيَةُ عَلَيْهِ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. ثُمَّ الَّذِي يَذْهَبُ لِحَجِّ الْبَدَلِ بِأُجْرَةٍ إِنْ كَانَ الَّذِي حَرَّكَهُ الْمَالُ لَيْسَ لَهُ ثَوَابٌ، أَمَّا الْمَيِّتُ فَيَنْتَفِعُ.

   وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُؤَلِّفِ «فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ وَمَسْكَنِهِ وَكِسْوَتِهِ اللَّائِقَيْنِ بِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ» أَنَّ الْحَجَّ لا يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ إِلَّا إِذَا وَجَدَ زَادًا لِلْحَجِّ فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا أَوْ كَانَ ذَلِكَ الدَّيْنُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسَ حَقًّا لِلْعِبَادِ كَالْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِذَا كَانَ الشَّخْصُ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ لِشَخْصٍ أَوْ زَكَاةٌ لَمْ يَدْفَعْهَا وَكَانَ لَوْ حَجَّ فَاتَهُ أَدَاءُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ أَوْ أَدَاءُ الزَّكَاةِ فَلَيْسَ بِمُسْتَطِيعٍ.

   وَعَنِ الْمَسْكَنِ وَعَنِ الْكِسْوَةِ. وَلَيْسَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيْتٌ مِلْكٌ يَسْكُنُهُ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ مِلْكًا أَوْ مُسْتَأْجَرًا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ أُجْرَتِهِ. وَيُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكَنُ وَالْكِسْوَةُ لائِقَيْنِ بِهِ فَإِنْ كَانَ الْمَسْكَنُ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِهِ فَلا يَمْنَعُ الْوُجُوبَ وَلا يَمْنَعُ الِاسْتِطَاعَةَ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ فَيَمْنَعُ الِاسْتِطَاعَةَ.

   وَعَنْ مُؤْنَةِ مَنْ عَلَيْهِ مُؤْنَتُهُ كَالزَّوْجَةِ وَالْقَرِيبِ الَّذِي تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ كَأَبِيهِ وَأُمِّهِ الْفَقِيرَيْنِ.

   وَعَنْ إِعْفَافِ أَبِيهِ، أَيْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ يَحْتَاجُ لِلزِّوَاجِ وَكَانَ الِابْنُ لا يَجِدُ مَا يَكْفِي لِزَادِ الْحَجِّ مَعَ مُؤْنَةِ تَزْوِيجِ الأَبِ فَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَطِيعٍ، اللَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ أَمْرَ الْوَالِدِ فَإِنْ كَانَ الأَبُ بِحَاجَةٍ لِلزِّوَاجِ فَفَرْضٌ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يُسَاعِدَهُ [أَيْ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ] فَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ فَهُوَ فَاسِقٌ، هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلأَبِ مَالٌ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ مِنْهُ، مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ أَبُوهُ يُرِيدُ الزِّوَاجَ وَيَحْتَاجُهُ لِأَنَّ زَوْجَتَهُ تُوُفِّيَتْ مَثَلًا وَكَانَ فَقِيرًا عَاجِزًا عَنْ كُلَفِهِ وَكَانَ الِابْنُ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَاعِدَهُ صَارَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يُزَوِّجَهُ مَعَ تَحَمُّلِ الْكُلْفَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ يَكُونُ عَاقًّا ذَنْبُهُ كَبِيرٌ فِي الآخِرَةِ، كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لا يَعْرِفُونَ هَذَا.

   وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ حُجَّ عَنْهُ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ وَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ اقْضُوا دَيْنَ اللَّهِ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ].

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَرْكَانُ الْحَجِّ سِتَّةٌ: الأَوَّلُ الإِحْرَامُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِقَلْبِهِ «دَخَلْتُ فِي عَمَلِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ».

   الشَّرْحُ الأَرْكَانُ وَهِيَ الأَعْمَالُ الَّتِي لا يَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهَا وَلا تُجْبَرُ بِالدَّمِ، وَهِيَ سِتَّةٌ أَوَّلُهَا الإِحْرَامُ وَمَعْنَى الإِحْرَامِ نِيَّةُ الدُّخُولِ فِي النُّسُكِ، وَالنُّسُكُ هُوَ عَمَلُ الْحَجِّ أَوْ عَمَلُ الْعُمْرَةِ، فَلا تَجِبُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ إِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ فِي قَلْبِهِ دَخَلْتُ فِي النُّسُكِ.

   تَنْبِيهٌ قَصْدُ النُّسُكِ قَبْلَ الإِحْرَامِ لا يُسَمَّى إِحْرَامًا وَإِنَّمَا الإِحْرَامُ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْجُهَّالِ يَظُنُّونَ أَنَّ الْحَجَّ رُؤْيَةُ مَكَّةَ وَحُضُورُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ مِثَالُ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَقْصِدُ صِيَامَ رَمَضَانَ إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ بَعْدَ دُخُولِ الشَّهْرِ يَنْوِي مُبَاشَرَةَ الصَّوْمِ أَيْ تَنْفِيذَهُ بِالْفِعْلِ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنَ لَيَالِي رَمَضَانَ قَبْلَ الْفَجْرِ. وَمَعْرِفَةُ مَا ذُكِرَ أَمْرٌ مُهِمٌّ لِأَنَّهُ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ذَلِكَ فَلا يَعْرِفُونَ مَعْنَى الإِحْرَامِ فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ مَاذَا نَوَيْتَ يَقُولُ أَنَا نَوَيْتُ مَكَّةَ وَنَحْوَ ذَلِكَ.

   ثُمَّ إِنَّ الإِحْرَامَ يَنْعَقِدُ مُطْلَقًا مِنْ دُونِ تَعْيِينٍ كَأَنْ يَقُولَ نَوَيْتُ الإِحْرَامَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَصْرِفُهُ لِلْحَجِّ وَحْدَهُ أَوْ لِلْعُمْرَةِ وَحْدَهَا أَوْ يَصْرِفُهُ لَهُمَا أَيْ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِذَا كَانَ فِي بَدْءِ الأَمْرِ نَوَى الدُّخُولَ فِي النُّسُكِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوِ الْقِرَانِ بَيْنَهُمَا كَانَ إِحْرَامًا مُطْلَقًا ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُ الْخِيَارُ إِنْ شَاءَ يَجْعَلُهُ حَجًّا مُفْرَدًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ عُمْرَةً مُفْرَدَةً وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ قِرَانًا أَيْ جَمْعًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلا يَصِحُّ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَ الأَعْمَالَ قَبْلَ الصَّرْفِ أَيِ التَّعْيِينِ، لَكِنْ لَوْ صَرَفَ بَعْدَ الطَّوَافِ يَكُونُ هَذَا الطَّوَافُ طَوَافَ الْقُدُومِ وَالسَّعْيُّ الَّذِي بَعْدَهُ لا يَصِحُّ، هَذَا إِذَا كَانَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَيْ بَعْدَ دُخُولِ شَهْرِ شَوَّالٍ، أَمَّا لَوْ نَوَى الْحَجَّ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَيَنْقَلِبُ عَمَلُهُ هَذَا عُمْرَةً لِأَنَّهُ نَوَى الْحَجَّ قَبْلَ وَقْتِهِ، وَالْحَجُّ لا تَصِحُّ نِيَّتُهُ إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ أَشْهُرِهِ، وَأَشْهُرُ الْحَجِّ هِيَ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَبَعْضُهَا مِنَ الأَشْهُرِ الْحُرُمِ الأَرْبَعَةِ وَهِيَ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبٌ.

   وَيُسَنُّ قَبْلَ الإِحْرَامِ الِاغْتِسَالُ وَتَطْيِيبُ الْبَدَنِ وَهُوَ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَفْضَلُ الطِّيبِ الْمِسْكُ الْمَخْلُوطُ بِمَاءِ الْوَرْدِ.

   أَمَّا الثَّوْبُ فَتَطْيِبُهُ لا يُسَنُّ لَكِنْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِرَّ عَلَى لُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ، وَلَوْ نَزَعَ هَذَا الثَّوْبَ الْمُطَيَّبَ عَنْ جِسْمِهِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ إِلَيْهِ وَتَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ إِنْ فَعَلَ، أَمَّا جِسْمُهُ فَتَطْيِيبُهُ سُنَّةٌ قَبْلَ الإِحْرَامِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَيْهِ بَأْسٌ فِي اسْتِبْقَائِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَسُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ «كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَكَّةَ فَنُضَمِّخُ جِبَاهَنَا بِالْمِسْكِ لِلإِحْرَامِ فَإِذَا عَرِقَتْ إِحْدَانَا سَالَ عَلَى وَجْهِهَا فَيَرَى رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَلا يَنْهَانَا».

   ثُمَّ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ يُسَنُّ لَهُمَا صَلاةُ رَكْعَتَيْنِ بِسُورَتَيِ الْكَافِرُونَ وَالإِخْلاصِ وَذَلِكَ قَبْلَ الإِحْرَامِ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ دَخَلْتُ فِي عَمَلِ الْحَجِّ أَوْ عَمَلِ الْعُمْرَةِ أَوْ فِي أَعْمَالِهِمَا عَمَلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَيَقُولُ بِلِسَانِهِ بِصَوْتٍ خَفِيفٍ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُسَنُّ لِلرِّجَالِ أَنْ يَجْهَرُوا بِالتَّلْبِيَةِ أَيْ أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ رَفْعًا قَوِيًّا، أَمَّا النِّسَاءُ فَلا يَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالتَّلْبِيَةِ لا فِي الْمَرَّةِ الأُولَى وَلا فِيمَا بَعْدَهَا. وَلا يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ رَفْعُ أَصْوَاتِهِنَّ لِأَنَّ صَوْتَ الْمَرْأَةِ لَيْسَ عَوْرَةً لَكِنْ لا يُسَنُّ.

   ثُمَّ هَذِهِ التَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَمَنْ تَرَكَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِثْمٌ، وَقِيلَ إِنَّهُ يَأْثَمُ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ رُكْنًا لِلْحَجِّ.

   وَأَكْمَلُ التَّلْبِيَةِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ.

   وَيُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يُدَاوِمَ التَّلْبِيَةَ فِي أَثْنَاءِ إِحْرَامِهِ، وَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ ءَاكَدُ. وَبَعْدَ التَّلْبِيَةِ يُصَلِّي وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَسْأَلُ اللَّهَ رِضْوَانَهُ وَدُخُولَ الْجَنَّةِ.

   ثُمَّ الْحَاجُّ إِذَا رَأَى مَا يُعْجِبُهُ أَوْ مَا يَكْرَهُهُ يُسَنُّ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَيَاةَ الْهَنِيئَةَ الدَّائِمَةَ الَّتِي لا يَتَخَلَّلُهَا كَدَرٌ هِيَ الْحَيَاةُ الأُخْرَوِيَّةُ، أَمَّا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَيَتَخَلَّلُهَا كَدَرٌ وَمَتَاعِبُ وَمَشَقَّةٌ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الثَّانِي الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ زَوَالِ شَمْسِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَى فَجْرِ لَيْلَةِ الْعِيدِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الرُّكْنَ الثَّانِيَ لِلْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَجُّ عَرَفَةُ» رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ [أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ] أَيْ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لِأَنَّ الْوُقُوفَ وَقْتُهُ قَصِيرٌ. وَيُجْزِئُ بِأَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَرْضِ عَرَفَةَ وَلَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَوِ الشَّجَرَةِ فِيمَا بَيْنَ زَوَالِ شَمْسِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَوْ كَانَ مَارًّا لَمْ يَمْكُثْ فِيهَا أَوْ كَانَ نَائِمًا.

   وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ دُخُولُ مَكَّةَ قَبْلَ عَرَفَةَ مِنْ كَدَاء بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ وَهُوَ مَا يَلِي أَعْلَى مَكَّةَ وَيُسَنُّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا مِنْ كُدَى بِالضَّمِّ وَالْقَصْرِ.

   ثُمَّ السُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مِنًى يَوْمَ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَيَبِيتَ فِيهَا وَيُصَلِّيَ فِيهَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ ءَاخِرُهَا صُبْحُ يَوْمِ عَرَفَةَ، ثُمَّ يَذْهَبُ بَعْدَ الإِشْرَاقِ إِلَى نَمِرَةَ [وَهِيَ أَرْضٌ مُلاصِقَةٌ لِعَرَفَةَ] وَيَمْكُثُ فِيهَا إِلَى أَنْ تَزُولَ الشَّمْسُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْ نَمِرَةَ إِلَى الْمَسْجِدِ [وَهَذَا الْمَسْجِدُ جُزْءٌ مِنْهُ مِنْ عَرَفَةَ وَجُزْءٌ مِنْهُ لَيْسَ مِنْهَا] ثُمَّ يَدْخُلُ عَرَفَةَ .

   ثُمَّ الأَفْضَلُ لِلرِّجَالِ أَنْ يَقِفُوا فِي مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ الْكِبَارِ الْمُفْتَرَشَةِ أَسْفَلَ جَبَلِ الرَّحْمَةِ وَلِلنِّسَاءِ حَاشِيَةُ الْمَوْقِفِ حَتَّى لا يُزَاحِمْنَ الرِّجَالَ.

   وَيُسَنُّ كَوْنُ كُلٍّ مُتَطَهِّرًا فَارِغَ الْقَلْبِ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ مُكْثِرًا مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ وَالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى النَّبِيِّ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالدُّعَاءِ وَالتِّلاوَةِ لا سِيَّمَا سُورَةَ الْحَشْرِ وَلا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِلَى ءَاخِرِهِ، وَيُسَنُّ الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْوُقُوفِ فِي عَرَفَاتَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ] فَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا وَيُسَنُّ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً لِأَنَّهُ خَالَفَ الأَفْضَلَ. ثُمَّ يَرْحَلُ مِنْ عَرَفَاتَ إِلَى مُزْدَلِفَةَ [وَهِيَ أَرْضٌ بَيْنَ مِنًى وَعَرَفَات]. وَمَنْ حَصَلَتْ مِنْهُ رِدَّةٌ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَبَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ فَإِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ الرُّجُوعَ إِلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ يُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَيَفْدِي، وَأَمَّا إِنِ ارْتَدَّ بَعْدَ انْتِهَاءِ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ .

   تَنْبِيهٌ مَا شَاعَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ إِذَا صَادَفَ يَوْمُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُغْفَرُ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَوْقِفِ فَلَيْسَ صَحِيحًا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إِنَّهُ إِنْ صَادَفَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَكُونُ الْحَجَّةُ بِسَبْعِينَ أَوْ بِسَبْعٍ. وَأَمَّا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ فَهُوَ يَوْمُ الْعِيدِ وَلَيْسَ ذَاكَ الَّذِي شَاعَ .

   فَائِدَةٌ الْقِبْلَةُ فِي الْمَدِينَةِ إِلَى الْجَنُوبِ وَفِي عَرَفَةَ إِلَى الْغَرْبِ وَفِي جُدَّةَ إِلَى الشَّرْقِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الثَّالِثُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ .

   الشَّرْحُ الرُّكْنُ الثَّالِثُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ [الْبَيْتُ يُرَادُ بِهِ الْكَعْبَةُ وَيُسَمَّى الْقِبْلَةَ وَكَانَ الْبَيْتُ قِبْلَةَ ءَادَمَ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِلَى عَهْدِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي صَلاتِهِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثُمَّ أُمِرَ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَلا تَزَالُ الْقِبْلَةُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ كَانَ النَّبِيُّ يُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَمْ كَانَ يُصَلِّي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِيهِ رَأْيَانِ] وَلا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ انْتِصَافِ لَيْلَةِ النَّحْرِ [أَيْ لَيْلَةِ الْعِيدِ].

   وَمَعْنَى الطَّوَافِ هُوَ أَنْ يَدُورَ الْحَاجُّ حَوْلَ الْكَعْبَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَقَدْ جَعَلَ الْبَيْتَ أَيِ الْكَعْبَةَ عَنْ يَسَارِهِ مَارًّا لِجِهَةِ الْحِجْرِ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْجِيمِ، فَإِنْ جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَمِينِهِ وَمَشَى أَمَامَهُ أَوْ مَشَى الْقَهْقَرَى أَيْ إِلَى خَلْفٍ، أَوْ جَعَلَ الْبَيْتَ أَمَامَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ بِصَدْرِهِ، أَوْ جَعَلَهُ عَنْ يَسَارِهِ وَمَشَى الْقَهْقَرَى لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَصِحُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الطَّوَافِ مَعَ الْمَعْصِيَةِ فَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَ وَإِنْ خَرَجَ إِلَى بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ وَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ إِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ.

   وَمِنْ شُرُوطِ الطَّوَافِ:

   (1) أَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجَرِ الأَسْوَدِ وَمُحَاذَاةُ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ فِي أَوَّلِ طَوَافِهِ، فَيَجِبُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ لا يَتَقَدَّمَ جُزْءٌ مِنْهُ عَلَى جُزْءٍ مِنَ الْحَجَرِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْجِيمِ مِمَّا يَلِي الْبَابَ. 

   (2) وَالنِّيَّةُ إِنْ لَمْ يَكُنِ الطَّوَافُ دَاخِلًا فِي النُّسُكِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ بِإِحْرَامٍ بَلْ كَانَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تَجِبُ النِّيَّةُ فَلا يَصِحُّ الطَّوَافُ بِدُونِهَا. فَإِنْ طَافَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَقَدْ قِيلَ يَصِحُّ وَهُوَ الأَصَحُّ وَقِيلَ لا يَصِحُّ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَعَلَى الأَوَّلِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْوِيَ.

   (3) وَأَنْ يَكُونَ سَبْعًا يَقِينًا فَلَوْ شَكَّ فِي الْعَدَدِ أَخَذَ بِالأَقَلِّ كَالصَّلاةِ، نَعَمْ إِنْ شَكَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَضُرَّ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ بِخِلافِ مَا اعْتَقَدَهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ فَإِنْ كَانَ بِنَقْصٍ سُنَّ الأَخْذُ بِهِ إِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي نَفْسِهِ تَرَدُّدًا وَإِلَّا وَجَبَ. وَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَعَمَّدَ زِيَادَةَ شَوْطٍ فِي الطَّوَافِ كَمَا لا يَجُوزُ لِمُصَلِّي الْفَرْضِ أَنْ يَزِيدَ رَكْعَةً فِي صَلاتِهِ .

   (4) وَأَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَلَوْ عَلَى سَطْحِهِ وَأَعْلَى مِنَ الْكَعْبَةِ وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا حَائِلٌ.

   (5) وَأَنْ يَكُونَ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ خَارِجَهَا وَخَارِجَ الشَّاذَرْوَانِ وَالْحِجْرِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَالشَّاذَرْوَانُ جُزْءٌ مِنْ أَسَاسِ الْكَعْبَةِ مُرْتَفِعٌ قَدْرَ ذِرَاعٍ تَقْرِيبًا فَهُوَ مِنَ الْكَعْبَةِ لِذَلِكَ لا يَجُوزُ أَنْ يَطُوفَ الإِنْسَانُ وَشَىْءٌ مِنْ بَدَنِهِ مُحَاذٍ لَهُ .
   (6) وَالطَّهَارَةُ عَنِ الْحَدَثَيْنِ وَالنَّجَاسَةِ.

 وَلا يُشْتَرَطُ الْمَشْيُ بَلْ يَصِحُّ الطَّوَافُ لَوْ كَانَ رَاكِبًا فَقَدْ طَافَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِبًا الْبَعِيرَ [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] وَطَافَتْ إِحْدَى زَوْجَاتِهِ كَذَلِكَ وَهِيَ أُمُّ سَلَمَةَ [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] وَذَلِكَ كَانَ فِي حَالٍ لا يَحْصُلُ مِنْهُ تَقْذِيرٌ لأِرْضِ الْمَسْجِدِ بِرِجْلِ الْبَعِيرِ، وَلَوْ كَانَ فِي حَالٍ يَحْصُلُ مِنْهُ تَقْذِيرٌ لِلْمَسْجِدِ بِمَا عَلَى رِجْلِ الْبَعِيرِ مِنْ رَوْثٍ أَوْ غَيْرِهِ حَرُمَ لِأَنَّ تَقْذِيرَ الْمَسْجِدِ وَلا سِيَّمَا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَرَامٌ.

   (7) وَيُشْتَرَطُ فِي الطَّوَافِ أَنْ لا يَصْرِفَهُ إِلَى غَيْرِهِ كَطَلَبِ غَرِيمٍ وَنَحْوِهِ فِي الأَصَحِّ.

   وَمِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ

   الْمَشْيُّ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ جَائِزًا لَكِنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ حَتَّى لِلنِّسَاءِ.

   وَالْحَفَاءُ أَيْ أَنْ يَكُونَ حَافِيًا وَلَوْ طَافَ لابِسًا حِذَاءً نَظِيفًا طَاهِرًا جَازَ بِلا كَرَاهَةٍ لَكِنَّهُ خِلافُ الأُولَى إِلَّا لِعُذْرٍ كِشِدَّةِ حَرٍّ بَلْ يَحْرُمُ حِينَئِذٍ إِنْ تَضَرَّرَ بِهِ، وَسُنِّيَّةُ الْحَفَاءِ لا تَخْتَصُّ بِالرِّجَالِ .

   وَتَقْصِيرُ الْخُطَى أَيْ كَوْنُهَا مُتَقَارِبَةً.

   وَاسْتِلامُ الْحَجَرِ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَقْبِيلُهُ بِلا صَوْتٍ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَبَّلَهُ وَوَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ صَوْتٌ، وَيُسَنُّ وَضْعُ جَبْهَتِهِ عَلَيْهِ وَتَكْرِيرُ كُلٍّ مِنْهَا ثَلاثًا فِي كُلِّ طَوْفَةٍ وَالأَوْتَارُ ءَاكَدُ. وَلا يُسَنُّ لِغَيْرِ الذَّكَرِ اسْتِلامٌ وَتَقْبِيلٌ وَوَضْعُ جَبْهَةٍ إِلَّا بِخَلْوَةِ الْمَطَافِ عَنِ الأَجَانِبِ أَيْ إِلَّا إِذَا وَجَدَتِ الْمَرْأَةُ وَقْتًا يَخْلُو الْمَطَافُ فِيهِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ غَيْرِ مَحَارِمِهَا، وَيُسَنُّ اسْتِلامُ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَيُبَاحُ تَقْبِيلُ الشَّامِيَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ.

   وَالأَذْكَارُ الْمَأْثُورَةُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ فِيهِ، فَمِنَ الْمَأْثُورِ «رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ] إِذْ ثَبَتَ أَنَّهَا أَكْثَرُ دَعْوَةٍ كَانَ يَدْعُو بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ. وَمَنْ شَغَلَ وَقْتَ طَوَافِهِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْءَانِ كَانَ حَسَنًا.  

   وَالرَّمَلُ وَالِاضْطِبَاعُ لِلرِّجَالِ، فَيُسَنُّ الرَّمَلُ وَهُوَ الإِسْرَاعُ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى فِي الأَشْوَاطِ الثَّلاثَةِ الأُوَلِ، أَمَّا بَاقِي الأَشْوَاطِ فَيَمْشُونَهَا كَالْعَادَةِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيَمْشِينَ كَالْعَادَةِ فِي جَمِيعِ الطَّوَافِ. وَالِاضْطِبَاعُ هُوَ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدَ جَانِبَيْ رِدَائِهِ مِنْ تَحْتِ إِبْطِهِ الأَيْمَنِ وَيُلْقِيَهُ عَلَى الْكَتِفِ الأَيْسَرِ .

   وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيُسَنُّ لَهُنَّ أَنْ يَلْبَسْنَ فَوْقَ الْخِمَارِ الْجِلْبَابَ.

   وَالْقُرْبُ مِنَ الْبَيْتِ.

   وَالْمُوَالاةُ بَيْنَ الطَّوْفَاتِ، وَلَوْ لَمْ يُوَالِ بَلْ جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ فِي أَثْنَاءِ الطَّوْفَاتِ أَوْ لِيَشْرِبَ شَيْئًا جَازَ، وَأَمَّا لَوْ طَافَ جُزْءًا ثُمَّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَكْمَلَ الْبَقِيَّةَ فَفِيهِ خِلافٌ.

   وَصَلاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ، وَالأَفْضَلُ فِعْلُهُمَا خَلْفَ الْمَقَامِ أَيْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ فِي الْكَعْبَةِ فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فِي الْكَعْبَةِ فَتَحْتَ الْمِيزَابِ الَّذِي يُسَمَّى مِيزَابَ الرَّحْمَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبَقِيَّةِ الْحِجْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَوَجْهِ الْكَعْبَةِ أَيْنَمَا كَانَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَبَيْنَ الْيَمَانِيَّيْنِ ثُمَّ بَقِيَّةِ الْمَسْجِدِ أَيْنَمَا كَانَ فِي ضِمْنِ الْمَسْجِدِ ثُمَّ دَارِ خَدِيْجَةَ ثُمَّ بَقِيَّةِ مَكَّةَ ثُمَّ سَائِرِ الْحَرَمِ .

   ثُمَّ هَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَمَنْ تَرَكَ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا، وَفِي قَوْلٍ مَنْ لَمْ يُصَلِّهِمَا عَلَيْهِ دَمٌ. ثُمَّ لَوْ صَلَّى فَرْضًا مَا أَوْ نَفْلًا مَا بَدَلَ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ عَقِبَ الطَّوَافِ حَصَلَ الثَّوَابُ لَكِنْ أَقَلُّ مِمَّا لَوْ صَلَّى بِنِيَّةِ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَمَنْ نَوَى بِتِلْكَ الصَّلاةِ سُنَّةَ الطَّوَافِ وَغَيْرَهَا حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ .

   فَائِدَةٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ حَجَرٌ كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ عِنْدَ بِنَائِهِ لِلْكَعْبَةِ وَكَانَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلْتَصِقًا بِالْكَعْبَةِ بَيْنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ وَبَيْنَ بَابِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ أَزَاحَهُ السَّيْلُ عَنْ مَكَانِهِ فَبَقِيَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ، وَالآنَ فِي عَصْرِنَا هَذَا مِنْ أَجْلِ تَوْسِيعِ الْمَطَافِ عَلَى النَّاسِ أُزِيحَ مِنْ مَكَانِهِ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ، وَهَذَا الْحَجَرُ كَانَ أَصْلُهُ مِنَ الْجَنَّةِ كَالْحَجَرِ الأَسْوَدِ، وَوَرَدَ أَنَّ الْمَقَامَ وَالْحَجَرَ الأَسْوَدَ نَزَلا مِنَ الْجَنَّةِ وَهُمَا يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ ثُمَّ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا وَلَوْلا ذَلِكَ لَأَضَاءَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ] وَغَيْرُهُ ثُمَّ اسْوَدَّ مِنْ تَمَسُّحِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا كَفَرَ أَهْلُ مَكَّةَ بِعِبَادَةِ الْوَثَنِ بَعْدَ إِسْمَاعِيلَ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ عِبْرَةً.

  فَائِدَةٌ الْحِجْرُ بِالْكَسْرِ يُقَابِلُ بِلادَ الشَّامِ أَمَّا الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ وَرُكْنُ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَيُقَابِلانِ الْيَمَنَ وَالْحَبَشَةَ وَمَا يُسَامِتُهُمَا مِنَ الْبِلادِ الْجَنُوبِيَّةِ وَيُقَالُ لَهُمَا الرُّكْنَانِ الْيَمَانِيَّانِ، وَيُقَالُ فِيمَا يُقَابِلُهُمَا الرُّكْنَانِ الشَّامِيَّانِ، فَالْكَعْبَةُ لَهَا أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ رُكْنَانِ شَامِيَّانِ وَرُكْنَانِ يَمَانِيَانِ، فَالَّذِينَ يَكُونُونَ فِي جِهَةِ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ قِبْلَتُهُمْ إِلَى الْجَنُوبِ وَالَّذِينَ يَكُونُونَ فِي جِهَةِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ قِبْلَتُهُمْ إِلَى الشَّمَالِ، وَأَهْلُ الشَّامِ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى الْجَنُوبِ يَكُونُونَ تَوَجَّهُوا إِلَى مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ مِنَ الْكَعْبَةِ .

   فَائِدَةٌ الطَّوَافُ أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ وَالأُمُورُ التَّعَبُدِيَّةُ فِيهَا إِظْهَارُ انْقِيَادِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ مِنْ دُونِ تَوَقُّفٍ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَقُولُ لِمَاذَا الطَّوَافُ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ وَلَيْسَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ. وَالْحِكْمَةُ مِنَ الطَّوَافِ إِظْهَارُ الثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ كَأَنَّ الطَّائِفَ يَقُولُ مَهْمَا دُرْتُ وَحَيْثُ مَا كُنْتُ أَثْبُتُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الرَّابِعُ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ مِنَ الْعَقْدِ إِلَى الْعَقْدِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لا يَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ، وَوَاجِبَاتُهُ أَرْبَعَةٌ.

   الأَوَّلُ: الْبَدَاءَةُ فِي الأَوْتَارِ بِالصَّفَا وَفِي الأَشْفَاعِ بِالْمَرْوَةِ، وَالْعَقْدُ [وَقَدْ أُزِيلَ فِي هَذَا الزَّمَنِ] الَّذِي عَلَى الصَّفَا عَلامَةٌ عَلَى أَوَّلِهَا وَالْعَقْدُ هُوَ الْمَبْنَى الْمُقَوَّسُ، فَمَنْ شَاءَ اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ وَمَنْ شَاءَ يَصْعَدُ إِلَى مَا فَوْقَهُ مِنَ الصَّخَرَاتِ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَبَدَأَ بِالْعَقْدِ صَحَّ. وَالصَّفَا جَبَلٌ وَالْمَرْوَةُ جَبَلٌ كَانَ بَيْنَهُمَا وَادٍ مُنْخَفِضٌ ثُمَّ هَذَا الْوَادِي طُمَّ بِالتُّرَابِ وَالْحِجَارَةِ فَصَارَتِ الأَرْضُ سَهْلَةً.

   الثَّانِي: كَوْنُهُ بَعْدَ الطَّوَافِ.

   الثَّالِثُ: كَوْنُهُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَأَمَّا لَوْ خَرَجَ مِنْ نِصْفِ الشَّوْطِ إِلَى خَارِجِ الْمَسْعَى وَلَمْ يَعُدْ إِلَى حَيْثُ كَانَ بَلْ أَكْمَلَ إِلَى أَمَامِهِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الشَّوْطُ، فَإِنْ أَتَى بِغَيْرِ هَذَا الشَّوْطِ صَحَّ، فَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى الْغَدِ أَعَادَ السَّعْيَ كُلَّهُ.

   وَمَنْ زَادَ فِي عَدَدِ أَشْوَاطِ السَّعْيِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَاسِدَةٌ وَأَمَّا مَنْ شَكَّ فِي عَدَدِ الأَشْوَاطِ يَأْخُذُ بِالْيَقِينِ.

   وَتُسْتَحَبُّ الْمُوَالاةُ فِي السَّعْيِ وَيُسَنُّ أَنْ يَقُولَ فِي أَثْنَاءِ السَّعْيِ «رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ»، وَيُسْتَحَبُّ لِلرِّجَالِ الْهَرْوَلَةُ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ الأَخْضَرَيْنِ.

  

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْخَامِسُ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ.

   الشَّرْحُ الْخَامِسُ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ، وَالْحَلْقُ هُوَ اسْتِئْصَالُ الشَّعَرِ بِالْمُوسَى، وَالتَّقْصِيرُ هُوَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الشَّعَرِ شَىْءٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْصَالٍ، فَفِعْلُ أَحَدِ هَذَيْنِ فَرْضٌ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ. وَالتَّقْصِيرُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَعَرِ الرَّأْسِ، وَلَوْ كَانَ مُتَدَلِّيًا عَلَى الْكَتِفَيْنِ فَقَصَّ مِنَ الْقَدْرِ الْمُتَدَلِّي صَحَّ، أَمَّا لَوْ قَصَّ مِمَّا نَبَتَ خَارِجَ حَدِّ الرَّأْسِ فَلا يَكْفِي.

   وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ» قَالُوا «وَلِلْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» قَالَ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ» قَالُوا «وَلِلْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ثُمَّ قَالَ «وَلِلْمُقَصِّرِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ]، أَعَادَ ذِكْرَ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّتَيْنِ لِتَأْكِيدِ أَفْضَلِيَّتِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَقَ فِي غَيْرِ النُّسُكِ إِنَّمَا كَانَ يُقَصِّرُ، أَحْيَانًا كَانَ يَصِلُ شَعَرُهُ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَأَحْيَانًا إِلَى مَنْكِبَيْهِ.

   أَمَّا النِّسَاءُ فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ «كُنَّا أَزْوَاجَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَأْخُذُ مِنْ شُعُورِنَا حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ] وَالْوَفْرَةُ هُوَ مَا يَصِلُ إِلَى الأُذُنِ. فَالتَّقْصِيرُ جَائِزٌ لِلنِّسَاءِ كَمَا هُوَ جَائِزٌ لِلرِّجَالِ لَكِنَّ الْحَلْقَ بِالْمُوسَى حَرَامٌ عَلَى الْمَرْأَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَكْرُوهٌ وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِعُذْرٍ.

   وَوَقْتُ إِجْزَاءِ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ مِنَ النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ لَيْلَةِ الْعِيدِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ حَرَامٌ أَنْ يَنْتِفَ الْحَاجُّ شَعْرَةً وَاحِدَةً مِنْ شَعَرِ بَدَنِهِ، كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَنْتِفَ شَعْرَةً مِنْ بَدَنِهَا قَبْلَ انْتِصَافِ لَيْلَةِ الْعِيدِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ إِزَالَةَ الشَّعَرِ فِي أَوَّلِ الإِحْرَامِ إِلَى انْتِصَافِ لَيْلَةِ الْعِيدِ حَرَامٌ وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ عِبَادَةٌ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِقُ لِحَجَّتِهِ وَعُمْرَتِهِ بِالْمُوسَى لِأَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنَ التَّقْصِيرِ بِالْمِقَصِّ أَوْ نَحْوِهِ، فَالْوَاجِبُ إِزَالَةُ ثَلاثِ شَعَرَاتٍ بِالْقَصِّ أَوِ النَّتْفِ أَوِ الْحَرْقِ أَوْ أَيِّ كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى، لَكِنَّ اسْتِعْمَالَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ لا يَجُوزُ، وَفِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ رُبْعُ الرَّأْسِ.

   وَوَرَدَ أَنَّ لِلْحَالِقِ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِهِ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الأَوْسَطِ].

   ثُمَّ إِنَّ الْحَلْقَ أَوِ التَّقْصِيرَ يُسَنُّ:

  • أَنْ يَكُونَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ وَالأَفْضَلُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ طَوَافِ الرُّكْنِ وَالسَّعْيِ.
  • وَيُسَنُّ الْبَدَاءَةُ بِيَمِينِ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ وَمُقَدَّمِهِ.
  • وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ .
  • وَالتَّكْبِيرُ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ .
  • وَحَلْقُ جَمِيعِهِ لِذَكَرٍ وَتَقْصِيرُ جَمِيعِهِ أَيْ لِغَيْرِ الذَّكَرِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: السَّادِسُ التَّرْتِيبُ فِي مُعْظَمِ الأَرْكَانِ.

   الشَّرْحُ إِنَّمَا قِيلَ التَّرْتِيبُ فِي مُعْظَمِ الأَرْكَانِ لِأَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الإِحْرَامِ عَلَى الْكُلِّ وَتَأْخِيرِ الطَّوَافِ وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ عَنِ الْوُقُوفِ .

   فَائِدَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ يُوجَدُ فِي الْحَجِّ تَحَلُّلانِ تَحَلُّلٌ أَوَّلُ وَهُوَ الإِتْيَانُ بِاثْنَيْنِ مِنْ ثَلاثَةٍ مِنْ طَوَافِ الإِفَاضَةِ الْمَتْبُوعِ بِسَعْيٍ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى قَبْلَ ذَلِكَ، وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ، وَالثَّلاثَةُ يَدْخُلُ وَقْتُهَا بَعْدَ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ الْعِيدِ، وَيَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الأَوَّلِ مَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ سِوَى أُمُورِ النِّسَاءِ. وَتَحَلُّلٌ ثَانٍ وَيَحْصُلُ بِالإِتْيَانِ بِالأُمُورِ الثَّلاثَةِ وَيَحِلُّ لَهُ بِذَلِكَ مَا حَرُمَ بِالإِحْرَامِ حَتَّى الْجِمَاعُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّ رَمْيَ الْجَمَرَاتِ كُلِّهَا بَعْدُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهِيَ إِلَّا الْوُقُوفَ أَرْكَانٌ لِلْعُمْرَةِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ هَذِهِ السِّتَّةَ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْحَجِّ هِيَ أَرْكَانُ الْعُمْرَةِ إِلَّا الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ فَلَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ بَلْ وَلا يُشْرَعُ لِلْعُمْرَةِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ.

   فَإِذًا تَلَخَّصَ أَنَّ أَرْكَانَ الْعُمْرَةِ خَمْسَةٌ الإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ أَوِ التَّقْصِيرُ وَالتَّرْتِيبُ، فَالتَّرْتِيبُ هُنَا فَرْضٌ فِي جَمِيعِ أَرْكَانِ الْعُمْرَةِ بِخِلافِ الْحَجِّ، وَالتَّرْتِيبُ الْمَفْرُوضُ يَكُونُ بِالِابْتِدَاءِ بِالإِحْرَامِ ثُمَّ الطَّوَافِ ثُمَّ السَّعْيِ ثُمَّ الْحَلْقِ أَوِ التَّقْصِيرِ. 
   فَائِدَةٌ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلِ الطَّوَافُ بِالْكَعْبَةِ أَفْضَلُ أَمِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ أَفْضَلُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْوُقُوفُ أَفْضَلُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الطَّوَافُ أَفْضَلُ، ثُمَّ بَعْدَ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْحَجِّ السَّعْيُ ثُمَّ الْحَلْقُ .

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلِهَذِهِ الأَرْكَانِ فُرُوضٌ وَشُرُوطٌ لا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا، فَيُشْتَرَطُ لِلطَّوَافِ قَطْعُ مَسَافَةٍ وَهِيَ مِنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَمِنْ شُرُوطِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالطَّهَارَةُ، وَأَنْ يَجْعَلَ الْكَعْبَةَ عَنْ يَسَارِهِ لا يَسْتَقْبِلُهَا وَلا يَسْتَدْبِرُهَا.

   الشَّرْحُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنَ الأَرْكَانِ فُرُوضًا كَكَوْنِ الطَّوْفَاتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ، وَيُشْتَرَطُ لَهَا شُرُوطٌ السَّتْرُ وَالطَّهَارَةُ مِنَ الْحَدَثَيْنِ وَالنَّجَاسَةِ وَكَوْنُ الطَّوَافِ فِي الْمَسْجِدِ فَلا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاتِهَا لِأَنَّهُ لا يَصِحُّ النُّسُكُ إِنْ فُقِدَ شَىْءٌ مِنْهَا. فَلَوْ أَحْدَثَ بَعْدَمَا طَافَ شَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ يَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَعُودُ فَيُكْمِلُ وَكَذَلِكَ إِذَا انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ يُعِيدُ السَّتْرَ وَيُكْمِلُ مِنْ حَيْثُ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ.

   وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالشَّرْطِ أَنَّ الْفَرْضَ مَا كَانَ جُزْءًا مِنَ النُّسُكِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ فَهُوَ مَا لَيْسَ جُزْءًا مِنَ النُّسُكِ لَكِنْ يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ النُّسُكِ عَلَيْهِ.

   ثُمَّ كُلُّ أَرْكَانِ الْحَجِّ تَصِحُّ مَعَ الْحَدَثِ وَمَعَ النَّجَاسَةِ إِلَّا الطَّوَافَ فَهُوَ فَقَطْ لا يَجُوزُ مَعَ الْحَدَثِ أَيِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ وَلا مَعَ الْجَنَابَةِ وَلا مَعَ الْحَيْضِ وَلا مَعَ النِّفَاسِ وَكَذَلِكَ لا يَصِحُّ مَعَ النَّجِسِ، فَلَوْ سَعَى بَعْدَ مَا طَافَ عَلَى الطُّهْرِ وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ صَحَّ سَعْيُهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ لِأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي يَسْعَى فِيهِ لا يُعَدُّ مِنَ الْمَسْجِدِ يَجُوزُ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِ الْجُنُبُ، إِنَّمَا الْمَسْجِدُ هُوَ الْقَدْرُ الَّذِي هُيِّئَ لِلصَّلاةِ مِمَّا حَوْلَ الْكَعْبَةِ لِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ حِينَ حُبِسَتْ عَنِ الطَّوَافِ مِنْ أَجْلِ الْحَيْضِ أَيْ تَأَخَّرَتْ مِنْ أَجْلِ الْحَيْضِ «افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي» أَيْ كُلُّ أَعْمَالِ الْحَجِّ يَجُوزُ لَكِ وَأَنْتِ حَائِضٌ إِلَّا الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] وَغَيْرُهُ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَحَرُمَ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ طِيبٌ.

   الشَّرْحُ أَنَّهُ مِمَّا يَحْرُمُ بِالإِحْرَامِ عَلَى مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ثَمَانِيَةُ أَشْيَاءَ، وَكُلُّ هَذِهِ مِنَ الصَّغَائِرِ إِلَّا الْجِمَاعُ الْمُفْسِدُ لِلْحَجِّ وَقَتْلُ الصَّيْدِ فَهُمَا مِنَ الْكَبَائِرِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ لِحِكَمٍ بَعْضُهَا مَعْلُومٌ لَنَا وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا.

   الأَوَّلُ مِنَ الثَّمَانِيَةِ الطِّيبُ أَيْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ التَّطَيُّبُ فِي مَلْبُوسٍ أَوْ بَدَنٍ وَلَوْ لِأَخْشَمَ [وَالأَخْشَمُ الَّذِي لا يَشُمُّ]، وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ بِالتَّطَيُّبِ فِي بَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ وَلَوْ نَعْلًا مَعَ الْحُرْمَةِ قَصْدًا بِمَا تُقْصَدُ مِنْهُ رَائِحَتُهُ غَالِبًا كَالْمِسْكِ وَالْعُودِ وَالْوَرْدِ وَدُهْنِهِ وَالْوَرْسِ لا مَا يُقْصَدُ بِهِ الأَكْلُ أَوِ التَّدَاوِي وَإِنْ كَانَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ كَالتُّفَاحِ وَالأُتْرُجِّ وَالْقُرُنْفُلِ وَسَائِرِ الأَبَازِيرِ الطَّيِّبَةِ الرِّيحِ كَالْفُلْفُلِ وَالْمُصْطَكَّى لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ الأَكْلُ أَوِ التَّدَاوِي، وَلا مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ كَالشِّيحِ وَالْخُزَامَى لِأَنَّهُ لا يُعَدُّ طِيبًا وَإِلَّا لَاسْتُنْبِتَ وَتُعُهِّدَ كَالْوَرْدِ، وَلا بِالْعُصْفُرِ وَالْحِنَّاءِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقْصَدُ مِنْهُ لَوْنُهُ، وَتَجِبُ الْفِدْيَةُ فِي النَّرْجِسِ وَالرَّيْحَانِ وَهُوَ الضَوْمَرَانُ وَالْبَنَفْسَجِ فَتَحْرُمُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ بِشَرْطِ الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْعِلْمِ بِالتَّحْرِيْمِ، وَهَذِهِ الثَّلاثَةُ شَرْطٌ فِي سَائِرِ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ. وَلَوِ احْتَاجَ الْمُحْرِمُ إِلَى التَّدَاوِي بِطِيبٍ تَدَاوَى بِهِ وَافْتَدَى، وَلَوِ اسْتُهْلِكَ الطِّيبُ فِي مُخَالِطٍ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ رِيحٌ وَلا لَوْنٌ وَلا طَعْمٌ كَأَنِ اسْتُعْمِلَ فِي دَوَاءٍ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ وَأَكْلُهُ بِلا فِدْيَةٍ، وَإِنْ بَقِيَ الرِّيحُ فِيمَا اسْتُهْلِكَ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا يَظْهَرُ بِرَشِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَدَى، وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ الطَّعْمُ لا اللَّوْنُ. فَالْحَلْوَى الَّتِي فِيهَا طِيبٌ رَائِحَتُهُ بَاقِيَةٌ لا يَجُوزُ أَكْلُهَا لِلْمُحْرِمِ، وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْرَبَ مَاءَ الْوَرْدِ وَمَاءَ الزَّهْرِ حَتَّى لَوْ وُضِعَ فِي الطَّعَامِ إِنْ كَانَتْ رَائِحَتُهُ أَوْ طَعْمُهُ بَاقِيَيْنِ ظَاهِرَةً أَيْ إِنْ لَمْ يَسْتَهْلِكْ.

   ثُمَّ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ مُبَاشَرَةُ الطِّيبِ إِذَا كَانَ صَالِحًا لِلِاسْتِعْمَالِ الْمُعْتَادِ بِأَنْ يُلْصِقَهُ بِبَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ عَلَى الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ الطِّيبِ، فَإِذَا مَسَّ طِيبًا يَابِسًا كَمِسْكٍ فَعَبِقَ بِهِ رِيْحُهُ لا عَيْنُهُ أَوْ حَمَلَ الْعُودَ أَوْ أَكَلَهُ لَمْ يَضُرَّ فَلا يَحْرُمُ، لِأَنَّ الرِّيحَ قَدْ تَحْصُلُ بِالْمُجَاوَرَةِ بِلا مَسٍّ فَلا اعْتِبَارَ بِهِ، وَلِأَنَّ حَمْلَهُ وَأَكْلَهُ لا يُعَدُّ تَطَيُّبًا، وَإِنْ تَجَمَّرَ بِهِ أَوْ حَمَلَ الْمِسْكَ وَالْعَنْبَرَ فِي ثَوْبٍ مَلْبُوسٍ لَهُ أَوْ حَمَلَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي جَيْبِهَا أَوْ فِي حَشْوِ حُلِيِّهَا وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ، وَكَذَا تَجِبُ لَوِ اسْتَعْطَ بِهِ أَوِ احْتَقَنَ أَوِ اكْتَحَلَ بِهِ. وَالتَّطَيُّبُ بِالْوَرْدِ أَنْ يَشُمَّهُ مَعَ اتِّصَالِهِ بِأَنْفِهِ، وَالتَّطَيُّبُ بِمَائِهِ أَنْ يَمَسَّهُ كَالْعَادَةِ بِأَنْ يَصُبَّهُ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ مَلْبُوسِهِ فَلا يَكْفِي شَمُّهُ، وَإِنْ حَمَلَ مِسْكًا وَنَحْوَهُ فِي خِرْقَةٍ مَشْدُودَةٍ أَوْ فَأْرَةٍ غَيْرِ مَشْقُوقَةٍ لَمْ يَضُرَّ وَإِنْ شَمَّ الرِّيحَ لِوُجُودِ الْحَائِلِ، وَإِنْ كَانَتِ الْفَأْرَةُ مَشْقُوقَةً وَجَبَتِ الْفِدْيَةُ [وَفِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ: «وَلا يَضُرُّ شَمُّ مَاءِ الْوَرْدِ إِذِ التَّطَيُّبُ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِسْكٌ إِنَّمَا يَكُونُ بِصَبِّهِ عَلَى بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ»]، وَلَوْ جَلَسَ عَلَى مَكَانٍ مُطَيَّبٍ أَوْ دَاسَ طِيبًا بِنَعْلِهِ فَدَى، وَلَوْ فَرَشَ عَلَى الْمَكَانِ الْمُطَيَّبِ ثَوْبًا أَوْ لَمْ يَفْرِشْ لَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَقْ بِهِ شَىْءٌ مِنْ عَيْنِ الطِّيبِ فَلا فِدْيَةَ، فَعُلِمَ مِنْ مَا مَضَى أَنَّهُ لا فِدْيَةَ عَلَى الْمُتَطَيِّبِ النَّاسِي لِلإِحْرَامِ وَالْمُكْرَهِ عَلَى التَّطَيُّبِ وَالْجَاهِلِ بِالتَّحْرِيْمِ أَوْ بِكَوْنِهِ طِيبًا أَوْ رَطْبًا لِعُذْرِهِ لا الْجَاهِلِ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فَقَطْ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيْمِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْفِدْيَةَ. وَمَنْ مَسَّ سِتَارَ الْكَعْبَةِ أَوِ الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَهُوَ لا يَعْلَمُ أَنَّهَا مُطَيَّبَةٌ بِطِيبٍ يَعْلَقُ عَلَى بَدَنِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَىْءٌ أَمَّا إِنْ كَانَ عَالِمًا فَفَعَلَ ذَلِكَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ.

   أَمَّا قَبْلَ الإِحْرَامِ فَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ سُنِّيَّةِ التَّطَيُّبِ لِلإِحْرَامِ وَالدَّلِيلِ عَلَيْهِ فَلْنَذْكُرْ هُنَا دلِيلًا حَدِيثِيَّا ءَاخَرَ وَهُوَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ «كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِحْرَامِهِ [هَذَا لِلنُّسُكِ] وَلِحِلِّهِ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ]. وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمَةِ كُلُّ الْحُلِيِّ وَلُبْسُ الْحَرِيرِ، وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَكْتَحِلَ. وَأَمَّا مَنْ تَطَيَّبَ قَبْلَ الإِحْرَامِ ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَ الإِحْرَامِ فَأَصَابَهَا الطِّيبُ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى لابِسًا لَهَا لَكِنْ إِذَا رَفَعَهَا عَنْهُ فَلا يُعِيدُهَا عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا غَسَلَهَا وَذَهَبَتِ الرَّائِحَةُ، أَوْ يَلْبَسَ غَيْرَهَا. وَإِذَا غَسَلَ ثِيَابَهُ بِمُنَظِّفَاتِ الْغَسِيلِ الْمُعَطَّرَةِ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ هَذِهِ إِلَّا إِنْ زَالَتْ مِنْهَا الرَّائِحَةُ. وَكَذَلِكَ لا يَجُوزُ لَهُ اسْتِعْمَالُ الصَّابُونِ الْمُطَيَّبِ فِي بَدَنِهِ أَوْ سَائِلٍ مُطَيَّبٍ وَلَوْ مِمَّا يُسْتَعْمَلُ فِي غَسْلِ الأَوَانِي.

   تَنْبِيهٌ التَّطَيُّبُ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْبَيْتِ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَلَيْسَ بِحَرَامٍ إِلَّا إِنْ قَصَدَتِ التَّعَرُّضَ لِلرِّجَالِ وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ صَحِيحٌّ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ خَرَجَتْ مِنْ بَيْتِهَا مُتَعَطِّرَةً فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيْحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ]، فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لِيَجِدُوا رِيحَهَا» بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّهُ لا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ خُرُوجُهَا مُتَطَيِّبَةً إِلَّا إِذَا كَانَ قَصْدُهَا ذَلِكَ. فَاتَّضَحَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا أَوْهَمَ تَحْرِيْمَ التَّطَيُّبِ عَلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مُطْلَقًا هُوَ مُؤَوَّلٌ لِلتَّوْفِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَحَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا دَعْوَى بَعْضِ النَّاسِ بِأَنَّ لامَ «لِيَجِدُوا رِيْحَهَا» لامُ الْعَاقِبَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِسَنَنِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ إِلْغَاءُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَحَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ، ثُمَّ يَرُدُّهُ أَيْضًا أَنَّ اللَّامَ لا تَكُونُ لِلْعَاقِبَةِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا نَقِيضُ مُقْتَضَى مَا قَبْلَهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي كِتَابِهِ «الْقَوَاطِعُ»، وَالْمَجَازُ لَهُ شَرْطٌ وَالْخُرُوجُ عَنِ الْحَقِيقَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ عَبَثٌ تُصَانُ عَنْهُ النُّصُوصُ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الأُصُولِيُّونَ مِنْهُمُ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَدَهْنُ رَأْسٍ وَلِحْيَةٍ بِزَيْتٍ أَوْ شَحْمٍ أَوْ شَمْعِ عَسَلٍ ذَائِبَيْنِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الثَّانِيَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ دَهْنُ شَعَرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ بِمَا يُسَمَّى دُهْنًا وَلَوْ غَيْرَ مُطَيَّبٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِالزَّيْتِ أَوِ السَّمْنِ أَوِ الزُّبْدَةِ أَوْ بِشَحْمٍ أَوْ شَمْعِ عَسَلٍ ذَائِبَيْنِ، أَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلا يَحْرُمُ كَالَّذِي يُوضَعُ عَلَى الْجُرْحِ وَهُوَ غَيْرُ مُطَيَّبٍ، وَلَهُ دَهْنُ شَعَرِ جَسَدِهِ وَلَهُ أَكْلُ الشَّحْمِ وَالزَّيْتِ، وَإِنْ كَانَ الشَّخْصُ أَصْلَعَ أَوْ أَقْرَعَ لا يَحْرُمُ عَلَيْهِ دَهْنُ رَأْسِهِ، وَلا يَحْرُمُ عَلَى الأَمْرَدِ دَهْنُ ذَقَنِهِ بِالزَّيْتِ وَغَيْرِهِ مِنَ الدُّهُونِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِزَالَةُ ظُفْرٍ وَشَعَرٍ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الثَّالِثَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ إِزَالَةُ الظُّفْرِ بِدُونِ الْمَنْبِتِ فَإِنْ أَزَالَهُ مَعَ الْمَنْبِتِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ لَكِنَّهُ يَحْرُمُ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ إِضْرَارٌ بِنَفْسِهِ، لَكِنَّهُ لا يَحْرُمُ إِزَالَةُ الْمُنْكَسِرِ إِذَا انْكَسَرَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ أَيْ أَنَّ إِزَالَةَ الظُّفْرِ الْمُنْكَسِرِ لَيْسَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ وَلا فِدْيَةٌ سَوَاءٌ كَانَ انْكَسَرَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ إِنْ كَانَ يَتَأَذَّى بِبَاقِيهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَزَالَ شَعْرَةً مِنْ بَاطِنِ الْعَيْنِ نَبَتَتْ دَاخِلَ جَفْنِهِ جَازَ وَلا فِدْيَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا تُؤْذِي، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ شَعَرُهُ يُغَطِّي عَيْنَهُ فَأَزَالَهُ فَلَيْسَ حَرَامًا أَنْ يُزِيلَهُ وَلا فِدْيَةَ عَلَيْهِ [فَإِنْ حَلَقَ ثَلاثَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا دَفْعَةً وَاحِدَةً أَوْ قَلَّمَ ثَلاثَةَ أَظْفَارٍ لَزِمَهُ دَمٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَذْبَحَ شَاةً بِصِفَةِ الأُضْحِيَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُطْعِمَ ثَلاثَةَ ءَاصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَبَيْنَ أَنْ يَصُومَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَوْ حَلَقَ جَمِيعَ شَعَرِ رَأْسِهِ وَبَدَنِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يُعَدُّ فِعْلًا وَاحِدًا، وَلَوْ حَلَقَ شَعَرَ رَأْسِهِ فِي مَكَانَيْنِ أَوْ مَكَانٍ وَاحِدٍ لَكِنْ فِي زَمَانَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ وَجَبَتْ فِدْيَتَانِ وَلَوْ حَلَقَ ثَلاثَ شَعَرَاتٍ أَوْ قَلَّمَ ثَلاثَةَ أَظْفَارٍ فِي ثَلاثَةِ أَمْكِنَةٍ أَوْ ثَلاثَةِ أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَجَبَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا يَجِبُ فِيهَا لَوِ انْفَرَدَتْ].

   ثُمَّ إِنَّمَا تَجِبُ الْفِدْيَةُ عَلَى مَنِ انْتَتَفَ شَىْءٌ مِنْ شَعَرِ رَأْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ انْتَتَفَ بِفِعْلِهِ أَمَّا إِنْ شَكَّ هَلِ انْتَتَفَ بِفِعْلِهِ أَمْ كَانَ مُنْتَتِفًا قَبْلًا فَسَقَطَ مَعَ الْمِشْطِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ. وَفِي نَتْفِ شَعْرَةٍ أَوْ قَصِّ ظُفْرٍ مُدٌّ وَفِي اثْنَيْنِ مُدَّانِ وَفِي ثَلاثَةٍ وِلاءً أَيْ إِنْ أَزَالَهَا عَلَى التَّتَابُعِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِدْيَةٌ.

   وَيَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْسِلَ شَعَرَهُ بِنَحْوِ سِدْرٍ أَوْ صَابُونٍ غَيْرِ مُطَيَّبٍ وَالأَوْلَى تَرْكُ ذَلِكَ، وَالسِّدْرُ شَجَرٌ يَطْلَعُ مِنْهُ ثَمَرٌ يُؤْكَلُ يُسَنُّ وَضْعُهُ فِي مَاءِ غَسْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَمَّا تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الرَّسُولُ لِلنِّسَاءِ «اغْسِلْنَهَا وَاجْعَلْنَ فِي مَائِهَا سِدْرًا» [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ].

  كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ مَعَ الْكَرَاهَةِ الِاكْتِحَالُ بِمَا فِيهِ زِينَةٌ كَالإِثْمِدِ وَالْكُحْلِ الأَسْوَدِ إِلَّا لِعُذْرٍ كَوَجَعِ الْعَيْنِ فَلا يُكْرَهُ، فَلَيْسَ الْمُحْرِمُ مِثْلَ الَّتِي تُحِدُّ عَلَى زَوْجِهَا الْمُتَوَفَّى فَإِنَّهَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِمَا فِيهِ زِينَةٌ وَيَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَكْتَحِلَ بِالإِثْمِدِ فِي النَّهَارِ. 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَجِمَاعٌ وَمُقَدِّمَاتُهُ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الرَّابِعَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ الْجِمَاعُ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ وَلَوْ لِبَهِيمَةٍ، وَيَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ مُحْرِمَةٍ تَمْكِينُ حَلِيلٍ مُحْرِمٍ، قَالَ الْفُقَهَاءُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْرِمَةِ تَمْكِينُ زَوْجِهَا الْمُحْرِمِ مِنَ الْجِمَاعِ أَوْ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْحَلالِ أَيِ الرَّجُلِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ وَطْءُ مُحْرِمَةٍ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَمَةٍ، يَقُولُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَحْرَمَتْ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ دُونَ إِذْنِ زَوْجِهَا فَلَهُ أَنْ يَغْصِبَهَا عَلَى التَّحْلِيلِ لِأَنَّهَا أَحْرَمَتْ بِدُونِ إِذْنِهِ [وَالْمُرَادُ بِتَحْلِيلِهِ إِيَّاهَا أَنْ يَأْمُرَهَا بِالتَّحَلُّلِ وَتَحَلُّلُهَا كَتَحَلُّلِ الْمحصَرِ فَلَوْ لَمْ تَتَحَلَّلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِهَا كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ وَالإِثْمُ عَلَيْهَا لا عَلَيْهِ] وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ حَتَّى فِي الْمُحْرِمَةِ بِالْفَرْضِ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ تُحْرِمَ الْمَرْأَةُ بِدُونِ إِذْنِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَتْ هِيَ مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْحَجُّ لِكَوْنِهَا مُسْتَطِيعَةً هَؤُلاءِ قَالُوا إِنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي أَيْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحُجَّ هَذَا الْعَامَ يَحُجُّ الْعَامَ التَّالِي وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ الْعَامَ التَّالِي يَحُجُّ الْعَامَ الَّذِي بَعْدَهُ فَاعْتَبَرُوهَا عَاصِيَةً إِذَا أَحْرَمَتْ بِدُونِ إِذْنِهِ، لَكِنْ هُنَاكَ طَائِفَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ قَالُوا لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ زَوْجَتَهُ مِنَ الْحَجِّ الْفَرْضِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ حَرَامٌ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَهَا بِالتَّحَلُّلِ.

   وَأَمَّا الْمُقَدِّمَاتُ كَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالْمُعَانَقَةِ بِشَهْوَةٍ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ وَعَلَيْهِ دَمٌ أَيْ عَلَيْهِ ذَبْحُ شَاةٍ أَوِ التَّصَدُّقُ بِثَلاثَةِ ءَاصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ صَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلِ الْمَنِيَّ أَمَّا إِنْ كَانَ بِحَائِلٍ فَلا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَيَحْرُمُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ وَلا فِدْيَةَ فِيهِ. وَالشَّهْوَةُ التَّلَذُّذُ أَيِ اشْتِيَاقُ النَّفْسِ إِلَى ذَلِكَ وَمَيْلُهَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَقْدُ النِّكَاحِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الْخَامِسَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ عَقْدُ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ وَلا يَصِحُّ ذَلِكَ، فَلَوْ عَقَدَ الْمُحْرِمُ نِكَاحًا أَوْ وَكَّلَ شَخْصًا بِأَنْ يَعْقِدَ كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا وَلا يَنْعَقِدُ ذَلِكَ النِّكَاحُ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ [فِي صَحِيحِهِ] عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلا يُنْكِحُ وَلا يَخْطُبُ».

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَصَيْدُ مَأْكُولٍ بَرِّيٍّ وَحْشِيٍّ.

   الشَّرْحُ أَنَّ السَّادِسَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ الِاصْطِيَادُ أَيِ التَّعَرُّضُ لِصَيْدٍ مَأْكُولٍ بَرِّيٍّ وَحْشِيٍّ أَوْ مُتَوَلِّدٍ مِنْ مَأْكُولٍ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ طَيْرًا أَوْ غَيْرَهُ، وَلَوِ اسْتَأْنَسَ الْوَحْشِيُّ حَرُمَ لا عَكْسُهُ كَبَعِيرٍ نَدَّ أَيْ هَرَبَ وَدَخَلَ الْغَابَةَ مَثَلًا وَصَارَ وَحْشِيًّا فَلا يَحْرُمُ اصْطِيَادُهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُسْتَأْنِسٌ. وَكَمَا لا يَجُوزُ صَيْدُ مَأْكُولٍ بَرِّيٍّ وَحْشِيٍّ عَلَى الْمُحْرِمِ كَذَلِكَ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنَفِّرَهُ وَيَطْرُدَهُ.

   وَلا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ اصْطِيَادُ غَيْرِ الْمَأْكُولِ وَالْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ أَيِ اصْطِيَادُ مَا لا يَجُوزُ أَكْلُ لَحْمِهِ فَإِنَّهُ لا يَحْرُمُ كَمَا لا يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْرِمِ، كَذَلِكَ لا يَحْرُمُ اصْطِيَادُ كُلِّ حَيَوَانٍ مُؤْذٍ طَبْعًا أَيِ الَّذِي هُوَ مِنْ طَبِيعَتِهِ الإِيذَاءُ بَلْ يُنْدَبُ كَالْفَأْرَةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْحَيَّةِ وَالْحِدَأَةِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ [الْكَلْبُ الْعَقُورُ الأَسَدُ وَالنَّمِرُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَالْحِدَأَةُ طَيْرٌ يُشْبِهُ الصَّقْرَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَنْقَضُّ عَلَى حَامِلِ اللَّحْمِ مِنَ الْجَوِّ فَيَخْطِفُهُ مِنْ يَدِهِ وَقَدْ يَجْرَحُهُ]، هَذِهِ الأَشْيَاءُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي قَتْلِهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ] فِي حَالِ الإِحْرَامِ وَفِي غَيْرِ حَالِ الإِحْرَامِ وَفِي قَتْلِهَا ثَوَابٌ. أَمَّا الْقَمْلُ فَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ التَّعَرُّضُ لَهُ فَإِنْ قَتَلَهُ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لَكِنْ يُسَنُّ لِمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَىْءٍ وَلَوْ بِلُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ.

   أَمَّا الشَّىْءُ الَّذِي فِيهِ نَفْعٌ وَفِيهِ ضَرَرٌ كَالْفَهْدِ هَذَا لا يُسَنُّ قَتْلُهُ وَلا يُكْرَهُ.

   وَيَحْرُمُ قَتْلُ النَّحْلِ وَالنَّمْلِ السُّلَيْمَانِيِّ وَهُوَ أَحْمَرُ كَبِيرٌ لا يُؤْذِي فَقَدْ نَهَى الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ]. وَالصُّرَدُ طَائِرٌ ضَخْمُ الرَّأْسِ يَصْطَادُ الْعَصَافِيرَ لَيْسَ مِنَ الصُّقُورِ، هَؤُلاءِ الأَرْبَعَةُ قَتْلُهُنَّ لا يَجُوزُ لَكِنْ النَّحْلَةُ إِذَا هِيَ تَوَجَّهَتْ إِلَيْكَ لِلأَذَى يَجُوزُ دَفْعُهَا عَنْكَ وَلَوْ قُتِلَتْ فِي سَبِيلِ الدَّفْعِ. أَمَّا النَّمْلُ الأَحْمَرُ الْكَبِيرُ فَسَمَّوْهُ السُّلَيْمَانِيَّ لِأَنَّ ذَلِكَ الصِّنْفَ هُوَ الَّذِي قَالَ فِي سُلَيْمَانَ ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ [سُورَةَ النَّمْل/18] أَمَّا النَّمْلُ الصَّغِيرُ فَيَجُوزُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ مُؤْذٍ، أَمَّا الْحَيَوَانُ الَّذِي لا يَظْهَرُ مِنْهُ نَفْعٌ وَلا ضَرَرٌ كَالسَّرَطَانِ فَقَتْلُهُ مَكْرُوهٌ.

   وَكَذَلِكَ لا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ التَّعَرُّضُ لِلْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ الْبَحْرِيِّ وَهُوَ مَا لا يَعِيشُ فِي غَيْرِ الْمَاءِ وَلَوْ نَحْوِ بِئْرٍ وَلَوْ كَانَ فِي الْحَرَمِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَأْكُولِ الْبَحْرِيِّ الْمَأْكُولُ الْمَائِيُّ وَلَوْ كَانَ يُخْلَقُ فِي ضِمْنِ الْبِئْرِ فَلَوْ كَانَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ بِرْكَةٌ يَتَوَلَّدُ فِيهَا السَّمَكُ وَنَحْوُهُ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَرِّيًّا إِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ صَيْدُ الْبَرِّيِّ الْمَأْكُولِ الْوَحْشِيِّ.

   وَكَمَا يَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ أَيْ لِلْمَأْكُولِ الْبَرِّيِّ الْوَحْشِيِّ يَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لِنَحْوِ بَيْضِهِ وَلَبَنِهِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ كَشَعَرِهِ وَرِيشِهِ. وَهَذِهِ الأَشْيَاءُ تُغْرَمُ فَمَنْ أَتْلَفَ وَهُوَ مُحْرِمٌ رِيشَ حَيَوَانٍ بَرِّيٍّ مَأْكُولٍ وَحْشِيٍّ أَوْ شَعَرَهُ أَوْ بَيْضَهُ أَوْ قِشْرَهُ إِنْ كَانَ مِمَّا لَهُ قِيمَةٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَذَلِكَ كَقِشْرِ بَيْضِ النَّعَامِ الْمَذِرِ أَيِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ قِشْرَهُ لَهُ قِيمَةٌ بِخِلافِ الْبَيْضِ الْمَذِرِ مِنْ غَيْرِ النَّعَامِ إِذَا أَتْلَفَهُ الْحَاجُّ الْمُحْرِمُ. أَمَّا إِذَا أَتْلَفَ الْحَيَوَانَ فَيَدْفَعُ الْمِثْلَ فَمَنْ قَتَلَ نَعَامَةً يَدْفَعُ مِثْلَهَا أَيْ مَا يُشْبِهُهَا مِنَ الأَنْعَامِ الثَّلاثَةِ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَمِثْلُ النَّعَامَةِ مِنْ بَيْنِ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ الإِبِلُ فَيَذْبَحُهُ وَيَدْفَعُهُ لِثَلاثَةٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْحَرَمِ فَأَكْثَرَ ثُمَّ هُمْ إِنْ شَاءُوا يَأْكُلُونَهَا وَإِنْ شَاءُوا يَبِيعُونَهَا وَيَنْتَفِعُونَ بِالثَّمَنِ، وَالَّذِي يَقْتُلُ ضَبُعًا وَهُوَ مُحْرِمٌ يَدْفَعُ كَبْشًا، وَالضَّبُعُ مَأْكُولٌ.

   فَائِدَةٌ الْحَشَرَاتُ الَّتِي تَعِيشُ فِي الْمَاءِ وَفِي خَارِجِ الْمَاءِ حَرَامٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَكْلُهَا وَتَحِلُّ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا ذُبِحَتْ، الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ هَذِهِ الْحَشَرَاتُ أَيِ الْحَيَوَانَاتُ الصَّغِيرَةُ إِنْ كَانَتْ تَعِيشُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِثْلُ السَّرَطَانِ مُسْتَخْبَثَةٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ [سُورَةَ الأَعْرَاف/157] وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَبَائِثِ فَلا يَجُوزُ أَكْلُهَا، وَمِثْلُهُ الضِّفْدَعُ وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ بُزَّاقٌ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَلَى الرَّجلِ سَتْرُ رَأْسِهِ وَلُبْسُ مُحِيطٍ بِخِيَاطَةٍ أَوْ لِبْدٍ [اللِّبْدُ مَا يَتَلَبَّدُ مِنْ شَعَرٍ أَوْ صُوفٍ] أَوْ نَحْوِهِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ السَّابِعَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ عَلَى الرَّجُلِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ إِنْ كَانَ عَامِدًا عَالِمًا بِحُرْمَتِهِ مُخْتَارًا سَتْرُ شَىْءٍ مِنْ رَأْسِهِ وَإِنْ قَلَّ كَالْبَيَاضِ الْمُحَاذِي لِأَعْلَى الأُذُنِ لا الْمُحَاذِي لِشَحْمَةِ الأُذُنِ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا عُرْفًا وَإِنْ حَكَى اللَّوْنَ وَكَانَ غَيْرَ مُحِيطٍ كِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ بِحَيْثُ لا تُقَارِبُ الْخَيْطَ، بِخِلافِ نَحْوِ خَيْطٍ دَقِيقٍ وَمَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَعَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ وَفِدْيَةٌ، وَأَمَّا مَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْخَيْطِ فَلا يَحْرُمُ وَلَيْسَ فِيهِ فِدْيَةٌ، وَكَذَلِكَ لا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ أَنْ يَتَوَسَّدَ نَحْوَ عِمَامَةٍ يَضَعُهَا تَحْتَ رَأْسِهِ، وَكَذَلِكَ لا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَضْعُ يَدِهِ عَلَى رَأْسِهِ مَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا السَّتْرَ أَمَّا إِنْ قَصَدَ سَتْرَ رَأْسِهِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَحَرَامٌ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُعْتَمَدُ جَوَازُهُ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ لُبْسُ مُحِيطٍ أَيْ مَا يُحِيطُ بِالْبَدَنِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ حَتَّى كِيسِ اللِّحْيَةِ، لَكِنْ يَجُوزُ لَهُ السَّتْرُ وَالْحَلْقُ لِلْحَاجَةِ كَكَثْرَةِ الْقَمْلِ وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحِيطَ أَيْ مَا يُحِيطُ بِبَدَنِهِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ، وَالْحَاجَةُ تَكُونُ بِسَبَبِ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ مَرِيضًا فَاحْتَاجَ لِلُبْسِ الْمُحِيطِ يَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحِيطَ ثُمَّ يَفْدِي، أَمَّا إِنْ نَسِيَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ فَلَبِسَ السِّرْوَالَ فَلا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ الْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ إِزَارَهُ بِأَنْ يَرْبِطَ كُلًّا مِنْ طَرَفَيْهِ بِالآخَرِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْبِطَ خَيْطًا عَلَى إِزَارِهِ وَأَنْ يَعْقِدَ هَذَا الْخَيْطَ عَلَى الإِزَارِ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ سَيْفًا وَأَنْ يَشُدَّ مِنْطَقَةً عَلَى وَسَطِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا تُفِيدُهُ تَثْبِيتَ الإِزَارِ. وَمَقْصُودُ الْفُقَهَاءِ هُنَا بِالْحَاجَةِ مَا فِي تَرْكِهِ مَشَقَّةٌ لا يُحْتَمَلُ مِثْلُهَا عَادَةً وَإِنْ كَانَتْ لا تُبِيحُ التَّيَمُّمَ، وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَلُفَّ عِمَامَةً عَلَى وَسَطِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِدَهَا، وَيَجُوزُ أَيْضًا لُبْسُ الْخَاتَمِ وَالسَّاعَةِ وَالنَّظَّارَةِ وَالْحِزَامِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ الْوَسَطُ وَلَوْ كَانَ فِيهِ خِيَاطَةٌ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِلْدٍ أَوْ قِمَاشٍ كَهَذَا الَّذِي تُحْفَظُ فِيهِ النُّقُودُ وَنَحْوِهَا. وَأَنْ يَحْتَبِيَ بِحَبْوَةٍ وَإِنْ عَرُضَتْ جِدًّا كَأَنْ أَخَذَتْ رُبُعَ الظَّهْرِ بِشَرْطِ أَنْ تُسَمَّى فِي الْعُرْفِ حَبْوَةً [الْعَرَبُ الْقُدَمَاءُ كَانُوا فِي مَجَالِسِهِمْ يُدِيرُونَ الرِّدَاءَ عَلَى الظَّهْرِ وَالرُّكْبَتَيْنِ فَيَكُونُ الشَّخْصُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ عَلَى كُرْسِيٍّ تُرِيحُهُ]. وَيَجُوزُ عَمَلُ كِيسٍ لِلنَّعْلِ يَحْمِلُهُ الْمُحْرِمُ مَعَ عِلاقَةٍ مِثْلُ حِمَالَةِ السَّيْفِ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ مَا عُرِفَ بِالدَّبُّوسِ الإِفْرَنْجِيِّ فِي الرِّدَاءِ أَوْ لِرَبْطِ الإِزَارِ لِلرَّجُلِ الْمُحْرِمِ وَاسْتِعْمَالُ مَا يُسَمَّى أَزْرَارَ الْكَبْسُونِ فَحَرَامٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.

   وَلا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَضَعَ الْمِنْشَفَةَ عَلَى رَأْسِهِ لِتَنْشِيفِهِ بِحَيْثُ يُعَدُّ سَاتِرًا لِرَأْسِهِ أَمَّا إِنْ نَشَّفَ رَأْسَهُ بِطَرَفِ الْمِنْشَفَةِ بِحَيْثُ لا يُعَدُّ سَتْرًا فَيَجُوزُ. وَلَوْ وَضَعَ حَقِيبَةً عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَإِنْ قَصَدَ سَتْرَهُ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ وَإِنْ قَصَدَ الْحَمْلَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِدْيَة. وَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ عِنْدَ النَّوْمِ بِنَحْوِ بَطَّانِيَّةٍ. وَيَحْرُمُ أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوِ الْوَرْسُ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَمَّا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ فَقَالَ «لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلا الْعَمَائِمَ وَلا السّرَاوِيلاتِ وَلا الْبَرَانِسَ وَلا الْخِفَافَ إِلَّا أَحَدٌ لا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ، وَلا تَلْبَسُوا شَيْئًا مِنَ الثِّيَابِ مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ وَلا الْوَرْسُ».

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَلَى الْمُحْرِمَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا وَقُفَّازٌ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الثَّامِنَ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حَالِ الإِحْرَامِ أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا دُونَ بَقِيَّةِ بَدَنِهَا فَيَجِبُ سَتْرُهُ وَلَوْ بِمُحِيطٍ [جَاءَ عَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، الْمَعْنَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ حَرُمَ عَلَيْهِ سَتْرُ رَأْسِهِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا بِالإِحْرَامِ سَتْرُ وَجْهِهَا، وَكَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا لُبْسُ قُفَّازٍ]، وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَسْتُرَ مِنَ الْوَجْهِ الْقَدْرَ الَّذِي لا يَتَحَقَّقُ سَتْرُ الرَّأْسِ بِدُونِهِ فِي الصَّلاةِ فَهَذَا شَأْنُهَا فِي الإِحْرَامِ إِذْ لا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ سَتْرِ الْوَاجِبِ إِلَّا بِهِ، وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي قَوْلِ الْفُقَهَاءِ «مَا لا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ»، فَلَمَّا كَانَ سَتْرُ الرَّأْسِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ وَاجِبًا كَمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِ الْمُحْرِمَةِ وَكَانَ سَتْرُ الْوَجْهِ حَرَامًا عَلَى الْمُحْرِمَةِ جَازَ لَهَا أَنْ تَسْتُرَ شَيْئًا مِنْ وَجْهِهَا مَعَ الرَّأْسِ لِتَحْقِيقِ سَتْرِ الرَّأْسِ، لَكِنْ لا يَحْرُمُ أَنْ تَسْتُرَ وَجْهَهَا فِي حَالِ الإِحْرَامِ بِثَوْبٍ مُتَجَافٍ عَنِ الْوَجْهِ بِنَحْوِ خَشَبَةٍ أَيْ بِحَيْثُ يَمْنَعُ لُصُوقَ السَّاتِرِ بِالْوَجْهِ وَلَوْ بِلا حَاجَةٍ كَمَا يَجُوزُ سَتْرُ رَأْسِ الرَّجُلِ بِالْمِظَلَّةِ، فَإِنْ سَدَلَتْ عَلَى وَجْهِهَا ثَوْبًا مُتَجَافِيًا عَنِ الْوَجْهِ ثُمَّ وَقَعَ السِّتْرُ عَلَى الْوَجْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا فَإِنْ رَفَعَتْهُ فَوْرًا فَلا شَىْءَ عَلَيْهَا، أَوْ عَمْدًا أَوْ تَرَكَتْهُ مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ فَقَدْ أَثِمَتْ وَلَزِمَتْهَا الْفِدْيَةُ [إِنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِحُرْمَةِ سَتْرِ الْوَجْهِ وَسَتَرَتْ لَيْسَ عَلَيْهَا مَعْصِيَةٌ وَلا فِدْيَةٌ]، وَكَانَتْ أَزْوَاجُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرِ الْحَجِّ إِذَا حَاذَيْنَ الرَّكْبَ أَيِ الرِّجَالَ يَسْتُرْنَ وُجُوهَهُنَّ مَعَ الْمُجَافَاةِ أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْصَقَ هَذَا السَّاتِرُ بِالْوَجْهِ، لِأَنَّ سَتْرَ الْوَجْهِ بِالنِّسْبَةِ لَهُنَّ فَرْضٌ عَلَى الدَّوَامِ بِحَضْرَةِ الأَجَانِبِ، أَمَّا عَلَى غَيْرِهِنَّ فَلَيْسَ فَرْضًا إِنَّمَا الْفَرْضُ سَتْرُ الرَّأْسِ.

   أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ لَهُنَّ أَحْكَامٌ خَصَّهُنَّ اللَّهُ بِهَا دُونَ سَائِرِ النِّسَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلا يُقَاسُ غَيْرُهُنَّ عَلَيْهِنَّ، الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّتِي مَا عَاشَ بَعْدَهَا إِلَّا نَحْوَ ثَمَانِينَ يَوْمًا جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ يَوْمَ الْعِيدِ وَكَانَتْ شَابَّةً جَمِيلَةً فَجَعَلَتْ تَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الْحَجِّ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ «نَعَمْ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ]، مَا قَالَ لَهَا غَطِّي وَجْهَكِ أَنْتِ شَابَّةٌ جَمِيلَةٌ لا يَجُوزُ لَكِ، وَهَذَا بَعْدَ نُزُولِ ءَايَةِ الْحِجَابِ بِنَحْوِ خَمْسِ سَنَوَاتٍ. فَهُؤَلاءِ النَّاسُ الَّذِينَ يَتَشَدَّدُونَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّشَدُّدِ فَيُحَرِّمُونَ مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللَّهُ وَيَفْرِضُونَ مَا لَمْ يَفْرِضِ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ لا تُحْمَدُ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ.

   أَقُولُ: لَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ هَذَا قَوْلُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَإِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى خِلافِهِ، فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ الْحَنَفِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ وَهُوَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ أَنَّ الْوَجْهَ يَجِبُ سَتْرُهُ أَيْ فِي زَمَانِنَا لا لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ بَلْ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ اهـ وَكَذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ الشَّافِعِيُّ هُوَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تُوُفِّيَ بَعْدَ تِسْعِ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَالِكِيُّ أَيْضًا مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ إِلَّا أَنَّهُ أَقْدَمُ مِنِ ابْنِ حَجَرٍ قَالَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: «لِلْمَرْأَةِ كَشْفُ وَجْهِهَا إِجْمَاعًا وَعَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ» اهـ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: «وَلَوْ مَعَ خَوْفِ الْفِتْنَةِ بِكَشْفِهِ» اهـ كَمَا فِي مِنَحِ الْجَلِيلِ شَرْحِ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ، وَمَعْنَاهُ إِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا ثُمَّ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يَغُضُّوا أَبْصَارَهُمْ أَيْ أَنْ لا يَنْظُرُوا بِشَهْوَةٍ فَإِنْ نَظَرُوا بِشَهْوَةٍ إِلَى الْوَجْهِ فَحَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَمَّا إِنْ نَظَرُوا بِلا شَهْوَةٍ فَلَيْسَ حَرَامًا، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ كَلامَ الْقَاضِي وَأَقَرَّهُ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى إِيضَاحِ النَّوَوِيِّ وَنَصُّ عِبَارَتِهِ: «(قَوْلُهُ أَوِ احْتَاجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى سَتْرِ وَجْهِهَا) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ حَاجَتِهَا لِذَلِكَ مَا إِذَا خَافَتْ مِنْ نَظَرٍ إِلَيْهَا يَجُرُّ لِفِتْنَةٍ، وَإِنْ قُلْنَا لا يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ وَجْهِهَا فِي الطُّرُقَاتِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ» انْتَهَى.

   وَنَصُّ عِبَارَتِهِ فِي مَوْضِعٍ ءَاخَرَ: «وَمِنْهُ، أَيْ مِنَ الْمَكْرُوهِ أَنْ تَطُوفَ الْمَرْأَةُ مُنْتَقِبَةً وَهِيَ غَيْرُ مُحْرِمَةٍ» إِلَى أَنْ قَالَ: «وَإِلَّا فَهُوَ ذُهُولٌ عَمَّا قَالُوهُ فِي بَابِ النِّكَاحِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا كَشْفُ وَجْهِهَا إِجْمَاعًا وَعَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ، وَلا يُنَافِيهِ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا تُؤْمَرُ بِسَتْرِهِ لِأَنَّهُ لا يَلْزَمُ مِنْ أَمْرِهَا بِذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ وُجُوبُهُ» انْتَهَى.

   وَنَصُّ عِبَارَتِهِ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ بَعْدَ كَلامٍ: «وَأَمَّا الِاضْطِبَاعُ فَلا وَقْفَةَ فِي تَحْرِيْمِهِ لا مِنْ جِهَةِ التَّشَبُّهِ بَلْ لِأَنَّ فِيهِ كَشْفَ الْعَوْرَةِ وَهُوَ مُبْطِلٌ لِلطَّوَافِ. وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ هَذَا لا يَأْتِي إِلَّا فِي الْحُرَّةِ إِنْ كَشَفَتْ مَنْكِبَهَا لِأَجْلِهِ أَمَّا لَوْ فَعَلَتْهُ فَوْقَ ثِيَابِهَا أَوْ لَمْ تَجِدْ مَا تَسْتُرُ بِهِ كُلَّ بَدَنِهَا وَجَوَّزْنَا طَوَافَهَا عَارِيَةً أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَلا حُرْمَةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ قُلْنَا الأَمَةُ كَالْحُرَّةِ فِي النَّظَرِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ يَجُوزُ لِلْحُرَّةِ كَشْفُ وَجْهِهَا وَإِنْ قُلْنَا بِحُرْمَةِ النَّظَرِ إِلَيْهِ [تَحْرِيمُ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الْحُرَّةِ بِلا شَهْوَةٍ خِلافُ الْمُعْتَمَدِ] وَعَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ. وَقَوْلُ الْمُحِبِّ الطَّبَرِيِّ: يُسَنُّ لَهَا الرَّمَلُ لَيْلًا مَعَ الْخَلْوَةِ كَالسَّعْيِ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ رُدَّ بِأَنَّ الْمَعْنَى فِي السَّعْيِ وَهُوَ التَّشَبُّهُ بِهَاجَرَ لَمَّا سَعَتْ لِأَجْلِ عَطَشِ ابْنِهَا وَلَيْسَ ثَمَّةَ غَيْرُهَا كَمَا فِي الصَّحِيحِ مَوْجُودٌ فِي الْمَرْأَةِ بِخِلافِ مَعْنَى الرَّمَلِ، فَجَرَى ثَمَّةَ قَوْلٌ بِسَعْيِهَا فِي الْخَلْوَةِ وَلَمْ يَجْرِ هُنَا، وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ حُرْمَةَ الرَّمَلِ إِنْ أَدَّى إِلَى رُؤْيَةِ بَعْضِ عَوْرَتِهَا مِنْ أَسَافِلِهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ لا خُصُوصِيَّةَ لَهَا بِذَلِكَ إِذِ الرَّجُلُ كَذَلِكَ؛ أَمَّا إِذَا أَدَّى إِلَى حِكَايَةِ حَجْمِهَا فَلا وَجْهَ لِلْحُرْمَةِ خِلافًا لِمَنْ تَوَهَّمَهُ لِقَوْلِهِمْ لُبْسُ مَا يُؤَدِّي إِلَى ذَلِكَ مَكْرُوهٌ» اهـ.

   فَمِمَّا فِي هَذِهِ الْجُمَلِ أَنَّ الِاضْطِبَاعَ سُنَّةٌ لِلرَّجُلِ وَلَيْسَ سُنَّةً لِلْمَرْأَةِ وَأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تَطُوفَ الْمَرْأَةُ مُضْطَبِعَةً إِنْ فَعَلَتْ هَذَا فَوْقَ الثِّيَابِ وَلَمْ تَكْشِفْ عَوْرَتَهَا أَوْ فِي حَالِ لَمْ تَجِدِ الْمَرْأَةُ سَاتِرًا تَسْتُرُ بِهِ مَنْكِبَهَا فَاضْطَبَعَتْ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهَا تَكُونُ كَشَفَتْ بَعْضَ جَسَدِهَا لِعُذْرٍ فِي الطَّوَافِ. وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَ مَا يَصِفُ حَجْمَ جِسْمِهَا مَعَ سَتْرِ لَوْنِ الْجِلْدِ مِنْ هُزَالٍ أَوْ سِمَنٍ لَكِنْ مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْقَرْنِ الثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ إِنَّهُ حَرَامٌ عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لُبْسُ الضَّيِّقِ، هَؤُلاءِ كَلامُهُمْ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ. قَالَ الْفُقَهَاءُ: لُبْسُ الضَّيِّقِ فِي الصَّلاةِ مَكْرُوهٌ لِلنِّسَاءِ وَأَقَلُّ مِنَ الْكَرَاهَةِ لِلرِّجَالِ أَمَّا أُولَئِكَ الْحَنَفِيَّةُ فَشَدَّدُوا فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّشْدِيدِ وَحَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَأَشَدُّ بُعْدًا عَنِ الْحَقِّ تَحْرِيْمُهُمْ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ فَعِنْدَهُمْ لا يَجُوزُ لُبْسُ السِّرْوَالِ الضَّيِّقِ لا لِلرِّجَالِ وَلا لِلنِّسَاءِ.

   هَذَا الْقَوْلُ ظَهَرَ فِيهِمْ مُنْذُ مِائَتَيْ سَنَةٍ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَبَرِيءٌ مِنْ هَذَا لا يَقُولُهُ.

   وَلْنُورِدْ عِبَارَةً لِلشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفِ بِعِلَّيْشٍ الْمَالِكِيِّ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى (مِنَحُ الْجَلِيلِ شَرْحُ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَتِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَنَصُّ عِبَارَتِهِ مَمْزُوجًا بِالْمَتْنِ: «(وَ) هِيَ مِنْ حُرَّةٍ (مَعَ) رَجُلٍ (أَجْنَبِيٍّ) مُسْلِمٍ جَمِيعُ جَسَدِهَا (غَيْرُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ) ظَهْرًا وَبطْنًا، فَالْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ لَيْسَا عَوْرَةً، فَيَجُوزُ لَهَا كَشْفُهُمَا لِلأَجْنَبِيِّ وَلَهُ نَظَرُهُمَا إِنْ لَمْ تُخْشَ الْفِتْنَةُ، فَإِنْ خِيفَتِ الْفِتْنَةُ بِهِ فَقَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ: مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ سَتْرِهِمَا وَقَالَ عِيَاضٌ: لا يَجِبُ سَتْرُهُمَا وَيَجِبُ عَلَيْهِ غَضُّ بَصَرِهِ» انْتَهَتْ عِبَارَتُهُ.

   فَانْظُرْ أَيُّهَا الْمُطَالِعُ بِإِنْصَافٍ عِبَارَتَهُ مَا أَصْرَحَهَا فِي إِفَادَةِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ جَوَازُ كَشْفِ وَجْهِ الْحُرَّةِ. وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلامُ فِي غَيْرِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى يَرُدُّهَا قَوْلُ عِيَاضٍ وَعَلَى الرِّجَالِ غَضُّ الْبَصَرِ، وَبِهِ أَخَذَ شَارِحُ خَلِيلٍ الْمَذْكُورُ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنِ ابْنِ عَابِدِينَ بِزَمَانٍ، وَقَوْلُ عِيَاضٍ هَذَا يُبْطِلُ دَعْوَى أَحَدِ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ كَشْفَ الْوَجْهِ فِي هَذَا الزَّمَنِ لا يَجُوزُ بِإِجْمَاعٍ وَأَيْنَ مَا ادَّعَاهُ مِنَ الإِجْمَاعِ الَّذِي نَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ، وَأَمَّا اسْتِحْبَابُ سَتْرِ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ فَمَحَلُّ اتِّفَاقٍ.

   وَبَعْضُ مَنِ ادَّعَى الْعِلْمَ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ جَمِيعَهُنَّ كَأَزْوَاجِ الرَّسُولِ فِي وُجُوبِ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ بَعْدَ نُزُولِ ءَايَةِ الْحِجَابِ عَلَيْهِنَّ، وَهَذَا الرَّجُلُ غَابَ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِأَزْوَاجِ الرَّسُولِ كَمَا قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ الَّتِي هِيَ أَكْثَرُ كُتُبِ الْحَدِيثِ شُهْرَةً بَعْدَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ لَمَّا ذَكَرَ حَدِيثَ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ لِزَوْجَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِهِ لَمَّا دَخَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى «احْتَجِبَا مِنْهُ»، قَالَتَا أَوَلَيْسَ أَعْمَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا»، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: «هَذَا خَاصٌّ بِنِسَاءِ الرَّسُولِ» وَأَمَّا غَيْرُهُنَّ فَيَجُوزُ لَهُنَّ كَشْفُ الْوَجْهِ عِنْدَ الأَجْنَبِيِّ.

   ثُمَّ حَدِيثُ «احْتَجِبَا مِنْهُ» اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ قَالَ بَعْضٌ صَحِيحٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ ضَعِيفٌ فَجَوَازُ كَشْفِ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا فِي الطَّرِيقِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ أَيِ اتَّفَقَ عَلَيْهِ الأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ، قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الأَئِمَّةِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي حَاشِيَةِ إِيضَاحِ الْمَنَاسِكِ لِلنَّوَوِيِّ وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَبْلَهُ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَمَا خَالَفَ الإِجْمَاعَ فَهُوَ بَاطِلٌ، حَتَّى الْحَدِيثَ إِذَا خَالَفَ الإِجْمَاعَ فَهُوَ مَرْدُودٌ لَيْسَ مِنْ كَلامِ الرَّسُولِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا» خَاصٌّ بِأَزْوَاجِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ حَدِيثُ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ لَهَا «اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ». فَحَدِيثُ «احْتَجِبَا» خَاصٌّ بِنِسَاءِ الرَّسُولِ وَأَمَّا حَدِيثُ «اعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ عِنْدَهُ» فَلِغَيْرِهِنَّ.

   هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ يَجِبُ سَتْرُ الْوَجْهِ فِي زَمَانِنَا دَفْعًا لِلْفِتْنَةِ كَلامُهُمْ لا مَعْنَى لَهُ، فَالْفِتْنَةُ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ لَيْسَ شَيْئًا جَدِيدًا، فَقَوْلُ هَؤُلاءِ دَفْعًا لِلْفِتْنَةِ يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ سَتْرُ الْوَجْهِ بِالْمُطْلَقِ بَعِيدٌ مِنَ الصَّوَابِ، عَلَى قَوْلِهِمْ يَجِبُ عَلَى الْمُرْدَانِ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ لِأَنَّهُ كَثُرَتِ الْفِتْنَةُ فَمَاذَا يَقُولُونَ، يُقَالُ لَهُمْ قُلْتُمْ دَفْعًا لِلْفِتْنَةِ يَجِبُ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ وَالْفِتْنَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمُرْدَانِ أَيْضًا فَهَلْ تُوجِبُونَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُغَطُّوا وُجُوهَهُمْ إِذَا خَرَجُوا.

   ثُمَّ هَؤُلاءِ يَسْتَدِلُّونَ أَيْضًا بِآيَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ﴾ [سُورَةَ النُّورِ/31] يَقُولُونَ هَذِهِ الآيَةُ تَفْرِضُ عَلَى النِّسَاءِ تَغْطِيَةَ الْوَجْهِ وَالآيَةُ الأُخْرَى ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/59]. وَهَاتَانِ الآيَتَانِ لا تُعْطِيَانِ مَا يَدَّعُونَ. الْخِمَارُ هُوَ مَا تُغَطِّي بِهِ النِّسَاءُ الرَّأْسَ وَالْعُنُقَ وَالْجِلْبَابُ مَا يُغَطِّي مِنَ الرَّأْسِ إِلَى الْقَدَمِ وَالْجَيْبُ فَتْحَةُ الْقَمِيصِ وَقَوْلُهُ ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾ [سُورَةَ الأَحْزَاب/59] أَيْ هَذَا عَلامَةُ الْحُرَّةِ أَيْ بِهَذَا يُعْرَفْنَ أَنَّهُنَّ حَرَائِرُ لَسْنَ إِمَاءً، وَالآيَةُ الأُخْرَى فِيهَا ﴿عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ مَا قَالَ عَلَى وُجُوهِهِنَّ.

   هَؤُلاءِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَهُمْ عَلَى جَهْلٍ مُرَكَّبٍ بَلْ مِنْ كَثْرَةِ الْجَهْلِ النِّسَاءُ فِي سُورِيَّا كَثِيرٌ مِنْهُنَّ يَعْتَبِرْنَ تَغْطِيَةَ الْوَجْهِ كَأَنَّهَا رُكْنُ الإِسْلامِ الأَقْوَى فَالتَّقْوَى عِنْدَهُنَّ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ وَكَثِيرٌ مِنْهُنَّ لا يَعْرِفْنَ الْعَقِيدَةَ.

   فَائِدَةٌ نُصَّ فِي عِدَّةِ كُتُبٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ مَا يُكَيِّفُ حَجْمَ الْعَوْرَةِ بِكَرَاهَةٍ وَهَاكَ نَصّ شَرْحِ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ قَالَ: «(وَكُرِهَ) [يَحْرُمُ عِنْدَهُمْ مَا وَرَدَ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ أَمَّا مَا وَرَدَ فِيهِ دَلِيلٌ غَيْرُ قَاطِعٍ فَيُكْرَهُ] – بِضَمٍّ فَكَسْرٍ – لِبَاسُ (مُحَدِّدٍ) – بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الدَّالِ مُثَقَّلَة-  أَيْ مُظْهِرٍ حَدَّ الْعَوْرَةِ لِرِقَّتِهِ أَوْ ضِيقِهِ وَإِحَاطَتِهِ أَوْ بِاحْتِزَامٍ عَلَيْهِ [إِذَا رُبِطَ عَلَيْهِ حِزَامٌ إِنْ كَانَ يُكَيِّفُ الْحَجْمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ فَقَطْ]، وَلَوْ بِغَيْرِ صَلاةٍ لإِخْلالِهِ بِالْمُرُوءَةِ وَمُخَالَفَتِهِ لِزِيِّ السَّلَفِ؛ وَهَلِ الْمُرَادُ بِهَا خُصُوصُ الْمُغَلَّظَةِ فَلا يُكْرَهُ الِاحْتِزَامُ عَلَى نَحْوِ الْقُفْطَانِ وَالثَّوْبِ الْغَلِيظِ الْمُحَدِّدِ لِلْعَوْرَةِ الْمُخَفَّفَةِ كَالأَلْيَتَيْنِ، أَوْ مَا يَعُمُّ الْمُخَفَّفَةَ فَيُكْرَهُ مَا لَمْ يَكُنْ عَادَةَ قَوْمٍ أَوْ لِشُغْلٍ، وَقُيِّدَتْ كَرَاهَةُ لُبْسِ الْمُحَدِّدِ بِعَدَمِ لُبْسِ شَىْءٍ ءَاخَرَ عَلَيْهِ مَانِعٍ مِنْ ظُهُورِ حَدِّهَا كَقَمِيصٍ أَوْ قَبَاءٍ [الْقَبَاءُ هُوَ الَّذِي يَلْبَسُهُ بَعْضُ أَهْلِ بَيْرُوتَ الْكِبَار يُقَالُ لَهُ (قُمْبَاز) هَذَا مَعْرُوفٌ لِلرِّجَالِ قَدِيـمًا وَحَدِيثًا. أَيَّامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلِفُّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآخَرِ خَيْطٌ رَفِيعٌ يُرْبَطُ بِهِ] أَوْ بُرْنُسٍ [وَالْبُرْنُسُ قَلَنْسُوَةٌ طَوِيلَةٌ وَكَانَ النُّسَّاكُ يَلْبَسُونَهَا فِي صَدْرِ الإِسْلامِ كَمَا فِي مُخْتَارِ الصَّحَاحِ، وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ: الْبُرْنُسُ كُلُّ ثَوْبٍ رَأْسُهُ مِنْهُ مُلْتَزِقٌ بِهِ]». انْتَهَى كَلامُ شَارِحِ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ، وَسَتَرَى فِي أَبْوَابٍ أُخْرَى نُصُوصًا مُشَابِهَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

   وَأَمَّا النَّظَرُ لِلأَجْنَبِيَّةِ فَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنَّ لَكَ النَّظْرَةَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ النَّظْرَةُ الآخِرَةُ» [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ] وَمَعْنَى النَّظْرَةِ الأُولَى أَنَّ الشَّخْصَ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهُ مِنْ دُونِ نِيَّةِ التَّلَذُّذِ إِلَى وَجْهِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ لَوِ اسْتَدَامَ هَذَا النَّظَرَ وَثَبَتَ عَلَيْهِ، أَمَّا النَّظْرَةُ الآخِرَةُ فَهِيَ النَّظْرَةُ بِقَصْدِ التَّلَذُّذِ بِهَا، وَهَذِهِ هِيَ الآخِرَةُ الْمُحَرَّمَةُ.

   وَمِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ لُبْسُ قُفَّازٍ وَلَوْ فِي كَفٍّ وَاحِدَةٍ، وَالْقُفَّازُ شَىْءٌ يُعْمَلُ لِلْكَفِّ وَالأَصَابِعِ يُحْشَى بِقُطْنٍ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ أَزْرَارٌ تُزَرُّ عَلَى السَّاعِدِ مِنْ أَجْلِ الْبَرْدِ، وَلا يَحْرُمُ عَلَيْهَا سَتْرُ الْكَفِّ بِغَيْرِ الْقُفَّازِ كَكُمِّهَا وَخِرْقَةٍ وَلَوْ عَقَدَتْهَا عَلَيْهِ، وَلا يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَضْعُ يَدِهَا فِي جَيْبِهَا لِتُخْرِجَ الْمَالَ مَثَلًا.

   وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِحُرْمَةِ سَتْرِ الْوَجْهِ وَسَتَرَتْ فَلَيْسَ عَلَيْهَا مَعْصِيَةٌ وَلا فِدْيَةٌ، وَلا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ وَضْعُ مَا يُسَمُّونَهُ بِالْكَمَّامَةِ الَّتِي تُغَطِّي الأَنْفَ وَالْفَمَ، أَمَّا الرَّجُلُ فَيَجُوزُ لَهُ، وَلا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمَةِ أَنْ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى وَجْهِهَا وَلَكِنْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تُغَطِّيَ وَجْهَهَا بِالْمِنْشَفَةِ أَوْ بِالْبَطَّانِيَّةِ عِنْدَ النَّوْمِ مَثَلًا وَأَمَّا إِنْ نَشَّفَتْ وَجْهَهَا بِطَرَفِ الْمِنْشَفَةِ بِحَيْثُ لا يُعَدُّ سَتْرًا فَيَجُوزُ، وَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَضَعَ كَفَّيْهَا عَلَى وَجْهِهَا فِي الْوُضُوءِ، وَلا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَلُفَّ خِرْقَةً عَرِيضَةً عَلَى جَبْهَتِهَا أَمَّا الْخَيْطُ الدَّقِيقُ فَيَجُوزُ.

   وَلَوْ سَتَرَتِ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا أَثْنَاءَ لُبْسِهَا لِقَمِيصِهَا بِقَمِيصِهَا فَإِنْ كَانَ حَصَلَ بِإِرَادَتِهَا فَعَلَيْهَا فِدْيَةٌ أَمَّا إِنْ كَانَ بِدُونِ إِرَادَتِهَا فَلَيْسَ عَلَيْهَا فِدْيَةٌ، فَإِذَا أَرَادَتْ لُبْسَهُ فَلْتَضَعْهُ وَهِيَ تُمْسِكُ أَطْرَافَهُ مُجَافِيَةً عَنِ الْوَجْهِ حَتَّى يَتَجَاوَزَ وَجْهَهَا بِلا سَتْرٍ لَهُ. 

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ فَعَلَيْهِ الإِثْمُ وَالْفِدْيَةُ.

   الشَّرْحُ أَنَّ الْفِدْيَةَ فِيهَا تَفْصِيلٌ، فَالْفِدْيَةُ فِي الطِّيبِ وَالدُّهْنِ وَلُبْسِ الْمُحِيطِ وَإِزَالَةِ الشَّعَرِ وَالظُّفْرِ وَالْجِمَاعِ الَّذِي لا يُفْسِدُ الْحَجَّ – وَهُوَ مَا بَعْدَ فِعْلِ اثْنَيْنِ مِنْ طَوَافِ فَرْضٍ وَحَلْقٍ أَوْ تَقْصِيرٍ وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ – وَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ كَالتَّقْبِيلِ بِشَهْوَةٍ شَاةٌ أَوِ التَّصَدُّقُ بِثَلاثَةِ ءَاصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ أَوْ صَوْمُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَيُسَمَّى هَذَا دَمَ تَخْيِيرٍ وَتَقْدِيرٍ.

   وَأَمَّا فِدْيَةُ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الصَّيْدُ لَهُ مِثْلٌ مِنَ الأَنْعَامِ الثَّلاثَةِ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ الْمِثْلُ، مَعَ تَخْيِيرِهِ بَيْنَ ذَبْحِهِ وَتَوْزِيعِهِ لِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَبَيْنَ إِعْطَائِهِمْ طَعَامًا بِقِيمَتِهِ، أَوْ صَوْمِهِ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَيُسَمَّى ذَلِكَ دَمَ تَخْيِيرٍ وَتَعْدِيلٍ لِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ الْقِيمَةِ.
   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَزِيدُ الْجِمَاعُ بِالإِفْسَادِ وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ فَوْرًا وَإِتْمَامِ الْفَاسِدِ، فَمَنْ أَفْسَدَ حَجَّهُ بِالْجِمَاعِ يَمْضِي فِيهِ وَلا يَقْطَعُهُ ثُمَّ يَقْضِي فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ ثُبُوتَ فَسَادِ الْحَجِّ وَوُجُوبَ الْقَضَاءِ فَوْرًا وَلُزُومَ إِتْمَامِ هَذَا النُّسُكِ الْفَاسِدِ هَذِهِ الأَحْكَامُ خَاصَّةٌ بِالإِفْسَادِ بِالْجِمَاعِ قَبْلَ التَّحَلُّلَيْنِ أَيْ قَبْلَ فِعْلِ اثْنَيْنِ مِنَ الثَّلاثَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَشَرْطُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحُرْمَةِ ذَلِكَ وَمُخْتَارًا أَيْ غَيْرَ مُكْرَهٍ وَمُتَعَمِّدًا أَيْ غَيْرَ نَاسٍ لِلإِحْرَامِ، فَأَمَّا الْجَاهِلُ بِحُرْمَةِ الْجِمَاعِ فِي الإِحْرَامِ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ مَثَلًا فَلا يَفْسُدُ حَجُّهُ، وَهَذَا الْحُكْمُ يَثْبُتُ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ النُّسُكُ تَطَوُّعًا عَنِ الْغَيْرِ. وَلا فَرْقَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى هَذَا الْمُفْسِدِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْبَالِغِ وَالصَّغِيرِ أَيْ بَعْدَ بُلُوغِهِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ عَشْرَ مَرَّاتٍ وَأَفْسَدَ الْجَمِيعَ بِمَا ذُكِرَ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا قَضَاءٌ وَاحِدٌ عَنِ الأَوَّلِ، لَكِنْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ [عَشْرَ مَرَّاتٍ] وَهِيَ بَدَنَةٌ أَيْ ذَبْحُ إِبِلٍ فَبَقَرَةٌ فَسَبْعُ شِيَاهٍ مِمَّا يَصِحُّ لِلأُضْحِيَةِ فَإِطْعَامٌ بِقِيمَةِ الْبَدَنَةِ أَيْ تَوْزِيعُ الطَّعَامِ مِمَّا هُوَ غَالِبُ قُوتِ أَهْلِ الْحَرَمِ فَالصِّيَامُ بِعَدَدِ الأَمْدَادِ، فَإِنِ انْكَسَرَ مُدٌّ أَكْمَلَهُ بِصَوْمِ يَوْمٍ، هَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَلْزَمُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَشَرَةِ، فَإِنْ كَانَ قَارِنًا وَأَفْسَدَ النُّسُكَ بِالْجِمَاعِ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَقِبَ النَّفْرِ مِنْ مِنًى فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْفَوْرُ فِي قَضَائِهَا.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَالْمِيقَاتُ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي عَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُحْرَمَ مِنْهُ كَالأَرْضِ الَّتِي تُسَمَّى ذَا الْحُلَيْفَةِ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ يَمُرُّ بِطَرِيقِهِمْ.

   الشَّرْحُ أَنَّ هَذَا شُرُوعٌ فِي الْوَاجِبَاتِ وَهِيَ فِي بَابِ الْحَجِّ مَا يُجْبَرُ بِدَمٍ وَلا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِتَرْكِهِ كَمَا لا يَحْصُلُ الْحَجُّ بِتَرْكِ الرُّكْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْوَاجِبِ فِي غَيْرِ بَابِ الْحَجِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَّا الْحَنَفِيَّةَ. وَهِيَ أَيْ وَاجِبَاتُ الْحَجِّ أُمُورٌ وَمِنْهَا الإِحْرَامُ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَمِيقَاتُ مَنْ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ خَمْسَةُ أَمَاكِنَ.

   مِيقَاتُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ يَمُرُّ بِطَرِيقِهِمْ إِلَى مَكَّةَ وَهُوَ ذُو الْحُلَيْفَةِ وَبِهَا الْيَوْمَ مَسْجِدٌ كَبِيرٌ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْمَدِينَةِ (وَيُسَمُّونَهُ الْيَوْمَ أَبْيَارَ عَلِيٍّ).

   وَمِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَمَنْ يَمُرُّ بِطَرِيقِهِمُ الْجُحْفَةُ هَذَا إِذَا لَمْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ الْمَدِينَةِ كَأَنْ جَاؤُوا مِنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمُرُّوا بِالْمَدِينَةِ.

   وَمِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدِ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ قَرْنٌ وَهُوَ قَرْنُ الثَّعَالِبِ وَهُوَ عَلَى مَرْحَلَةٍ مِنْ مَكَّةَ.

   وَمِيقَاتُ أَهْلِ تِهَامَةِ الْيَمَنِ وَمَنْ يَمُرُّ بِطَرِيقِهِمْ وَهُوَ يَلَمْلَم وَيُقَالُ لَهُ أَلَمْلَم، وَهِيَ تَبْعُدُ مِنْ مَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ. وَالتِّهَامَةُ هِيَ الأَرْضُ الْمُنْخَفِضَةُ.

   وَمِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَمَنْ يَمُرُّ بِطَرِيقِهِمْ وَهُوَ ذَاتُ عِرْقٍ.

   وَالأَفْضَلُ لِمَنْ تَكُونُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى مَكَّةَ أَنْ يُحْرِمَ مِنْهَا، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ صَحَّ، وَلا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهَا بِلا إِحْرَامٍ. وَلَوْ مَرَّ مِنْ مِيقَاتِ غَيْرِ بَلَدِهِ لا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُ إِحْرَامِهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ إِلَى مِيقَاتِ بَلَدِهِ. وَالإِحْرَامُ مِنْ أَوَّلِ الْمِيقَاتِ أَفْضَلُ مِنَ الإِحْرَامِ مِنْ وَسَطِهِ أَوْ ءَاخِرِهِ.

   وَمَنْ جَاوَزَ أَحَدَ الْمَوَاقِيتِ إِلَى جِهَةِ مَكَّةَ مُرِيدًا النُّسُكَ وَلَوْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ بِلا إِحْرَامٍ وَلَيْسَ فِي نِيَّتِهِ الْعَوْدُ إِلَيْهِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِالنُّسُكِ عَصَى وَوَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ الإِحْرَامِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِنُسُكٍ كَطَوَافِ الْقُدُومِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ؛ أَمَّا مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَهُوَ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلنُّسُكِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَعْمَلَ النُّسُكَ فَمِيقَاتُهُ مَحَلُّهُ، كَأَنْ جَاءَ مِنْ مِصْرَ أَوِ الشَّامِ إِلَى جُدَّةَ بِنِيَّةِ زِيَارَةِ قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ حَصَلَتْ لَهُ نِيَّةُ النُّسُكِ فَمِيقَاتُهُ جُدَّة. وَيَسْقُطُ الدَّمُ عَمَّنْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَهُوَ مُرِيدٌ لِلنُّسُكِ بِعَوْدِهِ إِلَى مِثْلِ مِيقَاتِهِ الَّذِي تَرَكَ الإِحْرَامَ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ الْمَسَافَةُ.

   وَمِيقَاتُ الْمَكِّيِّ لِلْحَجِّ مَكَّةُ أَيْ يُحْرِمُ مِنْهَا لِلْحَجِّ، وَأَمَّا لِلْعُمْرَةِ فَمِيقَاتُهُ مَا كَانَ خَارِجَ حُدُودِ الْحَرَمِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَ، فَلا يَجُوزُ لِلْمَكِّيِّ أَنْ يُحْرِمَ لِلْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ بَلْ يَخْرُجُ إِلَى أَدْنَى الْحِلِّ أَيْ إِلَى خَارِجِ الْحَرَمِ، وَالْحَرَمُ مِسَاحَتُهُ نَحْوُ عِشْرِينَ كِيلُو مِتْرًا. فَمَا وَرَاءَ هَذَا الْحَرَمِ يُقَالُ لَهُ حِلٌّ. لَكِنْ الأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ وَهِيَ مَكَانٌ فِي طَرِيقِ الطَّائِفِ ثُمَّ مِنَ التَّنْعِيمِ ثُمَّ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ قَبْلَ مَكَّةَ بِنَحْوِ عِشْرِينَ كِيلُو مِتْرًا، وَأَمَّا التَّنْعِيمُ فَقَدْ صَارَ الْيَوْمَ كَأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِمَكَّةَ .

   هَذِهِ الْمَوَاقِيتُ تُسَمَّى الْمِيقَاتَ الْمَكَانِيَّ، فَإِذَا عَمِلَ الْعُمْرَةَ وَأَحْرَمَ لَهَا مِنْ مَكَّةَ صَحَّ مَعَ الإِثْمِ لَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ أَيْ يَذْبَحُ، فَلَوْ أَحْرَمَ لَهَا مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْحِلِّ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِنُسُكٍ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ .

   أَمَّا الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ فَهُوَ لِلْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ [شَوَالٌ كَانَ لِلُقَاحِ الإِبِلِ، وَذُو الْقَعْدَةِ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنِ الْحَرْبِ الْعَرَبُ الْجَاهِلِيَّةُ لِذَلِكَ سَمَّوْهُ ذَا الْقَعْدَةِ] وَذُو الْحِجَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/197]. وَالْقَدْرُ الَّذِي هُوَ مِيقَاتٌ زَمَانِيٌّ مِنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ هُوَ مِنْ أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ إِلَى فَجْرِ لَيْلَةِ الْعِيدِ، وَبِانْتِهَاءِ لَيْلَةِ الْعِيدِ يَفُوتُ الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ لِلْحَجِّ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَمِيقَاتُهَا الزَّمَانِيُّ الأَبَدُ، لَكِنْ يَحْرُمُ الإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ عَلَى مَنْ قَدْ أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ مِنْهَا وَعَلَى مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ وَلَمْ يَنْفِرْ مِنْ مِنًى نَفْرًا صَحِيحًا وَالنَّفْرُ الصَّحِيحُ يَكُونُ بِالْخُرُوجِ مِنْ مِنًى قَبْلَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِي الْحَجِّ مَبِيتُ مُزْدَلِفَةَ عَلَى قَوْلٍ .

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَقَطْ دُونَ الْعُمْرَةِ مَبِيتَ الْحَاجِّ أَيْ مُرُورَهُ فِي شَىْءٍ مِنْ أَرْضِ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ وَلَوْ لَحْظَةً وَنَائِمًا، وَيَسْقُطُ عَمَّنْ لَهُ عُذْرٌ كَأَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرَّعْيِ. وَلِلإِمَامِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِأَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ سُنَّةٌ لَيْسَ وَاجِبًا، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَارِكُهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِثْمٌ وَلا دَمٌ، وَيَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمِنًى عَلَى قَوْلٍ وَلا يَجِبَانِ عَلَى قَوْلٍ .

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ الْمَبِيتَ بِمِنًى، وَلَيْسَ الْمُرَادُ جَمِيعَ اللَّيْلِ بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مُعْظَمَ اللَّيْلِ أَيْ لَيْلَةِ الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالثَّانِي لِمَنْ خَرَجَ مِنْ مِنًى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ الْغُرُوبِ، أَمَّا مَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا فَأَدْرَكَهُ غُرُوبُ لَيْلَةِ ثَالِثِ التَّشْرِيقِ وَهُوَ بِمِنًى وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِهَا، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هَذَا النَّفْرُ أَيْ مُغَادَرَةُ مِنًى بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الْمَغْرِبِ. وَيَسْقُطُ وُجُوبُ هَذَا الْمَبِيتِ عَنْ أَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرَّعْيِ .

   وَهَذَا الْمَبِيتُ فِيهِ قَوْلٌ لِلإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ سُنَّةٌ لَيْسَ وَاجِبًا، فَعَلَى قَوْلِ عَدَمِ الْوُجُوبِ لا إِثْمَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ وَلا دَمَ.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقْبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَرَمْيُ الْجَمَرَاتِ الثَّلاثِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَحْدَهَا يَوْمَ النَّحْرِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بِنِصْفِ اللَّيْلِ وَيَبْقَى إِلَى ءَاخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَرَمْيَ الْجَمَرَاتِ الثَّلاثِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَاللَّتَيْنِ قَبْلَهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ بَعْدَ الزَّوَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ سَبْعًا، وَالرَّمْيُ لا خِلافَ فِي وُجُوبِهِ. وَيَجُوزُ لِمَنْ أَخَّرَ رَمْيَ الْيَوْمِ الأَوَّلِ وَالثَّانِي إِلَى الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يَرْمِيَ قَبْلَ زَوَالِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ عَنِ الْيَوْمِ الأَوَّلِ وَالثَّانِي. وَتَأْخِيرُ رَمْيِ الْجَمَرَاتِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِلا عُذْرٍ مَكْرُوهٌ، وَإِلَّا فَلا كَرَاهَةَ. وَمَنْ رَمَى عَنِ الْيَوْمِ الأَوَّلِ وَالثَّانِي وَخَرَجَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ مِنًى قَبْلَ الْغُرُوبِ كَفَاهُ ذَلِكَ وَلا يَرْمِي الْيَوْمَ الثَّالِثَ.

   أَمَّا جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ فَهِيَ الَّتِي تَكُونُ أَقْرَبَ الْجَمَرَاتِ الثَّلاثِ إِلَى مَكَّةَ، أَمَّا الْجَمْرَتَانِ الأُولَيَانِ فَهُمَا أَقْرَبُ إِلَى جِهَةِ مُزْدَلِفَةَ، فَالأُولَى مِنْهُمَا تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَالثَّانِيَةُ تَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ. وَهَذِهِ الْجَمَرَاتُ الثَّلاثُ جَاءَ فِي الأَثَرِ أَنَّ الشَّيْطَانَ ظَهَرَ لإِبْرَاهِيمَ لِيُوَسْوِسَ لَهُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَيَصُدَّهُ عَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَرَمَاهُ بِالْحَصَى إِهَانَةً لَهُ، وَنَحْنُ مَعَاشِرَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أُمِرْنَا بِهَذَا الرَّمْيِ إِحْيَاءً لِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَفِي ذَلِكَ رَمْزٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ مُخَالَفَةِ الشَّيْطَانِ وَإِهَانَتِهِ وَكَأَنَّ الرَّامِيَ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ لِلشَّيْطَانِ «لَوْ ظَهَرْتَ لَنَا كَمَا ظَهَرْتَ لإِبْرَاهِيمَ لَرَمَيْنَاكَ إِهَانَةً لَكَ». وَلَيْسَتْ هَذِهِ الأَمَاكِنُ مَسْكَنًا لِلشَّيْطَانِ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسُ. فَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّ إِبْلِيسَ سَاكِنٌ هُنَاكَ غَلَطٌ بَلْ وَرَدَ أَنَّ لَهُ عَرْشًا عَلَى الْمَاءِ أَيِ الْبَحْرِ مِنْ هُنَاكَ يُرْسِلُ جَمَاعَتَهُ، وَأَكْرَهُ النَّاسِ إِلَى إِبْلِيسَ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَوْلِيَاءُ فَلَوْلا حِفْظُ اللَّهِ لَهُمْ لَقَتَلَ كُلَّ نَبِيٍّ وَوَلِيٍّ.

وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الرَّمْيِ:

  • تَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ [فِيمَا بَعْدَ مَسْجِدِ الْخَيْفِ إِلَى جِهَةِ الْجَبَلِ وَرَدَ أَثَرٌ بِأَنَّ ءَادَمَ دُفِنَ هُنَاكَ لَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ عَلامَةٌ. وَوَرَدَ الأَثَرُ أَيْضًا بِأَنَّ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ دُفِنَ تَحْتَ الْحِجْرِ أَيْ بِمَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فَمَاذَا تَقُولُ الْوَهَّابِيَّةُ فِي هَذَا هَلْ يُحَرِّمُونَ الصَّلاةَ فِي الْحِجْرِ]، ثُمَّ يَرْمِي الَّتِي تَلِيهَا وَهِيَ الْوُسْطَى، ثُمَّ يَخْتِمُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الَّتِي رَمَاهَا الْحَاجُّ يَوْمَ الْعِيدِ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ لا بُدَّ مِنْهُ حَتَّى لِمَنْ أَخَّرَ رَمْيَ الْجِمَارِ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. فَلا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْمِيَ عَنِ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ مَثَلًا ثَلاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ عَنِ الأَيَّامِ الثَّلاثَةِ ثُمَّ يَنْتَقِلَ إِلَى الْوُسْطَى وَهَكَذَا. وَمَنْ رَمَى الْجَمْرَةَ الأُولَى أَوَّلَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُكْمِلَ مِنْ شِدَّةِ الزَّحْمَةِ فَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي يُكْمِلُ مِنَ الْوُسْطَى.
  • وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمَرْمِيِّ بِهِ حَجَرًا وَلَوْ يَاقُوتًا .
  • وَأَنْ يُسَمَّى رَمْيًا، فَلا يَكْفِي الْوَضْعُ .
  • وَكَوْنُهُ بِالْيَدِ لا بِنَحْوِ رِجْلٍ وَقَوْسٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّمْيِ بِالْيَدِ .
  • وَعَدَمُ الصَّارِفِ، أَيْ أَنْ لا يَنْوِيَ بِهَذَا الرَّمْيِ غَيْرَهُ فَلَوْ قَصَدَ بِهِ تَمْرِينَ يَدِهِ عَلَى جَوْدَةِ الرَّمْيِ لَمْ يَصِحَّ .
  • وَقَصْدُ الْمَرْمَى، فَلَوْ قَصَدَ غَيْرَهُ كَأَنْ قَصَدَ رَمْيَ حَيَّةٍ لَمْ يَصِحَّ، قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ «لَوْ قَصَدَ رَمْيَ الْعَلَمِ الْمَنْصُوبِ فِي الْجَمْرَةِ أَيْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يَكْفِ» وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْمَى ثَلاثَةُ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنَ الْجَمْرَتَيْنِ الأُولَى وَالْوُسْطَى وَمِنْ قُبَالَةِ الْعَلَمِ الْمَنْصُوبِ فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَلا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْحَصَاةِ فِي الْمَرْمَى فَلا يَضُرُّ تَدَحْرُجُهَا أَوْ خُرُوجُهَا بَعْدَ الْوُقُوعِ فِي الْمَرْمَى، وَلَوْ رَمَى بِقَصْدِ الْمَرْمَى فَاصْطَدَمَتِ الْحَصَاةُ الْمَرْمِيَّةُ بِالأَرْضِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ أَوْ بِعُنُقِ بَعِيرٍ أَوْ ثَوْبِ إِنْسَانٍ ثُمَّ ارْتَدَّتْ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى اعْتُدَّ بِهَا، وَلَوْ شَكَّ فِي وُقُوعِ الْحَصَاةِ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا. وَلَوْ رَمَى بِمَا رَمَى بِهِ غَيْرُهُ أَجْزَأَهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. وَالْمُوَكَّلُ بِالرَّجْمِ عَنْ غَيْرِهِ يَرْمِي الأُولَى أَوَّلًا عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ عَنِ الْمُوَكِّلِ ثُمَّ الْوُسْطَى عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ عَنِ الْمُوَكِّلِ وَهَكَذَا. وَلا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الرَّجْمِ إِلَّا لِمَنْ خَشِيَ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ. وَمَنِ ارْتَكَبَ الْكَبَائِرَ قَبْلَ الرَّمْيِ لا يَكُونُ حَجُّهُ مَبْرُورًا. وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ كُلِّهَا يَكْفِيهِ فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ .

   وَمَا رَوَاهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ مِنْ أَنَّ حَصَيَاتِ الْجِمَارِ وَاصِلَةٌ إِلَى وَجْهِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَطْلُعُ لِكُلِّ حَاجٍّ مِنْ مَحَلِّ مَا طَلَعَ لِآدَمَ ثُمَّ لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ فَإِذَا رَمَى الْجِمَارَ شُدِخَ رَأْسُهُ حَتَّى يَحْتَبِسَ فَلا أَصْلَ لَهُ .

   وَقَدْ وَرَدَ [فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى] أَنَّ الَّذِي يُقْبَلُ حَجُّهُ تَرْفَعُ الْمَلائِكَةُ حَصَاهُ، وَلَكِنْ لَيْسَ شَرْطًا أَنْ تُرْفَعَ فَوْرًا. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَخَّرَ الْمَلائِكَةَ لِنَفْعِ بَنِي ءَادَمَ مَنْ قُبِلَ حَجُّهُ الْمَلائِكَةُ يَرْفَعُونَ حَصَيَاتِهِ وَلَوْلا ذَلِكَ لَكَانَ الْمَرْمَى جَبَلًا عَظِيمًا .

   وَيُسَنُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يُكَبِّرَ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ ثُمَّ يُسْهِلُ فَيَقُومُ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ثُمَّ يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ يَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ».

   وَمَنْ رَمَى وَحَلَقَ فَقَدْ تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَ الأَوَّلَ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمُ الطِّيبُ وَكُلُّ شَىْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ».

   وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَارْتِفَاعِهَا قَدْرَ رُمْحٍ. وَالصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ فِي كَيْفِيَّةِ وُقُوفِهِ لِيَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ أَنْ يَقِفَ تَحْتَهَا فِي بَطْنِ الْوَادِي فَيَجْعَلَ مَكَّةَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ وَيَسْتَقْبِلَ الْعَقَبَةَ ثُمَّ يَرْمِي.

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَطَوَافُ الْوَدَاعِ عَلَى قَوْلٍ فِي الْمَذْهَبِ.

   الشَّرْحُ أَنَّ هَذَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَرَادَ مُفَارَقَةَ مِنًى عَقِبَ النَّفْرِ إِلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ أَوْ إِلَى وَطَنِهِ أَوْ مَا يُرِيدُ تَوَطُّنَهُ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ بِعَدَمِ وُجُوبِهِ وَعَلَيْهِ فَلا إِثْمَ عَلَى تَارِكِهِ وَلا دَمَ .

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهَذِهِ الأُمُورُ السِّتَّةُ مِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا لا يَفْسُدُ حَجُّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمٌ وَفِدْيَةٌ، بِخِلافِ الأَرْكَانِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا فَإِنَّ الْحَجَّ لا يَحْصُلُ بِدُونِهَا وَمَنْ تَرَكَهَا لا يَجْبُرُهُ دَمٌ أَيْ ذَبْحُ شَاةٍ .

   الشَّرْحُ أَنَّهُ يَجِبُ بِتَرْكِ الإِحْرَامِ مِنَ الْمِيقَاتِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ دَمٌ وَهُوَ شَاةٌ، فَإِنْ عَجَزَ فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ثَلاثَةٍ فِي الْحَجِّ أَيْ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا يُسَمَّى دَمَ تَرْتِيبٍ وَتَقْدِيرٍ وَهُوَ مِثْلُ دَمِ التَّمَتُّعِ وَهُوَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيَعْمَلَهَا ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إِلَى مِيقَاتٍ مِنَ الْمَوَاقِيتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/196] .

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَحْرُمُ صَيْدُ الْحَرَمَيْنِ وَنَبَاتُهُمَا عَلَى مُحْرِمٍ وَحَلالٍ وَتَزِيدُ مَكَّةُ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ، فَلا فِدْيَةَ فِي صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَقَطْعِ نَبَاتِهَا. وَحَرَمُ الْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ جَبَلِ عَيْرٍ وَجَبَلِ ثَوْرٍ.

   الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الْحَرَمَيْنِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ وَالْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ وَحُرْمَةَ قَطْعِ الشَّجَرِ أَوِ الْقَلْعِ، وَوُجُوبَ الْفِدْيَةِ فِي الصَّيْدِ وَالشَّجَرِ لَكِنْ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ خَاصٌّ بِحَرَمِ مَكَّةَ أَمَّا حَرَمُ الْمَدِينَةِ فَيَحْرُمُ صَيْدُهُ وَشَجَرُهُ لَكِنْ بِلا فِدْيَةٍ، وَكَذَلِكَ وَجُّ الطَّائِفِ وَهُوَ وَادٍ بِالطَّائِفِ .

   أَمَّا بَيْتُ الْمَقْدِسِ فَلَيْسَ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ وَلا يُسَمَّى حَرَمًا كَمَا شَاعَ عَلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَسْجِدٌ لَهُ الأَفْضَلِيَّةُ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، لِأَنَّ الصَّلاةَ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلاةٍ .

   وَأَمَّا صَيْدُ مَكَّةَ وَشَجَرُهَا فَفِيهِ فِدْيَةٌ أَيْ ضَمَانٌ، فَمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مِنْ صَيْدِ حَرَمِ مَكَّةَ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَيْ شَبَهٌ فِي الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ ذَلِكَ الْمِثْلَ وَيُوَزِّعَهُ لِفُقَرَاءِ الْحَرَمِ، وَلا يَكْفِي ذَبْحُهُ بِغَيْرِ أَرْضِ الْحَرَمِ الشَّامِلِ لِمَكَّةَ وَمَا يَلِيهَا مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا مِنْ كُلِّ مَا دَخَلَ فِي حُدُودِ الْحَرَمِ فَمَكَّةُ مُكْتَنَفَةٌ بِذَلِكَ، وَلا يَكْفِي تَوْزِيعُ لَحْمِ الذَّبِيحَةِ لِغَيْرِ مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَا يَجِبُ مِنَ الذَّبْحِ لا يَكْفِي تَمْلِيكُ تِلْكَ الذَّبِيحَةِ لِغَيْرِ مَسَاكِينِ الْحَرَمِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْتَوْطِنُونَ بِأَرْضِ الْحَرَمِ وَالْغُرَبَاءُ .

   وَأَمَّا حُكْمُ قَطْعِ شَجَرَةِ الْحَرَمِ فَفِي الْكَبِيرَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُقَارِبُ سُبُعَ الْكَبِيرَةِ شَاةٌ، وَفِي مَا دُونَ ذَلِكَ قِيمَتُهَا.

   فَائِدَةٌ مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَخَافَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الْحَجِّ يَقُولُ عِنْدَ النِّيَّةِ «نَوَيْتُ الْحَجَّ وَأَحْرَمْتُ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَحِلِّي حَيْثُمَا حَبَسَنِي حَابِسٌ إِذَا حَبَسَنِي» ثُمَّ إِنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجِّ حَائِلٌ بَعْدَمَا أَحْرَمَ يَتَحَلَّلُ بِحَلْقِ شَعَرِ رَأْسِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ وَلا يَلْزَمُهُ الذَّبْحُ.

   كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَأَنَا شَاكِيَةٌ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي» اهـ.

   وَيَجُوزُ التَّحَلُّلُ أَيْ فَكُّ الإِحْرَامِ أَيْ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ لِلْمُحْصَرِ وَهُوَ الَّذِي مَنَعَهُ الْعَدُوُّ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ فَهَذَا بِالْحَلْقِ وَالذَّبْحِ يَنْوِي التَّحَلُّلَ عِنْدَمَا يَذْبَحُ وَعِنْدَمَا يَحْلِقُ يَنْوِي بِقَلْبِهِ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الإِحْرَامِ. فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الذَّبْحِ فَطَعَامٌ بِنِيَّتِهِ أَيْ إِنْ عَجَزَ عَنِ الذَّبْحِ يَدْفَعُ طَعَامًا بِقِيمَةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَبْحُهُ يَشْتَرِي الْقَمْحَ إِنْ كَانَ هُنَاكَ، فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ أَغْلَبُ قُوتِ أَهْلِ الْحَرَمِ الْقَمْحُ وَلا يَشْتَرِي الْخُبْزَ بَلْ يَشْتَرِي الْقَمْحَ وَيُوَزِّعُهُ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ، فَإِنْ عَجَزَ فَيَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا أَيْ بِعَدَدِ أَمْدَادِ الطَّعَامِ يَصُومُ .

   وَلَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ حَالًا أَيْ فِي الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الإِحْصَارُ وَلَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَنْتَظِرَ مُدَّةً .نَعَمْ إِنْ تَيَقَّنَ الْحَاجُّ زَوَالَ الْحَصْرِ فِي مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ إِدْرَاكَ الْحَجِّ بَعْدَهَا امْتَنَعَ تَحَلُّلُهُ، وَكَذَا الْمُعْتَمِرُ إِذَا تَيَقَّنَ قُرْبَ زَوَالِهِ وَهُوَ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ.

   وَلا إِعَادَةَ عَلَى مُحْصَرٍ مُتَطَوِّعٍ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا مُسْتَقِرِّا كَحَجَّةِ الإِسْلامِ بَعْدَ السَّنَةِ الأُولَى مِنْ سِنِيِّ الإِمْكَانِ وَكَالْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ فَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ أَيْ يَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ إِلَى أَنْ يَسْتَطِيعَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ كَحَجَّةِ الإِسْلامِ فِي السَّنَةِ الأُولَى مِنْ سِنِيِّ الإِمْكَانِ اعْتُبِرَتِ الإِسْتَطَاعَةُ بَعْدَ زَوَالِ الإِحْصَارِ إِنْ وُجِدَتْ وَجَبَ وَإِلَّا فَلا.

   وَعَلَى مَنْ فَاتَهَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ تَحَلُّلٌ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ وَدَمٍ وَإِعَادَةٌ .فَإِنْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلاهُ جَازَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ لِأَنَّ تَقْرِيرَهُ عَلَى الإِحْرَامِ يُعَطِّلُ مَنَافِعَهُ عَلَيْهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالتَّحَلُّلِ فَيَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ فَيَحْلِقُ وَيَنْوِي التَّحَلُّلَ وَيَصُومُ لِأَنَّهُ لا يَمْلِكُ مَا يُهْدِي أَوْ يُطْعِمُ، فَإِنْ أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ، وَالْمُبَعَّضُ كَالْقِنِّ.

   وَإِنْ أَحْرَمَتِ الْمَرْأَةُ بِحَجِّ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا جَازَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِأَنَّ تَقْرِيرَهَا عَلَيْهِ يُعَطِّلُ حَقَّهُ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَأْمُرُهَا بِالتَّحَلَّلِ فَتَأْتِي بِمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ الْمُحْصَرُ، فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيلُهَا. وَفِي حَجِّ الإِسْلامِ إِذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ قَوْلانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِمَا ذَكَرُوا، وَالثَّانِي لا.