كِتَابُ الْجَنَائِزِ
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَصْلٌ: غَسْلُ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا كَانَ مُسْلِمًا وُلِدَ حَيًّا، وَوَجَبَ لِذِمِّيٍّ تَكْفِينٌ وَدَفْنٌ.
الشَّرْحُ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، فَإِذَا مَاتَ مَيِّتٌ مُسْلِمٌ ثُمَّ أُهْمِلَ تَجْهِيزُهُ فَلَمْ يُجَهَّزْ فَظَلَّ عَلَى الأَرْضِ حَتَّى انْتَفَخَ وَأَنْتَنَتْ رَائِحَتُهُ أَثِمَ كُلُّ مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ نِسَاءٍ، هَذَا الْحُكْمُ شَامِلٌ لِلْجَمِيعِ.
أَمَّا غَيْرُ الْمُسْلِمِ فَلا يَجِبُ لَهُ ذَلِكَ فَمَنْ عَلِمَ بِمَوْتِ الْكَافِرِ فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِثْمٌ، إِلَّا أَنَّ الْكَافِرَ الذِّمِّيَّ يَجِبُ تَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ فَقَطْ فَلا تَجُوزُ الصَّلاةُ عَلَيْهِ وَلا يَجِبُ غَسْلُهُ فَلَوْ غُسِّلَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِثْمٌ، فَهَذَا الْكَافِرُ الذِّمِّيُّ إِذَا مَاتَ لَهُ حَقُّ التَّكْفِينِ وَالدَّفْنِ لَكِنَّهُ لا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرَكَ مَالًا يُكَفَّنُ بِهِ وَيُجَهَّزُ بِهِ لِلدَّفْنِ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ ذَلِكَ فَعَلَى أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمَّا الْمُرْتَدُّ وَهُوَ الَّذِي قَطَعَ الإِسْلامَ بِانْتِمَائِهِ لِدِينٍ مِنَ الأَدْيَانِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الإِسْلامِ أَوْ بِأَنْ سَبَّ اللَّهَ أَوْ سَبَّ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ أَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ كُفْرِهِ إِلَى الإِسْلامِ بِالشَّهَادَةِ فَلَيْسَ لَهُ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لَوْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ أَوْ فَرْعٌ مُسْلِمٌ فَلا يَسْتَحِقُّ إِذَا مَاتَ عَلَى قَرِيبِهِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَدْفِنَهُ وَلا أَنْ يُكَفِّنَهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لِلْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ذَنْبٌ لَكِنَّهُ يُسَنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا يَكْفِي النَّاسَ رَائِحَتَهُ الْكَرِيهَةَ.
أَمَّا الْوَاجِبُ فِي الْغَسْلِ فَهُوَ تَعْمِيمُ جَسَدِهِ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ بِالْمَاءِ الْمُطَهِّرِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَمَا زَادَ عَلَى الْغَسْلَةِ الْوَاحِدَةِ فَهُوَ سُنَّةٌ، فَيَجِبُ غَسْلُ الْغَرِيقِ وَلا يُكْتَفَى بِغَرَقِهِ، كَذَلِكَ قَاتِلُ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ وَقَاتِلُ نَفْسِهِ، وَالأَفْضَلُ تَثْلِيثُ غَسْلِهِ.
ثُمَّ إِنَّ هُنَاكَ سُنَنًا لِغَسْلِ الْمَيِّتِ مِنْهَا
(1) أَنْ يُبْدَأَ بِغَسْلِ رَأْسِهِ، ثُمَّ إِفَاضَةِ الْمَاءِ لِيُغْسَلَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ أَيْ مِنْ جِهَةِ الْوَجْهِ، ثُمَّ شِقُّهُ الأَيْسَرُ، ثُمَّ شِقُّهُ الأَيْمَنُ مِنْ خَلْفٍ، ثُمَّ شِقُّهُ الأَيْسَرُ مِنْ خَلْفٍ هَذَا التَّرْتِيبُ أَفْضَلُ.
(2) وَأَنْ يُجَعَلَ فِي مَائِهِ سِدْرٌ أَوْ نَحْوُهُ وَذَلِكَ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ اللَّاتِي تَوَلَّيْنَ غَسْلَ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ أَنْ يَجْعَلْنَ فِي غِسْلِهَا سِدْرًا [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَالْغِسْلُ بِالْكَسْرِ الْمَاءُ يُغْتَسَلُ بِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُغْسَلُ بِهِ الرَّأْسُ مِنْ سِدْرٍ وَخِطْمِيٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا، أَمَّا الْغَسْلُ بِالْفَتْحِ فَهُوَ مَصْدَرُ غَسَلَ يَغْسِلُ، وَأَمَّا الْغُسْلُ بِالضَّمِّ فَهُوَ الِاغْتِسَالُ]، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ سِدْرٌ فَالْخِطْمِيُّ، وَتَحْصُلُ السُّنَّةُ بِالْخِطْمِيِّ مَعَ وُجُودِ السِّدْرِ لَكِنَّ السِّدْرَ أَفْضَلُ لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَهُ. وَالسِّدْرُ شَجَرٌ لَهُ وَرَقٌ يَطْلَعُ مِنْهُ ثَمَرٌ يُؤْكَلُ وَهُوَ نَافِعٌ جِدًّا لِفَكِّ السِّحْرِ إِذَا أُخِذَ مِنْهُ سَبْعُ وَرَقَاتٍ صِحَاحٍ خُضْرٍ وَدُقَّتْ بَيْنَ حَجَرَيْنِ جَيِّدًا ثُمَّ وُضِعَتْ فِي مَاءٍ ثُمَّ قُرِئَ عَلَيْهِ سُورَةُ الإِخْلاصِ وَالْمُعَوِّذَتَانِ وَءَايَةُ الْكُرْسِيِّ وَشَرِبَ الْمَسْحُورُ مِنْهُ ثَلاثَ جَرَعَاتٍ وَاغْتَسَلَ بِالْبَاقِي يَنْفَكُّ السِّحْرُ عَنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَأَمَّا الْخِطْمِيُّ فَهُوَ شَجَرٌ مِنَ الأَشْجَارِ الَّتِي هِيَ صَغِيرَةُ الْحَجْمِ يُؤْخَذُ أَصْلُهَا أَوْ وَرَقُهَا يُنَظِّفُ مِثْلَ الصَّابُونِ، زَهْرُهُ إِلَى الْبَيَاضِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلِسِقْطٍ مَيِّتٍ [وَالسِّقْطُ يَصِحُّ فِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ وَالْكَسْرُ، وَالْمَشْهُورُ كَسْرُ السِّينِ] غَسْلٌ وَكَفَنٌ وَدَفْنٌ وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِمَا.
الشَّرْحُ أَنَّ هَذِهِ الأُمُورَ لا تَجِبُ لِلْمَيِّتِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ مُسْلِمًا قَدْ وُلِدَ حَيًّا بِأَنْ صَرَخَ أَوِ اخْتَلَجَ أَيْ تَحَرَّكَ اخْتِلاجًا اخْتِيَارِيًّا بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَنِ الْبَطْنِ فَهَذَا يَجِبُ لَهُ الأُمُورُ الأَرْبَعَةُ غَسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَالصَّلاةُ عَلَيْهِ وَدَفْنُهُ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ أَمَارَةُ الْحَيَاةِ كَالِاخْتِلاجِ الِاخْتِيَارِيِّ وَالصِّيَاحِ فَلا تَجِبُ الصَّلاةُ عَلَيْهِ لَكِنْ يَجِبُ غَسْلُهُ وَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ، هَذَا إِنْ ظَهَرَ فِيهِ خِلْقَةُ ءَادَمِيٍّ وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ خِلْقَةُ ءَادَمِيٍّ نُدِبَ لَفُّهُ بِخِرْقَةٍ وَدَفْنُهُ وَلا يَجِبَانِ، هَذَا حُكْمُ السِّقْطِ. وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ شَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ [فِي نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ]: «مَتَى بَلَغَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الْكَبِيرِ ظَهَرَتْ فِيهِ أَمَارَةُ الْحَيَاةِ أَمْ لا».
وَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِ: «عَلَيْهِمَا» الضَّمِيرُ فِيهِ يَعُودُ إِلَى الذِّمِّيِّ وَالسِّقْطِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ مَاتَ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ بِسَبَبِهِ كُفِّنَ فِي ثِيَابِهِ فَإِنْ لَمْ تَكْفِهِ زِيدَ عَلَيْهَا وَدُفِنَ وَلا يُغَسَّلُ وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ أَنَّ الشَّهِيدَ لا يَجُوزُ غَسْلُهُ وَلا الصَّلاةُ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْ مَاتَ مُسْلِمًا وَلَوْ غَيْرَ بَالِغٍ أَيْ لَوْ كَانَ أُنْثَى أَوْ عَبْدًا مُسْلِمًا مَمْلُوكًا أَوْ صَبِيًّا فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا وَاحِدًا أَوْ مُرْتَدًّا بِسَبَبِ الْقِتَالِ، فَالْمُسْلِمُ الَّذِي كَانَ مَوْتُهُ بِسَبَبِ الْقِتَالِ وَلَوْ رَمَحَتْهُ دَابَّتُهُ [أَيْ رَفَسَتْهُ بِرِجْلِهَا] فَقَتَلَتْهُ أَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ خَطَأً فِي حَالِ الْقِتَالِ أَوْ عَادَ سِلاحُهُ إِلَيْهِ فَقَتَلَهُ أَوْ سَقَطَ مِنْ دَابَّتِهِ فَمَاتَ فَلَهُ هَذَا الْحُكْمُ، أَمَّا مَنْ مَاتَ بِسِلاحِ الْكَافِرِ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُقَاتِلًا فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَسَائِرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ سَبَبُ مَوْتِهِمْ قِتَالَ الْكُفَّارِ كَالَّذِي مَاتَ بَمَرَضِ بَطْنِهِ وَيُسَمَّى الْمَبْطُونَ كَالإِسْهَالِ وَالْقَوْلَنْجِ وَهُوَ مَرَضٌ يَحْبِسُ الرِّيحَ وَالْغَائِطَ فَإِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ. وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي الْبَطْنِ الأَمْعَاءُ وَالْكُلْيَتَانِ وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَالْمَثَانَةُ وَالْمَعِدَةُ، وَلا يَدْخُلُ فِي الْبَطْنِ الْقَلْبُ وَالرِّئَتَانِ وَالرَّأْسُ.
وَيُسَنُّ أَنْ يُكَفَّنَ الشَّهِيدُ فِي ثِيَابِهِ الْمُلَطَّخَةِ بِالدَّمِ [هَذَا فِي ثِيَابٍ اعْتِيدَ لُبْسُهَا، أَمَّا ثِيَابُ الْحَرْبِ كَدِرْعٍ وَخُفٍّ وَجِلْدٍ فَيَنْدُبُ نَزْعُهَا]، وَلَوْ نُزِعَتْ عَنْهُ ثُمَّ كُفِّنَ بِغَيْرِهَا كَانَ جَائِزًا، فَإِنِ اخْتَلَفَ وَرَثَةُ الشَّهِيدِ فَقَالَ بَعْضٌ تُنْزَعُ عَنْهُ هَذِهِ الثِّيَابُ وَقَالَ بَعْضٌ لا تُنْزَعُ عَنْهُ بَلْ تُتْرَكُ عَلَيْهِ فَلا يُجَابُ الْبَعْضُ الَّذِينَ طَلَبُوا نَزْعَهَا إِنْ كَانَتْ لائِقَةً بِهِ، أَمَّا إِذَا طَلَبَ كُلُّهُمْ نَزْعَهَا فَيُوَافَقُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ ثِيَابُهُ الَّتِي هِيَ مُلَطَّخَةٌ بِالدَّمِ لا تَكْفِيهِ زِيدَ عَلَيْهَا إِلَى ثَلاثٍ وَإِنَّمَا تُرِكَ غَسْلُ الشَّهِيدِ وَالصَّلاةُ عَلَيْهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَهَّرَهُ بِالشَّهَادَةِ وَتَوَلَّاهُ بِرَحْمَتِهِ فَأَغْنَاهُ عَنْ دُعَاءِ الْمُصَلِّينَ. وَلا يُسْأَلُ الشَّهِيدُ فِي قَبْرِهِ وَلِذَلِكَ لا يُلَقَّنُ بَلْ تَصْعَدُ رُوحُهُ إِلَى الْجَنَّةِ فَيَعِيشُ فِي مُنْطَلَقٍ خَاصٍّ فِي الْجَنَّةِ غَيْرِ مُتَبَوَّئِهِ الَّذِي يَتَبَوَّؤُهُ فِي الآخِرَةِ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ أَهْلُ الْقُبُورِ مِنْ قُبُورِهِمْ فَتُرَدُّ رُوحُهُ إِلَى جِسْمِهِ رَدًّا تَامًّا فَيَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ ثُمَّ يَتَبَوَّأُ مَنْزِلَهُ فِي الْجَنَّةِ بِجَسَدِهِ وَرُوحِهِ، وَلا يَأْكُلُ التُّرَابُ جَسَدَهُ لِأَنَّ أَثَرَ الْحَيَاةِ مُتَّصِلٌ بِهِ كَالشَّمْسِ تَكُونُ بَعِيدَةً عَنِ الأَرْضِ وَيَتَّصِلُ أَثَرُهَا بِالأَرْضِ وَتَكُونُ أَرْوَاحُهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِشَكْلِ طُيُورٍ خُضْرٍ [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ]. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي أَجْسَادِ طُيُورٍ تَصِيرُ بِهَذِهِ الأَرْوَاحِ حَيَّةً فِي الْجَنَّةِ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِ التَّنَاسُخِيَّةِ. وَمِمَّا خُصَّ بِهِ الشَّهِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُرْحَهُ يَكُونُ عِنْدَ الْبَعْثِ لَوْنُهُ لَوْنَ الدَّمِ وَرِيْحُهُ رِيحَ الْمِسْكِ عَلامَةً عَلَى أَنَّهُ فَائِزٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ خُصُوصِيَّاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَعُودُوا إِلَى الدُّنْيَا لِيُقَاتِلُوا فَيُقْتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَرَّةً أُخْرَى لِمَا رَأَوْا مِنْ عَظِيمِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، أَمَّا غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ فَلا يُحِبُّ الرُّجُوعَ إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى لَوْ كَانَ تَقِيًّا وَقِيلَ لَهُ اسْتَلِمِ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا مِنْ قَلْبِهِ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» فَمَنْ عَقَدَ قَلْبَهُ عَلَى طَلَبِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ تُكْتَبْ لَهُ الشَّهَادَةُ فَلَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ بِنِيَّتِهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَهَا اعْتِبَارٌ كَبِيرٌ عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَا لَوْ تَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ مِنْ حَلالٍ لِيَصْرِفَهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ يُكْتَبُ لَهُ ثَوَابُ مَنْ صَرَفَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ إِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ جَازِمَةً.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَقَلُّ الْغُسْلِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ وَتَعْمِيمُ جَمِيعِ بَشَرِهِ وَشَعَرِهِ وَإِنْ كَثُفَ مَرَّةً بِالْمَاءِ الْمُطَهِّرِ.
الشَّرْحُ أَنَّ أَقَلَّ غَسْلِ الْمَيِّتِ يَحْصُلُ بِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ إِنْ كَانَتْ عَلَى بَدَنِهِ وَتَعْمِيمِ جَمِيعِ بَشَرِهِ أَيْ جِلْدِهِ وَشَعَرِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيفًا مَرَّةً وَاحِدَةً بِالْمَاءِ الْمُطَهِّرِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ تُصِبْهُ نَجَاسَةٌ وَلا تَغَيَّرَ بِمُخَالِطٍ طَاهِرٍ تَغَيُّرًا كَثِيرًا، فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ مُتَغَيِّرًا تَغَيُّرًا كَثِيرًا فَلا يَكْفِي ذَلِكَ حَتَّى يُصَبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ قَرَاحٌ يَعُمُّ جَسَدَهُ، وَالْقَرَاحُ هُوَ الصَّافِي. وَلا يَجِبُ لِهَذَا الْغَسْلِ نِيَّةٌ بَلْ تُسَنُّ وَلِذَلِكَ لَوْ غَسَّلَهُ كَافِرٌ أَجْزَأَ.
وَيُسَنُّ
وَالأَوْلَى بِغَسْلِ الذَّكَرِ الذُّكُورُ فَلَوْ غَسَلَّتْهُ زَوْجَتُهُ جَازَ لَكِنَّ الذَّكَرَ يُقَدَّمُ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُغَسِّلَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ. وَالأَوْلَى بِالْمَرْأَةِ النِّسَاءُ فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْهَا إِلَّا أَجْنَبِيٌّ وَجَبَ أَنْ تُيَمَّمَ بِحَائِلٍ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَحْضُرْهُ إِلَّا النِّسَاءُ الأَجْنَبِيَّاتُ وَجَبَ أَنْ يُيَمَّمَ بِحَائِلٍ، فَإِذَا خُشِيَ عَلَى الْمَيِّتِ أَنْ يَتَهَرَّى جِسْمُهُ إِنْ غُسِّلَ لِكَوْنِهِ احْتَرَقَ أَوْ لِكَوْنِهِ مَسْمُومًا سَقَطَ غَسْلُهُ [أَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لا يُشْتَهَى يُغَسِّلُهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى].
تَنْبِيهٌ مَنْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ بِشَهْوَةٍ إِلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَوْ عِنْدَ تَغْسِيلِهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِهَا لا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُمُ لَمْسُهَا بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ جِمَاعُهَا.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَقَلُّ الْكَفَنِ سَاتِرُ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَثَلاثُ لَفَائِفَ لِمَنْ تَرَكَ تَرِكَةً زَائِدَةً عَلَى دَيْنِهِ وَلَمْ يُوصِ بِتَرْكِهَا.
الشَّرْحُ أَنَّ أَقَلَّ الْكَفَنِ أَيْ أَقَلَّ وَاجِبٍ فِي تَكْفِينِ الْمَيِّتِ مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ، لَكِنْ يُسْتَثْنَى رَأْسُ مُحْرِمٍ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مَاتَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ مِنَ الإِحْرَامِ فَإِنَّهُ لا يُسْتَرُ رَأْسُهُ بَلْ يُتْرَكُ مَكْشُوفًا [وُجُوبًا] حَتَّى يُبْعَثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِفَتِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يُحْشَرُ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهَيْئَةِ الإِحْرَامِ مُلَبِّيًا أَيْ قَائِلًا لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، وَوَجْهُ الْمَرْأَةِ الْمُحْرِمَةِ أَيْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا مَاتَتْ فِي إِحْرَامِ الْحَجِّ أَوْ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ تَتَحَلَّلَ مِنَ الإِحْرَامِ [أَيْ تَحَلُّلَ الْعُمْرَةِ أَوِ التَّحَلُّلَ الأَوَّلَ فِي الْحَجِّ] لا يُغَطَّى وَجْهُهَا بِالْكَفَنِ بَلْ يُتْرَكُ مَكْشُوفًا. وَتَكُونُ تِلْكَ الثِّيَابُ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ حَيًّا وَتَلِيقُ بِهِ، فَالرَّجُلُ لا يُكَفَّنُ بِالْحَرِيرِ [وَالْحَرِيرُ هُوَ مَا تُخْرِجُهُ الدُّودَةُ الْمَعْرُوفَةُ] إِنَّمَا يُكَفَّنُ بِثَوْبِ قُطْنٍ أَوْ ثَوْبِ كَتَّانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ وَالطِّفْلُ أَيِ الصَّبِيُّ فَيَجُوزُ تَكْفِينُهُمَا بِالْحَرِيرِ لِأَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ لَهُمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِمَا لُبْسُ الْحَرِيرِ.
وَلا يَجُوزُ تَكْفِينُ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ بِثَوْبٍ لا يَلِيقُ بِهِ أَيْ يُزْرِي بِهِ أَيْ يُشْعِرُ بِاحْتِقَارِهِ كَثَوْبِ الْخَيْشِ [أَيِ الْجُنْفَيْصِ بِالْعَامِيَّةِ]، وَلا يَجِبُ تَكْفِينُهُ بِالْجَدِيدِ بَلْ يَكْفِي اللَّبِيسُ وَهُوَ الثَّوْبُ الَّذِي اسْتُعْمِلَ.
وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الْكَفَنُ ثَلاثَ لَفَائِفَ لِلذَّكَرِ وَهِيَ خِرَقٌ تُنْشَرُ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَيْهَا الْمَيِّتُ. وَلِلْمَرْأَةِ قَمِيصٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ وَلِفَافَتَانِ. أَمَّا الْقَمِيصُ فَهُوَ مَا يَسْتُرُ أَغْلَبَ الْجِسْمِ، وَأَمَّا الإِزَارُ فَهُوَ مَا يُلْبَسُ لِلنِّصْفِ الأَسْفَلِ غَيْرُ السَّرَاوِيلِ، وَأَمَّا الْخِمَارُ فَهُوَ مَا تُغَطِّي بِهِ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا، وَأَمَّا اللِّفَافَتَانِ فَهُمَا مَا يُلَفُّ عَلَيْهَا فَوْقَ مَا ذُكِرَ مِنَ الثَّلاثِ. وَالأَفْضَلُ الْبَيَاضُ الْقُطْنُ الْمَغْسُولُ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ الْجَدِيدُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَغْسُولِ وَلِذَلِكَ كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاثٍ جَدِيدَةٍ.
وَالتَّكْفِينُ بِالثَّلاثِ وَاجِبٌ لِمَنْ يُكَفَّنُ مِنْ مَالِهِ وَلا دَيْنَ عَلَيْهِ مُسْتَغْرِقٌ أَيْ يَأْكُلُ لَهُ كُلَّ مَالِهِ، بِأَنْ تَرَكَ تَرِكَةً زَائِدَةً عَلَى دَيْنِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَصْلًا وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ سِوَى هَذِهِ الثَّلاث، قَالَ الْفُقَهَاءُ هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِتَرْكِ التَّكْفِينِ بِالثَّلاثِ أَمَّا إِنْ كَانَ أَوْصَى بِأَنْ يَتْرُكُوا تَكْفِينَهُ بِالثَّلاثِ فَلا تَجِبُ فَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ تُسْتَرَ عَوْرَتُهُ فَقَطْ قَالَ بَعْضُهُمْ فَحِينَئِذٍ الْوَاجِبُ لَهُ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ بِذَلِكَ بَلْ يَجِبُ لَهُ سَاتِرُ جَمِيعِ الْبَدَنِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَقَلُّ الصَّلاةِ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ فِعْلَ الصَّلاةِ عَلَيْهِ وَالْفَرْضَ وَيُعَيِّنَ وَيَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ وَهُوَ قَائِمٌ إِنْ قَدَرَ ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ.
الشَّرْحُ صَلاةُ الْجِنَازَةِ شَفَاعَةٌ لِلْمُصَلَّى عَلَيْهِ مَعْنَاهَا يَا رَبِّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَلَهَا أَقَلُّ وَلَهَا أَكْمَلُ فَالأَقَلُّ هُوَ مَا يَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِ إِذَا مَاتَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، هَذَا مَعْنَى الأَقَلِّ أَيْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ سُنَنُهَا لِأَنَّ صَلاةَ الْجِنَازَةِ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ لَهَا أَقَلُّ أَيْ طَرِيقَةٌ لا تَشْتَمِلُ عَلَى السُّنَنِ وَطَرِيقَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ. فَأَقَلُّ صَلاةِ الْجِنَازَةِ أَيِ الْقَدْرُ الضَّرُورِيُّ الَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ بِحَيْثُ إِذَا تُرِكَ كَانَ النَّاسُ الَّذِينَ عَلِمُوا بِذَلِكَ ءَاثِمِينَ يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ مَعَ التَّكْبِيرِ، فَيُكَبِّرُ الْمُصَلِّي أَيْ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَيَنْوِي فِي قَلْبِهِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاةَ الْجِنَازَةِ عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ إِنْ كَانَ حَاضِرًا، وَالتَّعْيِينِ وَهُوَ فَرْضٌ لِأَنَّ نِيَّةَ مُطْلَقِ الصَّلاةِ مِنْ دُونِ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهَا صَلاةُ الْجِنَازَةِ لا تَكْفِي، فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْوِ بِقَلْبِهِ مَعَ التَّكْبِيرِ بِلِسَانِهِ لا تَصِحُّ هَذِهِ الصَّلاةُ، وَعِنْدَ غَيْرِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ لا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلتَّكْبِيرِ فَلَوْ سَبَقَتْهَا بِقَلِيلٍ مِنَ الزَّمَنِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْوِيَ قَبْلَ التَّكْبِيرِ بِقَلِيلٍ وَلا يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا بِقَلْبِهِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ نِيَّةَ صَلاةِ الْجِنَازَةِ صَحَّتْ عِنْدَ غَيْرِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، أَمَّا عِنْدَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ فَلا تَصِحُّ إِلَّا بِأَنْ يَقْرِنَ النِّيَّةَ الْقَلْبِيَّةَ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ كَمَا هُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
ويُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هَذِهِ الصَّلاةِ الْقِيَامُ أَيْ لا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ، وَهَذَا الْقِيَامُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ رُكْنٌ وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ صَلاةِ الْجِنَازَةِ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ يَقُولُونَ الشَّرْطُ كَذَا وَكَذَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْطَ مَا كَانَ لازِمًا لِصِحَّةِ الشَّىْءِ وَلَيْسَ جُزْءًا مِنْهُ، وَأَنَّ الرُّكْنَ مَا كَانَ لازِمًا لِصِحَّةِ الشَّىْءِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْهُ.
وَمِنْ لَوَازِمِ صَلاةِ الْجِنَازَةِ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ كَمَا أَنَّهَا رُكْنٌ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ قِرَاءَتِهَا فِي الْجِنَازَةِ مَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ قِرَاءَتِهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ إِخْرَاجِ كُلِّ حَرْفٍ مِنْ مَخْرَجِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
تَنْبِيهٌ لا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ عَقِبَ التَّحْرِيْمَةِ لَكِنَّ الأَفْضَلَ أَنْ تُقْرَأَ الْفَاتِحَةُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ التَّحَرُّمِ وَيَجُوزُ تَأْخِيرُهَا لِمَا بَعْدَهَا وَلَوْ أَخَّرَهَا إِلَى مَا بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ أَوِ الْخَامِسَةِ جَازَ [يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي تَكْبِيرَاتِ صَلاةِ الْجِنَازَةِ إِلَى خَمْسٍ].
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ.
الشَّرْحُ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ وَاجِبٌ وَلا يَجُوزُ تَقْدِيـمُهَا وَلا تَأْخِيرُهَا. وَأَقَلُّ الصَّلاةِ عَلَى النَّبِيِّ فِي صَلاةِ الْجِنَازَةِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَأَكْمَلُهَا اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ – بِدُونِ لَفْظِ سَيِّدِنَا أَوْ مَعَهُ – وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ إِلَى ءَاخِرِ صِيغَةِ الصَّلاةِ الإِبْرَاهِيمِيَّةِ.
وَهَلِ الأَفْضَلُ التَّسْوِيدُ أَوْ تَرْكُهُ فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ التَّرْكَ أَفْضَلُ اتِّبَاعًا لِلْوَارِدِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ فِي رِوَايَاتِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَلَّمَهُمُ التَّسْوِيدَ.
فَائِدَةٌ مَا اشْتُهِرَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ وَهُوَ «لا تُسَيِّدُونِي فِي الصَّلاةِ» فَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، مَعَ الْغَلَطِ فِي تُسَيِّدُونِي فَإِنَّ صَوَابَ اللَّفْظِ لُغَةً لا تَسَوِّدُونِي.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ.
الشَّرْحُ أَنَّ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُكَبِّرَ التَّكْبِيرَةَ الثَّالِثَةَ وَيَدْعُوَ بَعْدَهَا لِلْمَيِّتِ بِخُصُوصِهِ بِأَمْرٍ أُخْرَوِيٍّ وَلَوْ بِأَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الدُّعَاءِ. وَلَيْسَ الدُّعَاءُ بِالْمَغْفِرَةِ خَاصًّا بِالْبَالِغِ بَلْ يَكُونُ لِلْمَيِّتِ الطِّفْلِ بِمَعْنَى اللَّهُمَّ اسْتُرْهُ، وَالأَكْمَلُ الدُّعَاءُ الْمَأْثُورُ وَهُوَ «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلامِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيـمَانِ»، هَذَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَهُ فِي الصَّلاةِ عَلَى بَعْضِ الْمَوْتَى. رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
فَائِدَةٌ قَوْلُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ يَقُولُهُ الإِنْسَانُ أَحْيَانًا لِمَحْوِ التَّقْصِيرِ وَأَحْيَانًا لِلتَّرَقِّي فِي الْمَقَامِ وَأَحْيَانًا لِمَحْوِ الْمَعْصِيَةِ، فَالتَّوْبَةُ لَيْسَتْ مِنَ الذَّنْبِ فَقَطْ بَلْ مِنَ التَّقْصِيرِ وَلِمَحْوِ ءَاثَارِ الْقَبِيحِ، الْحَالُ الَّذِي فِيهِ تَقْصِيرٌ يُسْتَغْفَرُ وَيُتَابُ مِنْهُ وَلِلتَّرَقِّي فِي الْمَقَامِ يُسْتَغْفَرُ، الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَانَ يَقُولُ «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ فَيَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ» فَهَذَا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُذْنِبُ الذَّنْبَ ثُمَّ يَطْلُبُ الْمَغْفِرَةَ حَتَّى إِنَّهُ كَانَ يُذْنِبُ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ، لا إِنَّمَا الِاسْتِغْفَارُ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَالِبِ يَكُونُ إِمَّا لِنَحْوِ مَحْوِ التَّقْصِيرِ الَّذِي دُونَ الذَّنْبِ أَوْ لِلتَّرَقِّي مِنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَرْتَبَةٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ ارْفَعْنِي مِنَ الْمَرْتَبَةِ الَّتِي أَنَا فِيهَا إِلَى أَعْلَى، فَالتَّوْبَةُ قَدْ تَكُونُ لِمَحْوِ أَثَرِ فِعْلٍ غَيْرِ لائِقٍ، الطِّفْلُ إِذَا قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مَعْنَاهُ أَذْهِبْ عَنِّي الْخِصَالَ الْقَبِيحَةَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ السَّلامُ عَلَيْكُمْ.
الشَّرْحُ أَنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ الدُّعَاءِ أَنْ يُكَبِّرَ تَكْبِيرًا رَابِعًا وَالسَّلامُ بَعْدَهُ كَسَلامِ الصَّلاةِ، وَأَمَّا الأَكْمَلُ فَهُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الدُّعَاءِ وَلَوْ أَطَالَ فِي ذَلِكَ. وَأَكْمَلُ السَّلامِ أَنْ يَقُولَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يُسَنُّ أَنْ يَزِيدَ وَبَرَكَاتُهُ [انْظُرْ حَاشِيَةَ الشَّبْرَامَلِّسِي عَلَى نِهَايَةِ الْمُحْتَاجِ].
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا بُدَّ فِيهَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلاةِ وَتَرْكِ الْمُبْطِلاتِ.
الشَّرْحُ أَنَّ صَلاةَ الْجِنَازَةِ يُشْتَرَطُ فِيهَا شُرُوطُ الصَّلاةِ الْوَاجِبَةِ مِنَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَالطَّهَارَةِ عَنِ الْحَدَثَيْنِ وَعَنِ النَّجَاسَةِ الَّتِي لا يُعْفَى عَنْهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ، وَلا بُدَّ فِيهَا أَيْضًا مِنْ تَجَنُّبِ الْمُبْطِلاتِ لِلصَّلاةِ فَمَا أَبْطَلَ الصَّلاةَ أَبْطَلَهَا، وَيُنْدَبُ فِعْلُ الْمَنْدُوبَاتِ فِيهَا كَمَا يُنْدَبُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَرَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرَاتِ وَالتَّعَوُّذِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ لَكِنْ لا يُسَنُّ فِيهَا الِافْتِتَاحُ وَلا قِرَاءَةُ السُّورَةِ [يُسَنُّ تَرْكُ دُعَاءِ التَّوَجُّهِ وَالسُّورَةِ لِطُولِهِمَا وَصَلاةُ الْجِنَازَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ] بَلْ يَنْتَقِلُ مِنْ تَكْبِيرَةِ التَّحَرُّمِ إِلَى الِاسْتِعَاذَةِ ثُمَّ الْفَاتِحَةِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَقَلُّ الدَّفْنِ حُفْرَةٌ تَكْتُمُ رَائِحَتَهُ وَتَحْرُسُهُ مِنَ السِّبَاعِ وَيُسَنُّ أَنْ يُعَمَّقَ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ وَيُوَسَّعَ وَيَجِبُ تَوْجِيهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلا يَجُوزُ الدَّفْنُ فِي الْفِسْقِيَّةِ.
الشَّرْحُ الدَّفْنُ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ حُفْرَةٌ تَكْتُمُ رَائِحَتَهُ بَعْدَ طَمِّهِ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ وَتَحْرُسُهُ مِنَ السِّبَاعِ أَنْ تَنْبُشَهُ وَتَأْكُلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ إِلَّا الْبِنَاءُ أَوِ الصُّنْدُوقُ وَجَبَ ذَلِكَ، هَذَا أَقَلُّ الدَّفْنِ، أَمَّا أَكْمَلُهُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَبْرُ وَاسِعًا يَسَعُ مَنْ يُنْزِلُهُ وَمُعِينَهُ، وَأَنْ يَكُونَ قَدْرَ قَامَةٍ وَبَسْطَةٍ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ وَنِصْفٌ بِذِرَاعِ الْيَدِ وَلَوْ لِلطِّفْلِ، وَيُسَنُّ أَنْ يُلْحَدَ لَهُ لَحْدٌ أَيْ أَنْ يُشَقَّ لَهُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ شَقٌّ إِنْ كَانَتِ الأَرْضُ صُلْبةً أَيْ شَدِيدَةً وَأَنْ يُشَقَّ لَهُ شَقٌّ فِي الرِّخْوَةِ أَيِ اللَّيِنَةِ، وَهَذَا الأَفْضَلُ.
وَيُسَنُّ رَفْعُ السَّقْفِ أَيْ سَقْفِ اللَّحْدِ أَوِ الشَّقِّ أَيْ بِأَنْ لا يَكُونَ جَسَدُ الْمَيِّتِ مُلاصِقًا لِسَقْفِ اللَّحْدِ أَوْ لِسَقْفِ الشَّقِّ.
وَيَسْقُطُ وُجُوبُ الدَّفْنِ فِي حَالَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ فِي السَّفِينَةِ فِي الْبَحْرِ فَيَتَعَذَّرُ دَفْنُهُ فِي السَّاحِلِ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ فَيَجُوزُ هُنَا أَنْ يُجْعَلَ بَيْنَ لَوْحَيْنِ وَيُرْمَى فِي الْبَحْرِ بَعْدَ الْغَسْلِ وَالتَّكْفِينِ وَالصَّلاةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ هُنَا أَنْ يُفْعَلَ بِهِ مَا يَرْسُبُ بِهِ فِي الْبَحْرِ أَيْ بِالتَّثْقِيلِ بِحَدِيدٍ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ تُرِكَ ذَلِكَ جَازَ أَيْضًا، فَأَمَّا إِنْ أَمْكَنَ إِيصَالُهُ إِلَى السَّاحِلِ لِيُدْفَنَ فِيهِ قَبْلَ التَّغَيُّرِ فَلا يَجُوزُ إِلْقَاؤُهُ فِي الْبَحْرِ.
وَيَحْرُمُ الدَّفْنُ فِي الْفَسَاقِيِّ – وَالْفَسَاقِيُّ هِيَ جَمْعُ فِسْقِيَّةٍ [الْفِسْقِيَّةُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ عِنْدَ النَّاسِ خَشْخَاشَة] وَالْفِسْقِيَّةُ هِيَ بِنَاءٌ يُبْنَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ تُجْمَعُ فِيهِ الْجَنَائِزُ وَقَدْ يَبْنُونَ فِيهَا طِيقَانًا [الطِّيقَانُ جَمْعُ طَاقٍ وَالطَّاقُ مَا يُحْفَرُ فِي الْجِدَارِ] وَيُوضَعُ كُلُّ مَيِّتٍ فِي طَاقٍ مِنْ هَذِهِ الطِّيقَانِ [هَذِهِ إِحْدَى صُورَتَيِ الْفِسْقِيَّةِ]، وَلَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ فَلا يَجُوزُ تَنْفِيذُ وَصِيَّتِهِ. وَإِنَّمَا حَرُمَ الدَّفْنُ فِي الْفَسَاقِيِّ لِأَنَّ فِيهِ إِدْخَالَ مَيِّتٍ عَلَى ءَاخَرَ قَبْلَ بِلاهُ وَلِأَنَّهَا لا تَمْنَعُ الرَّائِحَةَ فَهِيَ إِهَانَةٌ لِلْمَيِّتِ. وَيُكْرَهُ الدَّفْنُ فِي التَّابُوتِ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الأَرْضُ رِخْوَةً فَلا كَرَاهَةَ.
وَذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ أَنَّهُ يَجِبُ تَوْجِيهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ أَيْ وَلَوْ كَانَ فِي التَّابُوتِ، يَعْنِي أَنَّ مِنْ فَرَائِضِ الْجِنَازَةِ الَّتِي تَتْبَعُ الدَّفْنَ التَّوْجِيهَ إِلَى الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يُضْجَعَ عَلَى جَنْبِهِ الأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ لَكِنَّ إِضْجَاعَهُ عَلَى الأَيْسَرِ خِلافُ السُّنَّةِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ. وَيُسَنُّ إِسْنَادُ وَجْهِهِ وَرِجْلَيْهِ إِلَى جِدَارِ الْقَبْرِ مُجَافِيًا بِبَاقِيهِ كَالرَّاكِعِ وَظَهْرِهِ لِنَحْوِ لَبِنَةٍ [مَا يُصْنَعُ مِنَ الطِّينِ حَتَّى يَيْبَسَ]، وَوَضْعُ لَبِنَةٍ تَحْتَ رَأْسِهِ وَإِفْضَاءُ خَدِّهِ إِلَيْهَا أَوْ إِلَى الأَرْضِ، وَأَنْ يُدْخِلَهُ وِتْرٌ ثَلاثَةٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَأَمَّا أَخْذُ شَىْءٍ مِنْ تُرَابِ الْقَبْرِ ثُمَّ يُقْرَأُ عَلَيْهِ سُورَةُ الْقَدْرِ سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يُوضَعُ فِي الْكَفَنِ أَوْ فِي الْقَبْرِ خَارِجَ الْكَفَنِ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَيُسَنُّ أَنْ يُقَالَ بَعْدَ إِتْمَامِ الدَّفْنِ يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أَمَةِ اللَّهِ – ثَلاثَ مَرَّاتٍ – اذْكُرِ الْعَهْدَ الَّذِي خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا وَبِالْقُرْءَانِ إِمَامًا، فَإِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ انْطَلِقْ بِنَا مَا يُقْعِدُنَا عِنْدَ رَجُلٍ لُقِّنَ حُجَّتَهُ اهـ وَأَمَّا لِلأُنْثَى فَيُقَالُ يَا أَمَةَ اللَّهِ ابْنَةَ أَمَةِ اللَّهِ، أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُخْتَارَةِ. وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ إِسْنَادُهُ ثَابِتٌ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ التَّلْقِينَ كَالْوَهَّابِيَّةِ.
وَالتَّلْقِينُ يُسَنُّ فِي حَقِّ الْبَالِغِ وَلَوْ كَانَ شَهِيدًا أَيْ غَيْرَ شَهِيدِ الْمَعْرَكَةِ عَلَى خِلافٍ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ. أَمَّا أَنَّ هَذَا الشَّخْصَ يَسْلَمُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَهَذَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ لَكِنِ الْمَرْجُوُّ لَهُ أَنَّهُ يَسْلَمُ.
فَائِدَةٌ الْمَنْقُولُ عَنِ السَّلَفِ السُّكُوتُ أَيْ عَنْ غَيْرِ الذِّكْرِ فِي حَالِ التَّشْيِيعِ وَإِنِ اشْتَغَلَ الْمُشَيِّعُونَ بِالتَّهْلِيلِ بِصَوْتٍ جَمَاعِيٍّ فَلا بَأْسَ وَتَحْرِيمُ الْوَهَّابِيَّةِ لِذَلِكَ بَاطِلٌ بَلِ الذِّكْرُ فِيهِ شُغْلُ النَّاسِ عَنِ الْكَلامِ بِالْغِيبَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْكَلامِ الْبَاطِلِ كَمَا يُشَاهَدُ حُصُولُهُ كَثِيرًا فِي هَذَا الزَّمَنِ.
تَنْبِيهَاتٌ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْمُزْرِيَةِ بِالْمَيِّتِ الَّتِي لا تَجُوزُ أَنْ يُكَبَّ الْمَيِّتُ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ الْغَسْلِ فَذَلِكَ حَرَامٌ، وَكَذَلِكَ خِتَانُهُ إِنْ كَانَ غَيْرَ مَخْتُونٍ، وَمِنْ ذَلِكَ حَمْلُهُ عَلَى الأَكْتَافِ مِنْ غَيْرِ نَعْشٍ وَنَحْوِه إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ عَلَى الْيَدِ عِنْدَ الذَّهَابِ بِهِ إِلَى الدَّفْنِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَرْأَةَ الْكِتَابِيَّةَ إِذَا حَمَلَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ وَمَاتَتْ وَالْحَمْلُ فِي بَطْنِهَا لا يَجُوزُ دَفْنُهَا فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ وَلا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ تُدْفَنُ فِي مَكَانٍ غَيْرِ ذَلِكَ وَيُسْتَدْبَرُ بِهَا الْقِبْلَةُ لِيَكُونَ جَنِينُهَا الَّذِي يُجْرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْمُسْلِمِ مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ لِأَنَّ وَجْهَ الْجَنِينِ إِلَى ظَهْرِ الأُمِّ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ رِعَايَةٌ لِلْجَانِبَيْنِ أَيْ رِعَايَةٌ لِجَانِبِ الْجَنِينِ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يُدْفَنْ مَعَ أُمِّهِ فِي مَقَابِرِ الْكُفَّارِ وَلَمْ يُدْفَنْ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِمُرَاعَاةِ حَالِ أُمِّهِ.
وَمِمَّا لا يَجُوزُ فَتْحُ قَبْرِ الْمُسْلِمِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يَعْرِفُ أَهْلُ تِلْكَ الأَرْضِ أَنَّ الْمَيِّتَ بَلِيَتْ أَعْضَاؤُهُ فِيهَا عِنْدَئِذٍ يَجُوزُ فَتْحُ الْقَبْرِ.
وَلَوْ فُتِحَ الْقَبْرُ فَوُجِدَ فِيهِ الْعِظَامُ الْكَبِيرَةُ لا يَجُوزُ الدَّفْنُ فَوْقَهَا كَأَنْ كَانَتْ عِظَامُ الصَّدْرِ أَوِ السَّاقِ أَوِ الْجُمْجُمَةِ بَعْدُ مَا بَلِيَتْ. أَمَّا إِنْ بَلِيَتِ الْعِظَامُ الْكَبِيرَةُ وَبَقِيَتِ الصَّغِيرَةُ فَتُنَحَّى إِلَى جَانِبِ الْقَبْرِ وَيُدْفَنُ الْمَيِّتُ الْجَدِيدُ.
وَمِمَّا لا يَجُوزُ أَيْضًا الْبِنَاءُ عَلَى الْقَبْرِ إِذَا كَانَتِ الأَرْضُ مُسَبَّلَةً أَيْ مَوْقُوفَةً لِلدَّفْنِ، وَإِنَّمَا يُعَلَّمُ الْقَبْرُ بِشَىْءٍ كَحَجَرٍ عِنْدَ الرَّأْسِ وَعِنْدَ الرِّجْلَيْنِ بِحَيْثُ يَهْتَدِي إِلَيْهِ قَاصِدُهُ لِلزِّيَارَةِ. أَمَّا إِنْ كَانَتِ الأَرْضُ مَمْلُوكَةً فَدُفِنَ الْمَيِّتُ فِيهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَبَنَوْا عَلَى الْقَبْرِ فَلَيْسَ حَرَامًا لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ.
وَالْمَعْنَى مِنْ تَحْرِيْمِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ أَنَّ فِيهِ تَضْيِيقًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُؤْتَى بِهِمْ لِلدَّفْنِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا وَجَدُوا عَلَى الْقَبْرِ بِنَاءً يَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الدَّفْنُ فِيهِ. أَمَّا إِنْ بَنَوْا عَلَى الْقَبْرِ لِلضَّرُورَةِ كَأَنْ كَانَتِ السِّبَاعُ تَنْبُشُ الْقَبْرَ فَتَأْكُلُ الْجُثَّةَ أَوْ كَانَ يُخْشَى أَنْ يُفْتَحَ الْقَبْرُ قَبْلَ بِلَى الْجَسَدِ فَيُدْفَنَ فِيهِ غَيْرُهُ مَعَهُ فَيَجُوزُ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُوَ الْمُقْتَضِي لِتَحْرِيْمِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ لَيْسَ مَا يَزْعُمُهُ الْوَهَّابِيَّةُ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ عِبَادَةً لَهُ فَالصَّلاةُ إِلَيْهِ عِنْدَهُمْ كُفْرٌ أَوْ كَبِيرَةٌ أَمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَلا تَحْرُمُ الصَّلاةُ إِلَى الْقَبْرِ إِذَا كَانَ الْقَبْرُ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ بَلْ تُكْرَهُ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى مُصَلِيًّا إِلَى الْقَبْرِ فَقَالَ الْقَبْرَ الْقَبْرَ أَيْ تَجَنَّبِ اسْتِقْبَالَ الْقَبْرِ وَلَمْ يَقُلْ إِنَّكَ عَمِلْتَ حَرَامًا لَكِنْ إِنْ قَصَدَ الْقَبْرَ بِالصَّلاةِ إِلَيْهِ فَهُوَ حَرَامٌ وَإِنْ قَصَدَ عِبَادَتَهُ فَهُوَ كُفْرٌ. ثُمَّ كَرَاهَةُ الصَّلاةِ إِلَى الْقَبْرِ تَزُولُ إِذَا كَانَ الْقَبْرُ مَسْتُورًا غَيْرَ بَارِزٍ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا وَلَوْلا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ اهـ فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رِاوَيَةُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الصَّلاةِ إِلَى الْقَبْرِ إِنَّمَا هُوَ فِي حَالِ كَوْنِهِ بَارِزًا، فَإِطْلاقُ الْوَهَّابِيَّةِ التَّحْرِيْمَ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ لا وَجْهَ لَهُ وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا لَهَدَاهُمْ لِعَقِيدَةِ التَّوْحِيدِ لَكِنَّهُمْ حُرِمُوا ذَلِكَ فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ التَّجْسِيمَ أَيْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ فَمَاذَا يَكُونُ جَوَابُهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمُ الْعَقْلُ لا يَقْبَلُ أَنْ يَخْلُقَ الْجِسْمُ الْجِسْمَ فَعَلَى زَعْمِكُمُ اللَّهُ جِسْمٌ خَلَقَ الأَجْسَامَ الْعَرْشَ وَمَا سِوَاهُ وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْعَقْلِ.
وَيُكْرَهُ فَرْشُ الْقَبْرِ أَيْ وَضْعُ الْبِسَاطِ تَحْتَ الْمَيِّتِ، وَيُكْرَهُ وَضْعُ مِخَدَّةٍ لِلْمَيِّتِ وَيُكْرَهُ الْمَبِيتُ بِالْمَقْبَرَةِ [لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَحْشَةِ]، أَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ بِاللَّيْلِ فَمُسْتَحَبَّةٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَذْهَبُ إِلَى الْبَقِيعِ بِاللَّيْلِ وَيَسْتَغْفِرُ لِأَهْلِ الْقُبُورِ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ [فِي صَحِيحِهِ]. الْمَبِيتُ مَعْنَاهُ أَنْ يَمْكُثَ إِلَى الْفَجْرِ أَوْ يَقْضِيَ مُعْظَمَ اللَّيْلِ هَذَا الْمَبِيتُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ أَمَّا أَنْ يَمْكُثَ سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ لِلِاعْتِبَارِ فَهَذَا سُنَّةٌ. وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَيُكْرَهُ وَطْءُ الْقَبْرِ أَيْ دَوْسُهُ بِالْقَدَمِ بِلا حَاجَةٍ فَإِنْ كَانَتْ حَاجَةٌ فَلا كَرَاهَةَ، هَذَا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْقَبْرِ كَلامٌ مُعَظَّمٌ وَإِلَّا فَلا يَجُوزُ.
وَيُكْرَهُ سَدُّ الْقَبْرِ بِالْجَصِّ وَكَذَا يُكْرَهُ الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يَحْرُمُ الطَّوَافُ حَوْلَ قُبُورِ الأَوْلِيَاءِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْجُهَّالِ حَوْلَ مَشْهَدِ الْحُسَيْنِ فِي مِصْرَ بَلِ الْمَطْلُوبُ أَنْ يَقِفَ أَمَامَ وَجْهِهِ وَيُسَلِّمَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَ اللَّهَ بِمَا شَاءَ وَلَوْ رَفَعَ يَدَيْهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ فَلا بَأْسَ، وَإِنْ وَقَفَ عِنْدَ رِجْلِهِ أَوْ عِنْدَ ظَهْرِهِ فَلا بَأْسَ لَكِنِ الأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ أَمَامَ وَجْهِهِ، أَمَّا وَضْعُ الْيَدِ عَلَى جِدَارِ الْقَبْرِ فَجَائِزٌ وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ أَمَّا الإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ فَقَالَ إِنْ كَانَ لِلتَّبَرُّكِ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ أَيْ إِنْ كَانَتْ عَقِيدَتُهُ أَنَّهُ لا أَحَدَ يَخْلُقُ مَنْفَعَةً وَلا مَضَرَّةً إِلَّا اللَّهُ وَقَصْدُهُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ زِيَارَتَهُ لِهَذَا الْوَلِيِّ سَبَبًا لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُ وَاسْتِجْلابِ الْمَنْفَعَةِ. الْمُسْلِمُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَزُورُ قُبُورَ الأَوْلِيَاءِ، أَمَّا الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا الْوَلِيَّ بِخُصُوصِيَّةٍ لَهُ تَنْقَضِي الْحَاجَاتُ فَيَعْمَلُ نَذْرًا لَهُ لِلتَّقَرُّبِ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِالصَّدَقَةِ عَنْهُ فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ، أَمَّا إِنْ نَذَرَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى نِيَّةِ أَنْ يَكُونَ ثَوَابُ ذَلِكَ لِهَذَا الْوَلِيِّ فَالْوَلِيُّ يَنَالُهُ الثَّوَابُ وَهُوَ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَجَائِزَةٌ وَالنَّهْيُ عَنْهَا مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلا فَزُورُوهَا» بَلْ حَثَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى زِيَارَةِ الْقُبُورِ بِقَوْلِهِ «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ بِالآخِرَةِ» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ [فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى].
وَأَمَّا حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى زِيَارَةِ النِّسَاءِ الَّتِي يَكُونُ مَعَهَا النِّيَاحَةُ وَالنَّدْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا خَلا عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِلنِّسَاءِ عِنْدَ بَعْضِ الأَئِمَّةِ وَبِدُونِهَا عِنْدَ بَعْضٍ.
وَمِمَّا يُسَنُّ قَوْلُهُ عِنْدَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ «السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالأَثَرِ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ «السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ» وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ سَمَاعِ الْمَيِّتِ وَلَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْخِطَابِ مَعْنًى، وَلا حُجَّةَ فِي اسْتِدْلالِ نُفَاةِ التَّوَسُّلِ الْوَهَّابِيَّةِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [سُورَةَ فَاطِر/22] فَإِنَّهُ مُؤَوَّلٌ لا يُحْمَلُ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمُرَادُ بِهِ تَشْبِيهُ الْكُفَّارِ بِمَنْ فِي الْقُبُورِ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِكَلامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِمْ أَحْيَاءَ.
وَمِنَ الْمُهِمِّ بَيَانُهُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ غَيْرِهِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ مَعْقِلِ بنِ يَسَارٍ «اقْرَءُوا يَس عَلَى مَوْتَاكُمْ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [فِي سُنَنِهِ] وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ.
وَحَدِيثُ «يَس ثُلُثُ الْقُرْءَانِ لا يَقْرَؤُهَا رَجُلٌ يُرِيدُ اللَّهَ وَالدَّارَ الآخِرَةَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ فَاقْرَءُوهَا عَلَى مَوْتَاكُمْ» رَوَاهُ أَحْمَدُ [فِي مُسْنَدِهِ]. وَأَوَّلَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ الْقِرَاءَةَ لِلْمَيِّتِ بِالْمُحْتَضَرِ وَالتَّأْوِيلُ خِلافُ الظَّاهِرِ، ثُمَّ يُقَالُ عَلَيْهِ إِذَا انْتَفَعَ الْمُحْتَضَرُ بِقِرَاءَةِ يَس وَلَيْسَ مِنْ سَعْيِهِ فَالْمَيِّتُ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا الصَّلاةُ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ قَبْرٌ فَجَائِزَةٌ وَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» وَفِيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ وَلَوْلا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ اهـ تَعْنِي قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يَقْصِدُ الصَّلاةَ إِلَى الْقَبْرِ لِتَعْظِيمِهِ وَهَذَا يُتَصَوَّرُ إِنْ كَانَ بَارِزًا غَيْرَ مَسْتُورٍ وَإِلَّا فَلا حُرْمَةَ، وَذَلِكَ بِأَنْ لا يَقْصِدَ الْمُصَلِّي الصَّلاةَ إِلَيْهِ لِتَعْظِيمِهِ أَوْ يَكُونُ مَسْتُورًا فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَارِزًا لا يُقْصَدُ بِالصَّلاةِ إِلَيْهِ. أَمَّا مُجَرَّدُ وُجُودِ قَبْرٍ فِي مَسْجِدٍ لَمْ يَقْصِدْهُ الْمُصَلِّي بِالصَّلاةِ إِلَيْهِ فَلا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ، وَلِذَلِكَ نَصَّتِ الْحَنَابِلَةُ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ الصَّلاةَ فِي الْمَقْبَرَةِ مَكْرُوهَةٌ وَلا تَحْرُمُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّحْرِيْمِ لِلصَّلاةِ فِي مَسْجِدٍ فِيهِ قَبْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَارِزًا مَا وَرَدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ مَسْجِدَ الْخَيْفِ قُبِرَ فِيهِ سَبْعُونَ نَبِيًّا حَتَّى إِنَّ قَبْرَ ءَادَمَ عَلَى قَوْلٍ هُنَاكَ قُرْبَ الْمَسْجِدِ وَهُوَ مَسْجِدٌ كَانَ يُصَلَّى فِيهِ زَمَنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى وَقْتِنَا هَذَا. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَوْرَدَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَقَالَ الْحَافِظُ الْبُوصِيرِيُّ: «رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ».
وَأَمَّا حَدِيثُ [مُسْلِمٍ فِي صَحِيحِهِ] «لا تُصَلُّوا إِلَى الْقُبُورِ» فَلَيْسَ فِيهِ دِلالَةٌ عَلَى التَّحْرِيْمِ بَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلافِ أَحْوَالِ الْقَبْرِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ.
وَقَدْ نَصَّ الْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي شَرْحِ مُنْتَهَى الإِرَادَاتِ عَلَى أَنَّ الصَّلاةَ إِلَى الْقُبُورِ مَعَ الْحَائِلِ لا تُكْرَهُ.
وَأَمَّا مَا فِي حَدِيثِ «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» فَمَعْنَاهُ الَّذِي يَبْنِي عَلَى الْقَبْرِ مَسْجِدًا لِتَعْظِيمِ هَذَا الْقَبْرِ فَهُوَ مَلْعُونٌ، كَذَلِكَ الَّذِي يَضَعُ السُّرُجَ أَوِ الشُّمُوعَ عَلَى الْقُبُورِ لِتَعْظِيمِهَا فَهُوَ أَيْضًا مَلْعُونٌ.
فَائِدَةٌ وَرَدَ فِي الْبُخَارِيِّ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَفِيهِ أَنَّهُ لَمَّا مَرَّتْ جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ قَامَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ «أَلَيْسَتْ نَفْسًا» فَهَذَا لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَقَفَ تَعْظِيمًا لَهَا إِنَّمَا تَعْظِيمًا لِلْمَلائِكَةِ الَّذِينَ مَعَهَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ] أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّمَا تَقُومُونَ لِلَّذِي مَعَهَا» أَيْ لِلْمَلائِكَةِ. وَنَصُّ رِوَايَةِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ وَأَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَمُرُّ بِنَا جِنَازَةُ الْكَافِرِ أَفَنَقُومُ لَهَا قَالَ: «نَعَمْ قُومُوا لَهَا فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَقُومُونَ لَهَا إِنَّمَا تَقُومُونَ إِعْظَامًا لِلَّذِي يَقْبِضُ الأَرْوَاحَ».
فَائِدَةٌ أُخْرَى فِي الْحَثِّ عَلَى حُضُورِ جِنَازَةِ الْمُسْلِمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ شَهِدَ الْجِنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ، قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ قَالَ: مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ: «حَتَّى تُوضَعَ فِي اللَّحْدِ» وَلِلْبُخَارِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ تَبِعَ جِنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيـمَانًا وَاحْتِسَابًا وَكَانَ مَعَهَا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ».
وَيُسَنُّ أَنْ يُقَالَ عِنْدَ التَّعْزِيَةِ بِالْمُسْلِمِ أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ. وَمَعْنَى وَأَحْسَنَ عَزَاءَكَ أَيْ جَعَلَ صَبْرَكَ حَسَنًا.
تَنْبِيهٌ لا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَمَنَّى الْمَوْتَ إِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا يَتَمَنَيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الإشعارات