قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَجِبُ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ وَلا يَصِحُّ مِنْ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ.
الشَّرْحُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْظَمِ أُمُورِ الإِسْلامِ الْخَمْسَةِ وَهُوَ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، كَمَا أَنَّ أَفْضَلَ اللَّيَالِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَكَمَا أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ، وَكَمَا أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الأُسْبُوعِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الصَّوْمُ بِاسْتِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ يَوْمًا أَيْ مِنَ ابْتِدَاءِ رُؤْيَةِ هِلالِ شَعْبَانَ أَوْ بِرُؤْيَةِ عَدْلِ شَهَادَةٍ هِلالَ رَمَضَانَ بَعْدَ الْغُرُوبِ أَيْ إِذَا شَهِدَ الشَّاهِدُ الْعَدْلُ [عَدْلُ الشَّهَادَةِ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي عَدَالَتُهُ وَأَمَّا عَدْلُ الرِّوَايَةِ هُوَ الَّذِي تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَهَذَا لا يُشْتَرَطُ أَنْ تَثْبُتَ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الْقَاضِي]، وَالْعَدْلُ هُوَ مَنْ سَلِمَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَمِنْ غَلَبَةِ الصَّغَائِرِ عَلَى طَاعَاتِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُلْتَزِمًا بِمُرُوءَةِ أَمْثَالِهِ أَيْ لا يَشْتَغِلُ بِنَحْوِ تَطْيِيرِ الْحَمَامِ وَلا يُكْثِرُ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمُضْحِكَةِ الَّتِي مَا فِيهَا ثَمَرَةٌ وَلَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً وَلا يُكْثِرُ مِنْ لَعِبِ الشِّطْرَنْجِّ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَمِهْنَةُ الزَّبَّالِ تَمْنَعُ الْعَدَالَةَ فِي بَابِ الشُّهُودِ إِلَّا أَنْ سَاقَتْهُ الضَّرُورَةُ لِذَلِكَ فَلا يَكُونُ ذَلِكَ خَارِمًا لِمُرُوءَتِهِ، كَأَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَتَقَوَّتُ بِهِ غَيْرَ هَذَا فَدَخَلَ فِيهِ. وَمِمَّا يُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ أَيْضًا الرَّقْصُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ النَّوْعِ الْمُحَرَّمِ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يَأْكُلُ مَاشِيًا فِي السُّوقِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ، أَمَّا فِي الْبَرِّيَّةِ فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَأْكُلُونَ وَهُمْ يَمْشُونَ، فَإِذَا شَهِدَ عَدْلٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِأَنَّهُ شَاهَدَ هِلالَ رَمَضَانَ ثَبَتَ الصِّيَامُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَشَهَادَتُهُ تَكُونُ بِأَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُ هِلالَ رَمَضَانَ اللَّيْلَةَ أَمَّا لَوْ قَالَ عَلِمْتُ أَنَّهُ هِلالُ رَمَضَانَ اللَّيْلَةَ فَلا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ هَذَا.
وَفِي كِتَابِ شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ مَمْزُوجًا بِالْمَتْنِ مَا نَصُّهُ «فَرْعٌ: لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ غَدًا أَوَّلَ رَمَضَانَ أَوِ اعْتَقَدَهُ لا بِسَبَبٍ وَفِي نُسْخَةٍ بِلا سَبَبٍ وَنَوَى الصَّوْمَ جَازِمًا بِالنِّيَّةِ صُورَةً أَوْ مُتَرَدِّدًا كَأَنْ قَالَ لَيْلَةَ ثَلاثِي شَعْبَانَ أَصُومُ غَدًا إِنْ دَخَلَ رَمَضَانُ، سَوَاءٌ أَقَالَ مَعَهُ وَإِلَّا فَأَنَا مُفْطِرٌ أَوْ مُتَطَوِّعٌ أَمْ لا لَمْ تُجْزِهِ وَإِنْ دَخَلَ رَمَضَانُ لِأَنَّ الأَصْلَ عَدَمُ دُخُولِهِ وَلِأَنَّهُ صَامَ شَاكًّا وَلَمْ يَعْتَمِدْ سَبَبًا. وَالْجَزْمُ فِي الأُولَى كَلا جَزْمٍ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ مِنْ رَمَضَانَ بِسَبَبٍ لَمْ يَتَأَتَّ مِنْهُ الْجَزْمُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ حَدِيثُ نَفْسٍ لا اعْتِبَارَ بِهِ، فَإِنِ اعْتَقَدَهُ أَوَّلَ رَمَضَانَ بِسَبَبٍ كَأَنِ اعْتَقَدَهُ بِخَبَرِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ نَحْوِ امْرَأَةٍ أَوْ عَبِيدٍ أَوْ صِبْيَانٍ ذَوِي رُشْدٍ يَعْنِي مُخْتَبَرِينَ بِالصِّدْقِ وَجَزَمَ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ أَجْزَأَهُ إِنْ بَانَ مِنْ رَمَضَانَ لِظَنِّ أَنَّهُ مِنْهُ حَالَةَ النِّيَّةِ، وَلِلظَّنِّ فِي مِثْلِ هَذَا حُكْمُ الْيَقِينِ فَتَصِحُّ النِّيَّةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ، وَجَمْعُ الْعَبِيدِ وَالصِّبْيَةِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ، فَفِي الْمَجْمُوعِ لَوْ أَخْبَرَهُ بِالرُّؤْيَةِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوِ امْرَأَةٍ أَوْ فَاسِقٍ أَوْ مُرَاهِقٍ وَنَوَى صَوْمَ رَمَضَانَ فَبَانَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ نَوَاهُ بِظَنٍّ وَصَادَفَهُ فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ، وَلَوْ تَرَدَّدَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَالأَنْسَبُ رَدَّدَ فَقَالَ أَصُومُ غَدًا عَنْ رَمَضَانَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فَهُوَ تَطَوُّعٌ وَبَانَ مِنْهُ لَمْ يُجْزِهِ، كَذَا نَقَلَهُ الإِمَامُ [أَيْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَبْدُ الْمَلِكِ الْجُوَيْنِيُّ] عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ وَحَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخَانِ. قَالَ الإِسْنَوِيُّ: وَالْمُتَّجِهُ الإِجْزَاءُ لِأَنَّ النِّيَّةَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْقَلْبِ وَالتَّرَدُّدُ حَاصِلٌ فِي الْقَلْبِ قَطْعًا ذَكَرَهُ أَمْ لَمْ يَذْكُرْهُ وَقَصْدُهُ لِلصَّوْمِ إِنَّمَا هُوَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مِنْ رَمَضَانَ فَصَارَ كَالتَّرَدُّدِ فِي الْقَلْبِ بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ اهـ، وَذَكَرَ نَحْوَهُ الزَّرْكَشِيُّ قَالَ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا حَكَاهُ الإِمَامُ عَنْ طَوَائِفَ وَكَلامُ الأُمِّ مُصَرِّحٌ بِهِ وَلا نَقْلَ يُعَارِضُهُ إِلَّا دَعْوَى الإِمَامِ أَنَّهُ ظَاهِرُ النَّصِّ وَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى قَالَ: وَتَعْبِيرُهُ بِالتَّرَدُّدِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ هَذَا تَرْدِيدٌ لا تَرَدُّدٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّرَدُّدَ شَكٌّ لا جَزْمَ فِيهِ بِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ بِخِلافِ التَّرْدِيدِ فَإِنَّ فِيهِ الْجَزْمَ بِأَحَدِهِمَا لَكِنْ مُبْهَمًا. انْتَهَى. وَالْحَقُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَرَدُّدًا وَتَرْدِيدًا. وَلَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ بِمَشِيئَةِ زَيْدٍ ضَرَّ وَكَذَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ التَّبَرُّكَ أَوْ وُقُوعَ الصَّوْمِ وَتَمَامَهُ بِهَا. ذَكَرَهُ فِي الْمَجْمُوعِ» انْتَهَى مَا فِي شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ.
وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ الإِسْلامُ وَالتَّكْلِيفُ أَيِ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ فَلا يَجِبُ الصِّيَامُ عَلَى الْكَافِرِ الأَصْلِيِّ أَدَاؤُهُ فِي الدُّنْيَا وَلا عَلَى الصَّبِيِّ لَكِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الأَبَوَيْنِ أَنْ يَأْمُرَاهُ بِالصَّوْمِ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ إِنْ أَطَاقَ جِسْمُهُ وَتَحَمَّلَ، وَلا يَجِبُ أَيْضًا عَلَى الْمَجْنُونِ، وَفِي حُكْمِ الْمَجْنُونِ مَنْ شَرِبَ شَيْئًا مِنَ الْمُسْكِرَاتِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِأَنَّهُ مُسْكِرٌ.
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ مِنَ الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ رِدَّتِهِ هَذَا عِنْدَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا عِنْدَ الأَئِمَّةِ الثَّلاثَةِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَلا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصِّيَامِ. وَيُعَاقَبُ الْكَافِرُ الأَصْلِيُّ عَلَى تَرْكِ الصِّيَامِ فِي الآخِرَةِ كَمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
وَلا يَجِبُ الصَّوْمُ أَيْضًا عَلَى مَنْ لا يُطِيقُهُ حِسًّا لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَكَذَا مَنْ لا يُطِيقُهُ شَرْعًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَإِنَّهُمَا لا يَجِبُ عَلَيْهِمَا وُجُوبَ أَدَاءٍ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمَا وُجُوبَ قَضَاءٍ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ.
وَيَحْرُمُ الإِمْسَاكُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ بِنِيَّةِ الصِّيَامِ وَلا يَجِبُ عَلَيْهِمَا تَعَاطِي مُفَطِّرٍ.
وَلَوْ وَلَدَتِ الْمَرْأَةُ وَهِيَ صَائِمَةٌ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا دَمُ نِفَاسٍ فَإِنَّهَا لا تُفْطِرُ إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْقَابِلَةُ أَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي الْفَرْجِ [فِي شَرْحِ التَّنْبِيهِ لِلسُّيُوطِيِّ أَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ بِلا بَلَلٍ فَالأَصَحُّ أَنَّهَا تُفْطِرُ وَمِثْلُهُ فِي فَتْحِ الْجَوَادِ، وَذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَذَكَرَ قَوْلًا ءَاخَرَ بِأَنَّهُ لا يُبْطِلُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ دَلِيلًا]. وَلَوْ رَأَتِ الصَّائِمَةُ الدَّمَ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ فَلَهَا أَنْ تَأْكُلَ فِي حَالِ نُزُولِ الدَّمِ وَلا تُفْطِرُ لِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ مَشْحَةِ دَمٍ انْقَطَعَ. وَلَوْ نَامَتِ الْحَائِضُ ثُمَّ اسْتَيْقَظَتْ بَعْدَ الْفَجْرِ وَدَمُ الْحَيْضِ مُنْقَطِعٌ فَإِنَّهَا لا تَصُومُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَكِنْ إِنْ شَاءَتْ تَكُفُّ عَنِ الأَكْلِ وَإِنْ أَكَلَتْ كَانَ جَائِزًا، وَإِذَا ظَنَّتِ الْحَائِضُ أَنَّ الدَّمَ سَيَنْقَطِعُ قَبْلَ الْفَجْرِ عَلَى حَسَبِ عَادَتِهَا فَنَوَتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ وَنَامَتْ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَتْ بَعْدَ الْفَجْرِ وَجَدَتْ أَنَّ الدَّمَ انْقَطَعَ صَحَّ صِيَامُهَا.
وَيَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ الْقَضَاءُ إِلَّا مَنْ أَفْطَرَ لِكِبَرٍ أَوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُهُ كَالْفَالِجِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمَا إِلَّا الْفِدْيَةُ فَلَوْ دَفَعَ الْفِدْيَةَ ثُمَّ تَعَافَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجُوزُ الْفِطْرُ لِمُسَافِرٍ سَفَرَ قَصْرٍ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَلِمَرِيضٍ وَحَامِلٍ وَمُرْضِعٍ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ مَشَقَّةً لا تُحْتَمَلُ الْفِطْرُ وَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَضَاءُ.
الشَّرْحُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْفِطْرُ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا:
* السَّفَرُ إِلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ وَهِيَ مَرْحَلَتَانِ أَيْ سَفَرًا يَجُوزُ فِيهِ قَصْرُ الصَّلاةِ الرُّبَاعِيَّةِ إِلَى رَكْعَتَيْنِ وَهُوَ السَّفَرُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ عِصْيَانٌ لِلَّهِ [سَفَرُ الطَّاعَةِ كَزِيَارَةٍ لِصِلَةِ الرَّحِمِ وَالسَّفَرُ الْمُبَاحُ كَالسَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ] وَلا هُوَ قَصِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَرْحَلَتَيْنِ وَهِيَ مَسَافَةُ ثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا، وَالْمِيلُ سِتَّةُ ءَالافِ ذِرَاعٍ بِذِرَاعِ الْيَدِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. فَإِذَا كَانَ السَّفَرُ إِلَى مَرْحَلَتَيْنِ أَيْ بِسَيْرِ الأَثْقَالِ وَدَبِيبِ الأَقْدَامِ يَجُوزُ الْفِطْرُ لَوْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَالْمُثَابَرَةُ عَلَى الصِّيَامِ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يُفْطِرَ وَشَرْطُ السَّفَرِ الَّذِي يُبِيحُ الإِفْطَارَ أَنْ يَكُونَ حَدَثَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَمَنْ خَرَجَ مُسَافِرًا بَعْدَ الْفَجْرِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الإِفْطَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، أَمَّا عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ بنِ حَنْبَلٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الإِفْطَارُ لَوْ خَرَجَ بَعْدَ الظُّهْرِ إِذَا فَارَقَ الْعُمْرَانَ.
* وَمِنْهَا الْمَرَضُ إِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ مَعَ الصَّوْمِ تُبِيحُ التَّيَمُّمَ أَيْ كَانَ فِي الْمُثَابَرَةِ عَلَى الصَّوْمِ مَعَ هَذَا الْمَرَضِ مَشَقَّةٌ كَمَشَقَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِلطُّهْرِ فَعِنْدَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ الإِفْطَارُ كَمَا أَنَّ الَّذِي يَشُقُّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ أَوْ لِلِاغْتِسَالِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ مِنْ أَجْلِ الْمَشَقَّةِ. وَمَنْ كَانَ مُضْطَرًّا لِعَمَلِهِ وَلا يَسْتَغْنِي عَنْهُ لِأَنَّهُ إِنْ تَرَكَهُ لا يَجِدُ قُوتَهُ الضَّرُورِيَّ وَقُوتَ مَنْ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ وَلا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ مَعَ الْعَمَلِ فَهَذَا يَنْوِي بِاللَّيْلِ نِيَّةً جَازِمَةً ثُمَّ فِي النَّهَارِ يَنْظُرُ فِي حَالِهِ فَإِنْ حَصَلَ لَهُ انْهِيَارٌ يُفْطِرُ وَإِنْ وَجَدَ جِسْمَهُ مُتَمَاسِكًا يُثَابِرُ عَلَى الصِّيَامِ، أَمَّا مَنْ يَمْلِكُ مَا يَكْفِيهِ هُوَ وَمَمُونَهُ وَلا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ مَعَ الْعَمَلِ فَيَتْرُكُ عَمَلَهُ هَذَا وَيَصُومُ.
* وَمِنْهَا الْحَمْلُ وَالإِرْضَاعُ إِذَا خَافَتِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا أَوْ عَلَى وَلَدِهِمَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِمَا وَلَوْ مَرِيضَتَيْنِ أَوْ مُسَافِرَتَيْنِ إِذَا أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى الْوَلَدِ فَقَطْ أَنْ يُجْهَضَ أَوْ يَقِلَّ اللَّبَنُ فَيَتَضَرَّرَ مَعَ الْقَضَاءِ الْفِدْيَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدٌّ، أَمَّا لَوْ أَفْطَرَتِ الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ بِالسَّفَرِ وَلَوْ مَعَ الْوَلَدِ أَوْ لَمْ تَنْوِيَا شَيْئًا أَوْ أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَوْ مَعَ الْوَلَدِ فَلا فِدْيَةَ [وَعَلَى قَوْلٍ إِنْ أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَالْوَلَدِ مَعًا فَعَلَيْهِمَا فِدْيَةٌ].
وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْمُدِّ وَالْقَضَاءِ مَنْ أَفْطَرَ لإِنْقَاذِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ كَمَأْكُولٍ وَلَوْ لِغَيْرِهِ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلاكِ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إِلَى أَنْ جَاءَ رَمَضَانُ ءَاخَرُ بِلا عُذْرٍ، وَتَتَكَرَّرُ الْفِدْيَةُ بِتَكَرُّرِ السِّنِينَ، خِلافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّ الْفِدْيَةَ لا تَجِبُ عِنْدَهُ وَلا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ.
وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنِ الصَّوْمِ لِكِبَرِ سِنٍّ أَوْ زَمَانَةٍ [الإِنْسَانُ الَّذِي كَسَرَهُ الْمَرَضُ فَلا يُطِيقُ الصَّوْمَ يُسَمَّى زَمِنًا] أَوْ مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ. وَمَنْ كَانَ لا يُرْجَى بُرْؤُهُ فَأَفْطَرَ ثُمَّ تَعَافَى وَكَانَ دَفَعَ الْفِدْيَةَ فَلا يَلْزَمُهُ بَعْدَ الشِّفَاءِ شَىْءٌ، وَالْفِدْيَةُ تُدْفَعُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فِي يَوْمِهِ وَلا يُقَدِّمُ الدَّفْعَ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ فِي يَوْمِهِ يُؤَخِّرُ إِلَى وَقْتِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَقَدْرُ الْفِدْيَةِ مُدٌّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ التَّبْيِيتُ.
الشَّرْحُ أَنَّهُ يَجِبُ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ أَيْ إِيقَاعُ النِّيَّةِ لَيْلًا فِيمَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ لِكُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ بِالْقَلْبِ وَلَوْ قَبْلَ أَنْ يَتَعَاطَى مُفَطِّرًا لِحَدِيثِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلا صِيَامَ لَهُ». فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ عَلَى الصَّائِمِ فَنَوَى قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ صَوْمَ الْيَوْمِ التَّالِي مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ لَمْ يُعِدْ هَذِهِ النِّيَّةَ كَفَتْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ النِّيَّةَ بَعْدَ أَكْلِ السَّحُورِ. وَهَذَا الْحُكْمُ يَشْمَلُ الصَّبِيَّ فَإِنَّ صَوْمَهُ إِذَا كَانَ مُمَيِّزًا صَحِيحٌ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْ هَذِهِ النِّيَّةِ أَيْ مِنَ النِّيَّةِ فِيمَا بَيْنَ الْغُرُوبِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ وَإِلَّا لا يَصِحُّ صِيَامُهُ. وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ الْمَنْذُورُ يَجِبُ فِيهِ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ لَيْلًا، وَكَذَلِكَ مَنْ يَقْضِي الْفَرْضَ. وَلَوْ نَوَى صَوْمَ الْقَضَاءِ فِي اللَّيْلِ ثُمَّ غَيَّرَ نِيَّتَهُ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِثْمٌ إِنْ كَانَ قَضَاؤُهُ لِمَا فَاتَهُ بِعُذْرٍ.
أَمَّا صَوْمُ النَّفْلِ فَتُجْزِئُ فِيهِ النِّيَّةُ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ حَتَّى فِيمَنْ قَالَ لَيْلًا إِنْ نَوَيْتُ صَوْمَ غَدٍ فَعَليَّ إِتْمَامُهُ يَعْنِي عَنِ النَّفْلِ ثُمَ قَبْلَ الْفَجْرِ نَوَى أَوْ بَعْدَ الْفَجْرِ نَوَاهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ هَذَا الصَّوْمَ لِأَنَّهُ نَذَرَ إِتْمَامَهُ فَصَارَ فَرْضًا عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالتَّعْيِينُ فِي النِيَّةِ لِكُلِّ يَوْمٍ.
الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الصِّيَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْيِينُ الصَّوْمِ الْمَنْوِيِّ بِالنِّيَّةِ كَتَعْيِينِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَنَّهُ عَنْ نَذْرٍ أَوْ أَنَّهُ عَنْ كَفَّارَةٍ وَلَوْ لَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَهَا أَيْ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصِّيَامِ لَهُ أَسْبَابٌ.
فَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ يَصُومُ عَنِ الْكَفَّارَةِ أَنْ يَنْوِيَ لَيْلًا قَبْلَ الْفَجْرِ أَنَّهُ يَصُومُ الْيَوْمَ التَّالِي عَنِ الْكَفَّارَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ فِي نَفْسِهِ «أَصُومُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ» أَوْ «عَنْ كَفَّارَةِ إِفْسَادِ صِيَامِ رَمَضَانَ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا»، وَلا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْفَرْضِيَّةَ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَمَالُ النِّيَّةِ فِي رَمَضَانَ نَوَيْتُ صَوْمَ غَدٍ عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةَ إِيـمَانًا وَاحْتِسَابًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالِاحْتِسَابُ هُوَ طَلَبُ الأَجْرِ.
ثُمَّ إِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ لِكُلِّ يَوْمٍ فَلا يَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ أَوَّلَ الشَّهْرِ عَنِ الشَّهْرِ كُلِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لِتَخَلُّلِ الْيَوْمَيْنِ بِمَا يُنَاقِضُ الصَّوْمَ كَالصَّلاتَيْنِ يَتَخَلَّلُهُمَا السَّلامُ. وَقَالَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ فِي لَيْلَةِ الْيَوْمِ الأَوَّلِ مِنْ رَمَضَانَ عَنْ كُلِّ رَمَضَانَ أَيْ فَيَقُولَ بِقَلْبِهِ نَوَيْتُ صِيَامَ ثَلاثِينَ يَوْمًا عَنْ شَهْرِ رَمَضَانِ هَذِهِ السَّنَةِ [أَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي تَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَيْضَ يَأْتِيهَا فِي رَمَضَانَ لا تَنْوِي عَنِ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ]. أَمَّا إِنْ لَمْ يَنْوِ فِي اللَّيْلَةِ الأُولَى مِنْهُ فَلا بُدَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ.
وَلَوْ شَكَّ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوَقَعَتِ النِّيَّةُ قَبْلَهُ أَوْ شَكَّ عِنْدَ النِّيَّةِ أَطَلَعَ الْفَجْرُ أَمْ لا لَمْ تَصِحَّ، بِخِلافِهِ بَعْدَهَا أَطَلَعَ الْفَجْرُ عِنْدَهَا أَوْ فِيهَا، أَوْ شَكَّ فِي التَّبْيِيتِ فَذَكَرَهُ وَلَوْ بَعْدَ أَيَّامٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ صَوْمُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَّ فِي نِيَّةِ الْيَوْمِ الْمُنْقَضِي بَعْدَ الْغُرُوبِ فَإِنَّهُ لا يَضُرُّ، وَلَوْ قَارَنَتِ النِّيَّةُ الْفَجْرَ لَمْ يَصِحَّ الصَّوْمُ وَقِيلَ يَصِحُّ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالإِمْسَاكُ عَنِ الْجِمَاعِ.
الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّوْمِ الإِمْسَاكَ عَنِ الْجِمَاعِ أَيْ أَنْ يَكُفَّ الصَّائِمُ نَفْسَهُ عَنِ الْجِمَاعِ فِي فَرْجٍ وَلَوْ لِبَهِيمَةٍ وَسَوَاءٌ جَامَعَ مَعَ حَائِلٍ أَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ فَمَنْ فَعَلَ مَعَ الْعِلْمِ وَالتَّعَمُّدِ وَالِاخْتِيَارِ أَفْطَرَ، أَمَّا إِذَا كَانَ لَمْ يَعْلَمْ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ فِي الصَّوْمِ لِكَوْنِهِ قَرِيبَ عَهْدٍ بِإِسْلامٍ أَوْ كَوْنِهِ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ نَسِيَ أَنَّهُ صَائِمٌ أَوْ جَامَعَ مُكْرَهًا أَيْ مُهَدَّدًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لا يُفْطِرُ وَسَوَاءٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ [أَيِ الْمَذْكُورِ ءَانِفًا مَعَ الْعِلْمِ وَالتَّعَمُّدِ] الْوَاطِئُ وَالْمَوْطُوءَةُ فَإِنَّ صِيَامَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَفْسُدُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ فِي كَفَّارَةِ الإِفْسَادِ بِالْجِمَاعِ فَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَاطِئِ أَيِ الرَّجُلِ لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمَوْطُوءَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْبَيَانِ: «وَإِنْ أَوْلَجَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ [وَهُوَ الْخُنْثَى الَّذِي لَمْ يَتَّضِحْ كَوْنُهُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى] ذَكَرَهُ فِي دُبُرِ رَجُلٍ أَوْ فِي فَرْجِ امْرَأَةٍ أَوْ فِي دُبُرِهَا أَوْ فِي فَرْجِ خُنْثَى مُشْكِلٍ أَوْ فِي دُبُرِهِ لَمْ يُفْطِرِ الْخُنْثَى الْمُولِجُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرُهُ عُضْوًا زَائِدًا وَيَفْسُدُ صَوْمُ الْمُولَجِ فِيهِ وَلا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَكَرُهُ عُضْوًا زَائِدًا وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَا لَوْ أَدْخَلَ إِصْبَعَهُ فِي الْفَرْجِ أَوْ الدُّبُرِ وَذَلِكَ لا يُفْسِدُ الصَّوْمَ [أَيْ صَوْمَ الْمُدْخِلِ]»، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيُّ فِي كِتَابِهِ «أَسْنَى الْمَطَالِبِ شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ» وَفِي «فَتْحِ الْوَهَّابِ» وَالْخَطِيبُ الشَّرْبِينِيُّ فِي كِتَابِهِ «مُغْنِي الْمُحْتَاجِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَعَانِي أَلْفَاظِ الْمِنْهَاجِ» وَشَمْسُ الدِّينِ الرَّمْلِيُّ فِي كِتَابِهِ «غَايَةِ الْبَيَانِ شَرْحِ زُبَدِ ابْنِ رَسْلانَ» وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي كِتَابِ «الْمِنْهَاجِ الْقَوِيمِ» وَالسُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ «الأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ» وَالشَّرْوَانِيُّ وَابْنُ الْقَاسِمِ الْعِبَادِيُّ فِي حَوَاشِيهِمَا «عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ» وَ«الْبَحْرِ الرَّائِقِ شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ» الْحَنَفِيُّ وَالْبُهُوتِيُّ الْحَنْبَلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْمُرْبِعِ» وَغَيْرُهُمْ كَثِيرٌ فَلا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِ بَعْضِ الْجَهَلَةِ لِهَذَا الْحُكْمِ. أَمَّا الْخُنْثَى الَّذِي اتَّضَحَتْ ذُكُورَتُهُ فَإِنَّهُ إِذَا جَامَعَ بِقُبُلِهِ الأَصْلِيِّ أَفْطَرَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالِاسْتِمْنَاءِ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ الْمَنِيِّ بِنَحْوِ الْيَدِ.
الشَّرْحُ أَنَّ الِاسْتِمْنَاءَ وَهُوَ إِخْرَاجُ الْمَنِيِّ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ مُفَطِّرٌ سَوَاءٌ كَانَ بِيَدِ نَفْسِهِ أَوْ بِيَدِ زَوْجَتِهِ أَوْ بِسَبَبِ الْقُبْلَةِ أَوِ الْمُضَاجَعَةِ بِلا حَائِلٍ [أَمَّا لَوْ ضَمَّهَا إِلَيْهِ وَبَيْنَهُمَا ثَوْبٌ يَمْنَعُ مُلاقَاةَ الْبَشَرَتَيْنِ وَأَنْزَلَ الْمَنِيَّ فَإِنَّهُ لا يُفْطِرُ هَذَا إِذَا لَمْ يَقْصِدْ بِالضَّمِّ مَعَ الْحَائِلِ إِخْرَاجَ الْمَنِيَّ أَمَّا إِذَا قَصَدَ ذَلِكَ وَخَرَجَ الْمَنِيُّ فَهَذَا اسْتِمْنَاءٌ مُبْطِلٌ] فَإِنَّهُ يُفْطِرُ بِهِ مَعَ الْعِلْمِ وَالتَّعَمُّدِ وَالِاخْتِيَارِ، وَسَوَاءٌ قَصَدَ بِذَلِكَ الإِنْزَالَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ ، أَمَّا لَمْسُ مَنْ لا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَمَحْرَمِهِ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ الْمَنِيُّ بِغَيْرِ قَصْدِ الإِنْزَالِ لَمْ يُفْطِرْ وَإِلَّا أَفْطَرَ.
فَالْقُبْلَةُ لا تُفَطِّرُ الصَّائِمَ إِنْ لَمْ يُنْزِلْ فَقَدْ رَوَى مَالِكٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُقَبِّلُ بَعْضَ أَزْوَاجِهِ وَهُوَ صَائِمٌ ثُمَّ تَضْحَكُ لَكِنْ إِنْ كَانَ اللَّمْسُ لِلزَّوْجَةِ يُحَرِّكُ شَهْوَةَ الصَّائِمِ فَحَرَامٌ عَلَيْهِ إِنْ خَشِيَ الإِنْزَالَ وَإِلَّا فَتَرْكُهُ أَوْلَى.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالِاسْتِقَاءَةِ.
الشَّرْحُ أَنَّ الِاسْتِقَاءَةَ مُفَطِّرَةٌ، فَمَنْ قَاءَ بِطَلَبٍ مِنْهُ بِنَحْوِ إِدْخَالِ إِصْبَعِهِ أَوْ إِدْخَالِ نَحْوِ رِيشَةٍ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيْمِ وَذِكْرِ الصَّوْمِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ، سَوَاءٌ عَادَ مِنَ الْقَىْءِ إِلَى الْجَوْفِ شَىْءٌ أَوْ لا وَذَلِكَ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ [أَيْ غَلَبَهُ] فَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَمَنِ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ قَضَاءٌ» بِخِلافِ قَلْعِ النُّخَامَةِ مِنَ الدِّمَاغِ أَوْ مِنَ الْبَاطِنِ فَإِنَّهَا لا تُفَطِّرُ وَفِي ذَلِكَ فُسْحَةٌ لِلنَّاسِ [وَالنُّخُامَةُ بِالضَّمِّ النُّخَاعَةُ، اللَّيْثُ: النُّخَامَةُ مَا يَخْرُجُ مِنَ الْخَيْشُومِ عِنْدَ التَّنَخُّمِ].
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَنِ الرِّدَّةِ.
الشَّرْحُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الصِّيَامِ الإِمْسَاكَ أَيْ كَفَّ النَّفْسِ عَنِ الرِّدَّةِ أَيْ عَنْ قَطْعِ الإِسْلامِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى مِنْهَا جَمِيعَ النَّهَارِ، فَمَنِ ارْتَدَّ وَلَوْ لَحْظَةً مِنَ النَّهَارِ بَطَلَ صَوْمُهُ كَالصَّلاةِ سَوَاءٌ كَانَ كُفْرُهُ بِالْقَوْلِ أَوِ الْفِعْلِ أَوِ الِاعْتِقَادِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَعَنْ دُخُولِ عَيْنٍ جَوْفًا إِلَّا رِيقَهُ الْخَالِصَ الطَّاهِرَ مِنْ مَعْدِنِهِ.
الشَّرْحُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الصَّائِمِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ إِدْخَالِ عَيْنٍ إِلَى جَوْفِهِ وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ قَلِيلَةً كَحَبَّةِ سِمْسِمٍ وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا لا يُؤْكَلُ كَحَصَاةٍ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْجَوْفُ الَّذِي يُحِيلُ الْغِذَاءَ وَغَيْرُهُ [وَكَذَلِكَ يُفْطِرُ مَنْ طَعَنَ جَوْفَهُ، فَلَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ أَوْ جَرَحَهُ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ فَوَصَلَتِ السِّكِّينُ إِلَى دِمَاغِهِ أَوْ جَوْفِهِ أَفْطَرَ]، فَمَنْ تَنَاوَلَ عَيْنًا فَدَخَلَتْ إِلَى جَوْفِهِ مِنْ مَنْفَذٍ مَفْتُوحٍ عَالِمًا بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ مُتَعَمِّدًا لا نَاسِيًا وَمُخْتَارًا لا مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ أَفْطَرَ، وَمِنَ الْجَوْفِ مَخْرَجُ الْحَاءِ فَمَا جَاوَزَ مِنَ الْفَمِ إِلَى مَخْرَجِ الْحَاءِ هُوَ مُفَطِّرٌ هَذَا عَلَى قَوْلٍ، وَعَلَى قَوْلٍ إِلَى مَخْرَجِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ، وَكَذَلِكَ مَا جَاوَزَ الْخَيْشُومَ وَالْخَيْشُومُ مُنْتَهَى الأَنْفِ، وَلا يُفَطِّرُ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْخَيْشُومَ، وَمَا جَاوَزَ الإِحْلِيلَ وَهُوَ مَخْرَجُ الْبَوْلِ فِيهِ خِلافٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ حَيْثُ النَّظَرُ أَنَّهُ لا يُفَطِّرُ. وَلَوْ أَدْخَلَتِ الْمَرْأَةُ إِصْبَعَهَا فِي فَرْجِهَا إِلَى مَا وَرَاءَ مَا يَظْهَرُ مِنْ فَرْجِهَا عِنْدَ قُعُودِهَا عَلَى قَدَمَيْهَا لِقَضَاءِ حَاجَتِهَا أَفْطَرَتْ، وَالْحُقْنَةُ فِي الْقُبُلِ أَوِ الدُّبُرِ تُفَطِّرُ أَيْضًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الشَّىْءُ الَّذِي يَصِلُ إِلَى مَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْمِحْقَنَةُ يُفَطِّرُ أَمَّا مَا يَصِلُ إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ لا يُفَطِّرُ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إِذَا أَدْخَلَ إِصْبَعَهُ فِي دُبُرِهِ وَلَوْ مِقْدَارًا قَلِيلًا وَرَاءَ مَا يُفْرَكُ عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ أَفْطَرَ.
وَأَمَّا الْقَطْرَةُ فِي الْعَيْنِ فَلا تُفَطِّرُ فِي مَذْهَبِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَلَوْ شَعَرَ بِطَعْمِهَا فِي حَلْقِهِ أَمَّا إِنْ وَصَلَ إِلَى ظَاهِرِ الْفَمِ فَبَلَعَهُ أَفْطَرَ.
وَلا يَضُرُّ دُخُولُ مَا سِوَى الْعَيْنِ كَرَائِحَةِ الْبَخُورِ وَلَوْ تَعَمَّدَهُ إِلَّا أَنَّ شُرْبَ السِّيكَارَةِ وَابْتِلاعَ مَا يَنْحَلُّ مِنَ التِّنْبَاكِ يَضُرُّ لِأَنَّ السِّيكَارَةَ يَنْفَصِلُ مِنْهَا أَجْزَاءٌ لَطِيفَةٌ تَدْخُلُ الْجَوْفَ بِخِلافِ الْبَخُورِ، وَلا يَضُرُّ أَيْضًا مَا تَتَشَرَّبُهُ الْمَسَامُّ مِنَ الدُّهْنِ وَالْكُحْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الأُذُنُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ هِيَ مَنْفَذٌ مَفْتُوحٌ أَمْ لا وَإِنَّمَا هِيَ كَالْمَسَامِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَا دَخَلَ الأُذُنَ وَجَاوَزَ الظَّاهِرَ إِلَى بَاطِنِهَا أَيْ جَاوَزَ خَرْقَ الأُذُنِ مِنْ مَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ أَوْ دُهْنٍ مُفَطِّرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لا يُفَطِّرُ لِأَنَّهُ كَتَشَرُّبِ الْمَسَامِّ.
وَيُعْفَى مِنْ ذَلِكَ عَنْ وُصُولِ الْغُبَارِ وَإِنْ تَعَمَّدَ فَتْحَ فَمِهِ لَهُ وَكَذَلِكَ الدَّقِيقُ عِنْدَ غَرْبَلَتِهِ فَإِنَّهُمَا لا يُفَطِّرَانِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ غُبَارُ السُّوسِ عِنْدَ تَحْضِيرِ شَرَابِهِ وَغُبَارُ الطَّبْشُورِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلْكِتَابَةِ عَلَى اللَّوْحِ إِنْ دَخَلَ شَىْءٌ مِنْهُ إِلَى الْجَوْفِ مِنْ دُونِ تَعَمُّدٍ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ. وَيُعْفَى أَيْضًا عَنِ الرِّيقِ الْخَالِصِ الطَّاهِرِ مِنْ مَعْدِنِهِ أَيْ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الْفَمِ بِأَنْ يَنْفَصِلَ عَنِ اللِّسَانِ وَلَوْ إِلَى ظَاهِرِ الشَّفَةِ هَذَا إِذَا وُجِدَ عَيْنُ الرِّيقِ الْمُتَجَمِّعِ، أَمَّا مُجَرَّدُ الْبَلَلِ فَلا يُؤَثِّرُ. وَأَمَّا الرِّيقُ الْمُخْتَلِطُ بِغَيْرِهِ مِنَ الطَّاهِرَاتِ فَإِنَّهُ يُفَطِّرُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ وَكَذَلِكَ الرِّيقُ النَّجِسُ، وَلَوْ جَمَعَ رِيقَهُ فِي فَمِهِ وَأَخْرَجَهُ عَلَى لِسَانِهِ ثُمَّ بَلَعَهُ عَمْدًا لَمْ يُفْطِرْ، وَأَمَّا الرِّيقُ الَّذِي اخْتَلَطَ بِدَمِ اللِّثَةِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ صَفَا الرِّيقُ مِنْ هَذَا الدَّمِ ثُمَّ بَلَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ فَمَهُ أَفْطَرَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا صَفَا الرِّيقُ مِنَ الدَّمِ ثُمَّ بَلَعَهُ وَلَمْ يَغْسِلْ فَمَهُ لَمْ يُفْطِرْ. وَمَنِ ابْتَلَعَ رِيقَهُ مِنْ سِوَاكٍ أَوْ خَيْطٍ بَعْدَ أَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمَا وَأَخْرَجَهُ عَنِ الْفَمِ ثُمَّ رَدَّهُ إِلَيْهِ أَفْطَرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِحُرْمَةِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِمَّا يَخْفَى عَلَى الْعَوَامِّ أَيِ الْجُهَّالِ [أَمَّا اسْتِعْمَالُ السِّوَاكِ مَعَ مُجَرَّدِ وُجُودِ بَلَلٍ عَلَيْهِ أَوْ إِدْخَالُ خَيْطٍ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ بَلَلٍ إِلَى الْفَمِ ثُمَّ بَلْعُ الرِّيقِ الصَّافِي مِنْ مَعْدِنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلا يُفَطِّرَانِ].
وَمَنْ كَانَ يَمْشِي فِي الْمَطَرِ إِنْ دَخَلَ إِلَى فَمِهِ شَىْءٌ مِنَ الْمَاءِ فَبَلَعَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْطِرُ.
وَيُعْفَى عَنْ بُخَارِ الْمَاءِ السَّاخِنِ فِي الْحَمَّامِ وَدُخَانِ الْحَطَبِ وَعَنْ مُجَاوَرَةِ شَارِبِ السِّيكَارَةِ وَعَنْ شَمِّ بُخَارِ الطَّعَامِ فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ لا يُؤَثِّرُ لا إِنْ تَعَمَّدَ وَضْعَ رَأْسِهِ فَوْقَ الإِنَاءِ وَاسْتَنْشَقَ الْبُخَارَ بِحَيْثُ دَخَلَ إِلَى جَوْفِهِ فَإِنَّهُ لا يُعْفَى عَنْهُ حِينَئِذٍ.
وَلَوْ تَكَيَّفَ الْفَمُ بِكَيْفِيَّةٍ خَاصَّةٍ مِنْ طُولِ السُّكُوتِ وَتَرْكِ الأَكْلِ وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ ثُمَّ بَلَعَ الشَّخْصُ رِيقَهُ فَإِنَّهُ لا يُؤَثِّرُ إِلَّا إِذَا كَانَ الرِّيقُ مُتَغَيِّرًا بِمُخَالِطٍ. وَأَمَّا الإِبْرَةُ فِي الشِّرْيَانِ وَالْعَضَلِ فَإِنَّهَا لا تُفَطِّرُ، وَكَذَلِكَ إِبْرَةُ الْبَنْجِّ فِي اللِّثَةِ لا تُفَطِّرُ إِلَّا إِذَا تَغَيَّرَ رِيقُهُ فَبَلَعَهُ. وَكَذَلِكَ الْمَصْلُ فِي الشِّرْيَانِ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ فِي الْمُسْتَشْفَيَاتِ فَإِنَّهُ لا يُفَطِّرُ.
وَمَنْ سَبَقَهُ الْمَاءُ إِلَى جَوْفِهِ فِي الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ أَوِ الِاسْتِنْشَاقِ فَإِنْ كَانَ بَالَغَ بِذَلِكَ فَأَوْصَلَهُ إِلَى الْحَلْقِ فَانْبَلَعَ بِغَيْرِ إِرَادَتِهِ أَفْطَرَ لِأنَّ الصَّائِمَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُبَالِغَ بِالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْغُسْلِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مُبَالَغَتُهُ لِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ كَتَطْهِيرِ فَمِهِ مِنْ نَجِسٍ فَانْبَلَعَ الْمَاءُ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ فَإِنَّهُ لا يُفْطِرُ.
فَائِدَةٌ قَالَ الأَذْرَعِيُّ [فِي حَاشِيَةِ شِهَابِ الدِّينِ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ] «لا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ مَنْ عَمَّتْ بَلْوَاهُ بِدَمِ لِثَتِهِ بِحَيْثُ يَجْرِي دَائِمًا أَوْ غَالِبًا إِنَّهُ يُتَسَامَحُ بِمَا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَيَكْفِي بَصْقُهُ الدَّمَ وَيُعْفَى عَنْ أَثَرِهِ وَلا سَبِيلَ إِلَى تَكْلِيفِهِ غَسْلَهُ جَمِيعَ نَهَارِهِ إِذِ الْفَرْضُ أَنَّهُ يَجْرِي دَائِمًا أَوْ يَتَرَشَّحُ وَرُبَّمَا إِذَا غَسَلَهُ زَادَ جَرَيَانُهُ» اهـ.
وَلَوْ نَامَ الشَّخْصُ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ بَلَعَ رِيقَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ رِيقَهُ مُتَغَيِّرٌ بِالدَّمِ الَّذِي نَزَلَ مِنْ لِثَتِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فَسَدَ صَوْمُهُ فَيُمْسِكُ عَنِ الأَكْلِ بَقِيَّةَ النَّهَارِ ثُمَّ يَقْضِي وَمَنْ أَكَلَ لِظَنِّهِ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَدْخُلْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ يُمْسِكُ وَيَقْضِي .
تَنْبِيهٌ مَا مَرَّ أَنَ مَنْ ظَهَرَ رِيقُهُ إِلَى خَارِجِ الشَّفَةِ فَبَلَعَهُ أَفْطَرَ مُقَيَّدٌ بِأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْحُكْمِ أَمَّا إِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ فَلا يُفْطِرُ كَمَسْأَلَةِ السِّوَاكِ وَالْخَيْطِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِنَّ ابْتِلاعَ الْبَلْغَمِ لا يُفَطِّرُ إِلَّا إِنْ أَخْرَجَهُ الشَّخْصُ إِلَى خَارِجِ فَمِهِ ثُمَّ رَدَّهُ فَابْتَلَعَهُ، وَفِي ذَلِكَ فُسْحَةٌ لِلنَّاسِ.
أَمَّا الدَّوَاءُ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ مَنْ أُصِيبَ بِالرَّبْوِ عَنْ طَرِيقِ الْفَمِ فَإِنَّهُ مُفَطِّرٌ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنْ هَذَا الدَّوَاءِ عَيْنٌ تَصِلُ إِلَى الْجَوْفِ مَعَ سُهُولَةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ.
وَأَمَّا مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ وَهُوَ نَاسٍ وَلَوْ فِي صِيَامِ النَّفْلِ فَلا يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ».
فَوَائِدُ:
الأُولَى: مَنْ رَأَى غَيْرَهُ فِي رَمَضَانَ يَأْكُلُ نَاسِيًا فِي النَّهَارِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّرَهُ بِالصِّيَامِ وُجُوبًا.
الثَّانِيَةُ: يُسَنُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يُعَجِّلَ الْفِطْرَ وَيُؤَخِّرَ السُّحُورَ [السُّحُورُ: هُوَ فِعْلُ الأَكْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَمَّا السَّحُورُ هُوَ الْمَأْكُولُ. فَالسَّحُورُ بِالْفَتْحِ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ] وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ [فِي صَحِيحَيْهِمَا] عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ» وَحَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ [فِي سُنَنِهِ] مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ «أَحَبُّ عِبَادِي إِلَيَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا».
الثَّالِثَةُ: يُسَنُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى تَمْرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى مَاءٍ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ عَامِرٍ الضَّبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى مَاءٍ فَإِنَّهُ طَهُورٌ».
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَنْ لا يُجَنَّ وَلَوْ لَحْظَةً وَأَنْ لا يُغْمَى عَلَيْهِ كُلَّ الْيَوْمِ.
الشَّرْحُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الصَّوْمِ أَنْ لا يَطْرَأَ عَلَى الصَّائِمِ جُنُونٌ فِي جُزْءٍ مِنَ النَّهَارِ فَمَنْ جُنَّ فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَلَوْ لَحْظَةً فَإِنَّه يُفْطِرُ وَلَوْ كَانَ سَبَبُ جُنُونِهِ أَنَّهُ شَرِبَ قَبْلَ الْفَجْرِ شَيْئًا مُجَنِّنًا وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ.
وَمِنْ شُرُوطِهِ أَيْضًا أَنْ لا يَحْصُلَ لَهُ إِغْمَاءٌ يَسْتَغْرِقُ كُلَّ النَّهَارِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْ كُلَّ النَّهَارِ فَلا يَضُرُّ وَإِلَّا فَسَدَ صَوْمُهُ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلا يَصِحُّ صَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَكَذَا النِّصْفُ الأَخِيرُ مِنْ شَعْبَانَ وَيَوْمُ الشَّكِّ إِلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِمَا قَبْلَهُ أَوْ لِقَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ وِرْدٍ كَمَنِ اعْتَادَ صَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ.
الشَّرْحُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ وَلا يَجُوزُ صَوْمُ الْعِيدَيْنِ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَلا صَوْمُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلاثَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الصَّوْمُ لِفِدْيَةِ التَّمَتُّعِ، وَكَذَلِكَ لا يَصِحُّ وَلا يَجُوزُ صَوْمُ النِّصْفِ الأَخِيرِ مِنْ شَعْبَانَ، وَكَذَلِكَ لا يَصِحُّ وَلا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ وَلَوْ بِنِيَّةِ الِاحْتِيَاطِ.
أَمَّا النِّصْفُ الأَخِيرُ مِنْ شَعْبَانَ فَلِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ [فِي السُّنَنِ] وَالنَّسَائِيِّ [فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى] مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلا تَصُومُوا».
وَيُسَنُّ صَوْمُ يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِحَدِيثِ: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ [فِي سُنَنِهِ].
فَائِدَةٌ عَلَى الإِنْسَانِ الْعَاقِلِ أَنْ يَعْتَنِيَ كُلَّ الِاعْتِنَاءِ بِالتَّزَوُّد لِلآخِرَةِ بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ زَائِدَيْنِ وَفِي ذَلِكَ أَنْشَدَ بَعْضٌ: [الْوَافِر]
إِذَا الْعِشْرُونَ مِنْ شَعْبَانَ وَلَّتْ فَوَاصِلْ شُرْبَ لَيْلِكَ بِالنَّهَارِ
وَلا تَشْرَبْ بِأَقْدَاحٍ صِغَارٍ فَقَدْ ضَاقَ الزَّمَانُ عَنِ الصِّغَارِ
وَمُرَادُهُمْ أَنَّ الْمَوْتَ ءَاتٍ قَرِيبٌ فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَزَوَّدَ لِآخِرَتِكَ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا بِجِدٍّ بَالِغٍ وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ مَضَى مِنْ عُمُرِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً فَلْيَجِدَّ بِالطَّاعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ عُمُرِ هَذِهِ الأُمَّةِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَلا يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِهِ [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ] فَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهِ عَنْهُ.
وَيَوْمُ الشَّكِّ هُوَ يَوْمُ الثَّلاثِينِ مِنْ شَعْبَانَ الَّذِي يَتَحَدَّثُ النَّاسُ الَّذِينَ لا يَثْبُتُ الصِّيَامُ بِشَهَادَتِهِمْ كَالصِّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ كَالْفَسَقَةِ وَالْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ أَنَّهُمْ رَأَوْا هِلالَ رَمَضَانَ فِي لَيْلَتِهِ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ مِنْ رَمَضَانَ، فَيَوْمُ الشَّكِّ هُوَ يَوْمُ ثَلاثِيْ شَعْبَانَ وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا]، وَقَالَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِيْنَ» رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَإِنَّمَا يُحْرُمُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ وَصَوْمُ مَا بَعْدَ نِصْفِ شَعْبَانَ لِمَنْ لَمْ يُوَافِقْ عَادَةً لَهُ وَأَمَّا مَنْ وَافَقَ عَادَةً لَهُ كَأَنْ كَانَ يَصُومُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ ءَاخِرِ كُلِّ شَهْرٍ فَصَامَ فَلا يَضُرُّهُ وَلَكِنْ لا يَصُومُهُ بِنِيَّةِ رَمَضَانَ، وَلا يَحْرُمُ لِمَنْ وَصَلَ مَا بَعْدَ النِّصْفِ بِمَا قَبْلَهُ.
تَنْبِيهٌ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ الصِّيَامُ حُصُولُ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي بِلادِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ عَلامَةٌ عَلَى ثُبُوتِ رَمَضَانَ بِأَنْ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِضَرْبِ الْمِدْفَعِ فَإِنَّ هَذَا يَثْبُتُ بِهِ الصِّيَامُ [هَذَا فِي الْبِلادِ الَّتِي لا يُثْبِتُ فِيهَا الْقَاضِي دُخُولَ شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ] وَهُوَ مُلْحَقٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلالِ أَوِ اسْتِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ.
تَنْبِيهٌ يَجُوزُ لِمَنْ أَخْبَرَهُ صَبِيٌّ أَوْ فَاسِقٌ أَوِ امْرَأَةٌ أَوْ عَبْدٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلالِ الصَّوْمُ إِنْ وَثِقَ بِهِ.
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْبَالِغِ الْعَدْلِ الْحُرِّ بِقَوْلِهِ «أَشْهَدُ أَنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ هِلالَ رَمَضَانَ». وَالْعَدْلُ مَنْ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ وَيَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ الْكَبَائِرَ وَلا يُكْثِرُ مِنَ الصَّغَائِرِ حَتَّى تَغْلِبَ حَسَنَاتِهِ وَيُحَافِظُ عَلَى مُرُوءَةِ أَمْثَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِذَا شَهِدَ الْعَدْلُ بِرُؤْيَةِ الْهِلالِ عِنْدَ الْقَاضِي وَزُكِّيَ عِنْدَهُ فَأَثْبَتَ الْقَاضِي هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَجَبَ الصِّيَامُ عَلَى أَهْلِ بَلَدِ الإِثْبَاتِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْبِلادِ الْقَرِيبَةِ مِنْ بَلَدِ الرُّؤْيَةِ بِاتِّحَادِ الْمَطَالِعِ، لا مَنْ خَالَفَ مَطْلَعُهُمْ مَطْلَعَهَا بِأَنْ لَمْ يَتَّحِدِ الْبَلَدَانِ فِي الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ كَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ فَلا يَعُمُّهَا الْحُكْمُ بَلْ لا يَجُوزُ لِأَهْلِهَا أَنْ يَصُومُوا. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَجِبُ الصِّيامُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ عَلِمُوا ثُبُوتَ الصِّيَامِ فِي بَلَدٍ مَا مَهْمَا بَعُدَتْ تِلْكَ الْبِلادُ عَنِ الْبَلَدِ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ الرُّؤْيَةُ، فَلا يُشْتَرَطُ عِنْدَهُ الْقُرْبُ بِتَوَافُقِ الْبَلَدَيْنِ فِي الشُّرُوقِ وَالْغُرُوبِ، فَيَجِبُ عِنْدَهُ عَلَى أَهْلِ الْمَغْرِبِ الأَقْصَى إِذَا عَلِمُوا بِثُبُوتِ الصِّيَامِ فِي الْمَشْرِقِ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ. أَمَّا إِذَا قَالَ أَهْلُ الْفَلَكِ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ اعْتِمَادًا عَلَى الْحِسَابِ فَلا يَجُوزُ أَنْ نَصُومَ اعْتِمَادًا عَلَى قَوْلِهِمْ، هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الرُّزْنَامَاتِ يُقَالُ لَهُمُ الْفَلَكِيُّونَ أَوِ الْمُنَجِّمُونَ أَوِ الْحُسَّابُ لِأَنَّهُمْ يَحْسِبُونَ سَيْرَ الْقَمَرِ أَوِ الْمُؤَقِّتُونَ، هَؤُلاءِ لا يُعْتَمَدُ قَوْلُهُمْ فِي الصِّيَامِ، حَتَّى الْحَاسِبُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَ لِمُجَرَّدِ أَنَّ عِلْمَهُ الَّذِي دَرَسَهُ أَدَّاهُ إِلَى أَنَّ غَدًا أَوَّلَ رَمَضَانَ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ فَفِي كِتَابِ حَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ الْحَنَفِيِّ يَقُولُ: «(قَوْلُهُ وَلا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْمُؤَقِّتِينَ) أَيْ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى النَّاسِ بَلْ فِي الْمِعْرَاجِ [أَيْ كِتَابِ الْمِعْرَاجِ] لا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمْ بِالإِجْمَاعِ، وَلا يَجُوزُ لِلْمُنَجِّمِ أَنْ يَعْمَلَ بِحِسَابِ نَفْسِهِ»، ثُمَّ نَقَلَ عَنْ فَتَاوَى الشِّهَابِ الرَّمْلِيِّ الْكَبِيرِ الشَّافِعِيِّ مَا نَصُّهُ: وَوَجْهُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ الشَّارِعَ [أَيْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] لَمْ يَعْتَمِدِ الْحِسَابَ بَلْ أَلْغَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ بِقَوْلِهِ «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» اهـ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] مَعْنَاهُ اللَّهُ مَا كَلَّفَنَا أَنْ نَعْمَلَ بِالْحِسَابِ إِنَّمَا نَحْنُ نَعْتَمِدُ عَلَى الرُّؤْيَةِ أَوِ الِاسْتِكْمَالِ وَالِاسْتِكْمَالُ حِسَابُهُ يَعُودُ إِلَى الرُّؤْيَةِ.
وَفِي كِتَابِ شَرْحِ الدَّرْدِيرِ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ الْمَالِكِيِّ يَقُولُ «(لا) يَثْبُتُ رَمَضَانُ (بِمُنَجِّمٍ) أَيْ بِقَوْلِهِ لا فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَلا فِي حَقِّ نَفْسِهِ» اهـ.
وَفِي الْكِتَابِ الْحَنْبَلِيِّ كَشَّافِ الْقِنَاعِ عَنْ مَتْنِ الإِقْنَاعِ يَقُولُ: «(وَإِنْ نَوَاهُ [أَيْ صَوْمَ يَوْمِ الثَّلاثِينِ مِنْ شَعْبَانَ] بِلا مُسْتَنَدٍ شَرْعِيٍّ) مِنْ رُؤْيَةِ هِلالِهِ أَوْ إِكْمَالِ شَعْبَانَ أَوْ حَيْلُولَةِ غَيْمٍ أَوْ قَتَرٍ وَنَحْوِهِ (كَـ) أَنْ صَامَهُ لـِ(حِسَابٍ وَنُجُومٍ) وَلَوْ كَثُرَتْ إِصَابَتُهُمَا (أَوْ مَعَ صَحْوٍ فَبَانَ مِنْهُ لَمْ يُجْزِئْهُ) صَوْمُهُ لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ لِمَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ شَرْعًا» اهـ يَعْنِي لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى الشَّرْعِ.
وَفِي الْكِتَابِ الشَّافِعِيِّ «شَرْحِ رَوْضِ الطَّالِبِ»: «وَلا عِبْرَةَ بِالْمُنَجِّمِ أَيْ بِقَوْلِهِ فَلا يَجِبُ بِهِ الصَّوْمُ وَلا يَجُوزُ» اهـ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [سُورَةَ النَّحْل/16]، فَمَعْنَاهُ الِاهْتِدَاءُ فِي أَدِلَّةِ الْقِبْلَةِ وَفِي السَّفَرِ.
وَأَمَّا الْمُؤَقِّتُونَ الَّذِينَ يَعْتَمِدُونَ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّمْسِ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَلِلْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ بِالنَّظَرِ إِلَى الشَّفَقِ وَالْفَجْرِ الصَّادِقِ ثُمَّ يَعْمَلُونَ تَوْقِيتًا لِسَائِرِ أَيَّامِ السَّنَةِ فَيَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَعْتَمِدُوا عَلَى ذَلِكَ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ الِاعْتِمَادُ عَلَى تَوْقِيتِهِمْ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ أَيْ عَدَالَةِ الْمُوَقِّتِ.
هَذَا الَّذِي عَمِلَ تَوْقِيتًا لِبَيْرُوتَ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ الْبَرْبِيرُ قِيلَ إِنَّهُ فَقِيهٌ شَافِعِيٌّ لَكِنْ هَذَا الَّذِي بِأَيْدِي النَّاسِ فِي لُبْنَانَ لَيْسَ مِمَّا كَتَبَهُ فَإِنْ وَافَقَ الأَصْلَ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لَكِنَّنَا جَرَّبْنَا فَوَجَدْنَا فِي بَعْضِ هَذِهِ النُّسَخِ الْغَلَطَ بِنَحْوِ ثَلاثِ دَقَائِقَ فَلا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلا رُخْصَةَ لَهُ فِي فِطْرِهِ بِجِمَاعٍ فَعَلَيْهِ الإِثْمُ وَالْقَضَاءُ فَوْرًا وَكَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا أَيْ تَمْلِيكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُدًّا مِنْ قَمْحٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ غَالِبُ قُوتِ الْبَلَدِ، وَالْمُدُّ هُوَ مِلْءُ الْكَفَّيْنِ الْمُعْتَدِلَتَيْنِ.
الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ يَقِينًا وَلَوْ حُكْمًا كَأَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَاسْتَدَامَ وَلا رُخْصَةَ لَهُ فِي فِطْرِهِ بِالْجِمَاعِ وَحْدَهُ وَكَانَ هَذَا الإِفْسَادُ يَأْثَمُ بِهِ لِأَجْلِ الصَّوْمِ وَلَمْ تَكُنْ هُنَاكَ شُبْهَةٌ أَيْ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ تَعَمُّدَ الإِفْسَادِ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الإِثْمِ وَالْكَفَّارَةِ الْفَوْرِيَّةِ وَهِيَ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي صِفَتِهَا، وَالظِّهَارُ هُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْكَفَّارَةِ إِلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا حَالًا.
وَيُشْتَرَطُ لِهَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا تَامًّا، وَإِنَّمَا قَالُوا يَوْمٌ تَامٌّ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَسْقُطُ لَوْ طَرَأَ جُنُونٌ أَوْ مَوْتٌ أَثْنَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي جَامَعَ فِيهِ. وَتَتَكَرَّرُ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ بِتَكَرُّرِ الأَيَّامِ وَلا تَجِبُ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ وَكَذَلِكَ الْوَاطِئُ إِنْ كَانَ نَاسِيًا لِلصَّوْمِ أَوْ جَاهِلًا مَعْذُورًا كَأَنْ يَكُونَ قَرِيبَ عَهْدٍ بِالإِسْلامِ أَوْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَامَعَ مُكْرَهًا فَلا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ كَمَا لا يَفْسُدُ صَوْمُهُ.
وَكَذَلِكَ لا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَ يَوْمٍ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَلَوْ كَانَ صَوْمًا وَاجِبًا بِنَذْرٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ بِالتَّعَدِّي بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَكَذَلِكَ لا كَفَّارَةَ وَلا إِثْمَ عَلَى مَنْ جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ التَّرَخُّصِ بِسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ بِأَنْ كَانَ مُسَافِرًا سَفَرًا يُبِيحُ الْفِطْرَ أَوْ مَرِيضًا يَجُوزُ لَهُ الإِفْطَارُ فَأَرَادَ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِالإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ.
بَيَانٌ التَّرَخُّصُ مَعْنَاهُ الْعَمَلُ بِالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ أَنْ يَتَرَخَّصَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ فِي الإِفْطَارِ فَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ إِذَا جَامَعَا بِغَيْرِ نِيَّةِ التَّرَخُّصِ فَعَلَيْهِمَا الإِثْمُ لَكِنْ بِلا كَفَّارَةٍ.
تَنْبِيهٌ الْغِيبَةُ لا تُفَطِّرُ الصَّائِمَ قَالَ الشَّيْخُ مَرْعِيٌّ الْحَنْبَلِيُّ [فِي غَايَةِ الْمُنْتَهَى فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الإِقْنَاعِ وَالْمُنْتَهَى] مَا نَصُّهُ «قَالَ أَحْمَدُ يَتَعَاهَدُ صَوْمَهُ مِنْ لِسَانِهِ وَلا يُمَارِي وَيَصُونُ صَوْمَهُ، وَأَسْقَطَ أَبُو الْفَرَجِ ثَوَابَهُ بِغِيبَةٍ وَنَحْوِهَا وَلا فِطْرَ، قَالَ أَحْمَدُ لَوْ كَانَتِ الْغِيبَةُ تُفَطِّرُ مَا كَانَ لَنَا صَوْمٌ» اهـ. وَأَمَّا حَدِيثُ خَمْسٌ يُفَطِّرْنَ الصَّائِمَ الْقُبْلَةُ وَالْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ وَالنَّظَرُ بِشَهْوَةٍ وَالْكَذِبُ فَقَدْ حَكَمَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِالْوَضْعِ أَيْ هُوَ مَكْذُوبٌ.
وَمِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي الصِّيَامِ أَنْ يَحْفَظَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنَ الْكَلامِ الْفَاحِشِ لِأَنَّ الْكَلامَ الْفَاحِشَ الَّذِي هُوَ كَشَهَادَةِ الزُّورِ أَوِ الطَّعْنِ فِي الْمُسْلِمِ ظُلْمًا وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُذْهِبُ ثَوَابَ الصِّيَامِ فَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ مَهْمَا غَضِبَ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ فَلْيَقُلْ إِنِّي صَائِمٌ، مَعْنَاهُ أَنَا صَائِمٌ فَلا أُقَابِلُكَ بِالشَّتْمِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ [أَيْ لا يُحِبُّ هَذَا الصِّيَامَ أَيْ لَيْسَ لَهُ ثَوَابٌ]».
وَيُسَنُّ لِلصَّائِمِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ فِطْرِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ، ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُدَ [فِي سُنَنِهِ].
وَلا بُدَّ قَبْلَ الإِفْطَارِ مِنَ التَّحَقُّقِ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلا يَكْفِي الِاعْتِمَادُ عَلَى أَذَانِ بَعْضِ الإِذَاعَاتِ فَقَطْ فَإِنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ تَسَرُّعٌ فِي إِعْلانِ الأَذَانِ قَبْلَ وَقْتِهِ فِيهَا كَمَا حَصَلَ فِي الْمَاضِي.
وَيُسَنُّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ إِلَى ءَاخِرِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ وَلَوْ بِجَرْعَةِ مَاءٍ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» اهـ وَوَقْتُ السُّحُورِ يَبْدَأُ مِنْ بَعْدِ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ.
وَيُسَنُّ لِمَنْ أَفْطَرَ عِنْدَ شَخْصٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ: «أفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلائِكَةُ» كَمَا رَوَى ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ [فِي سُنَنِهِ] بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَائِدَةٌ مُهِمَّةٌ اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ شَهْرُ تَصْفِيَةِ الرُّوحِ وَلَيْسَ شَهْرَ التَّنَعُّمِ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَالَّذِي يَكُونُ هَمُّهُ الأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَاللِّبَاسَ لا يَكُونُ فِي الآخِرَةِ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى.
وَيَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ تَرْكُ التَّعَلُّقِ بِالْمُسْتَلَذَّاتِ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ «إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» أَيْ أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْكَامِلِينَ يَتْرُكُونَ التَّنَعُّمَ الْجَائِزَ، فِي الْحَبَشَةِ بَعْضُ النَّاسِ يَقْضُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ بِأَكْلِ مَقْلُوِّ الذُّرَةِ مَعَ الْبُنِّ لِتَهْذِيبِ النَّفْسِ، الإِكْثَارُ مِنْ أَنْوَاعِ الأَطْعِمَةِ تَنَعُّمٌ وَهُوَ مَكْرُوهٌ إِلَّا إِذَا كَانَ لِعُذْرٍ.
فَائِدَةٌ أُخْرَى مُهِمَّةٌ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ [الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي سُنَنِهِ] أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» وَمَعْنَاهُ لَهُ أَجْرٌ شَبِيهٌ بِأَجْرِهِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ تَمَامًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فَقَدْ كَفَرَ لِأَنَّ الَّذِي صَامَ رَمَضَانَ صَامَ الْفَرْضَ وَالَّذِي أَطْعَمَهُ عَمِلَ نَفْلًا فَالْقَوْلُ بِأَنَّ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ تَمَامًا مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ فِيهِ مُسَاوَاةُ الْفَرْضِ بِالنَّفْلِ.
مَسْئَلَةٌ مُهِمَّةٌ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ صِيَامٍ مِنْ رَمَضَانَ فَاتَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ بِلا عُذْرٍ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فَوْرًا كَالصَّلاةِ لِمَنْ فَاتَتْهُ بِغَيْرِ عُذْرٍ.
وَأَمَّا مَنْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ فَيُسَنُّ لَهُ التَّعْجِيلُ بِالْقَضَاءِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصُومَ السُّنَّةَ كَسِتٍّ مِنْ شَوَالٍ قَبْلَ الْقَضَاءِ ثُمَّ يَقْضِي فِيمَا بَعْدُ.