(كِتَابُ) أَحْكَامِ (الطَّهَارَةِ)
الْكِتَابُ لُغَةً مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الضَّمِّ وَالْجَمْعِ وَاصْطِلاحًا اسْمٌ لِجِنْسٍ مِنَ الأَحْكَامِ أَمَّا الْبَابُ فَاسْمٌ لِنَوْعٍ مِمَّا دَخَلَ تَحْتَ ذَلِكَ الْجِنْسِ. وَالطَّهَارَةُ بِفَتْحِ الطَّاءِ لُغَةً النَّظَافَةُ وَشَرْعًا عُرِّفَتْ بِفِعْلِ مَا تُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلاةُ أَىْ مِنْ وُضُوءٍ وَغُسْلٍ وَتَيَمُّمٍ وَإِزَالَةِ نَجَاسَةٍ وَهُوَ كَمَا يَظْهَرُ خَاصٌّ بِالطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ وَعَرَّفَهَا النَّوَوِىُّ بِتَعْرِيفٍ يَشْمَلُ الْوَاجِبَةَ وَالْمَنْدُوبَةَ فَقَالَ هِىَ رَفْعُ حَدَثٍ أَوْ إِزَالَةُ نَجَسٍ أَوْ مَا فِى مَعْنَاهُمَا أَوْ عَلَى صُورَتِهِمَا اهـ فَالَّذِى فِى مَعْنَى رَفْعِ الْحَدَثِ التَّيَمُّمُ وَنَحْوُهُ وَالَّذِى فِى مَعْنَى إِزَالَةِ النَّجَسِ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْحَجَرِ وَالَّذِى عَلَى صُورَةِ رَفْعِ الْحَدَثِ الأَغْسَالُ الْمَنْدُوبَةُ وَالْوُضُوءُ الْمُجَدَّدُ وَالْغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فِى طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالَّذِى عَلَى صُورَةِ إِزَالَةِ النَّجَسِ الْغَسْلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مِنْ غَسَلاتِ النَّجَاسَةِ. أَمَّا الطُّهَارَةُ بِالضَّمِّ فَاسْمٌ لِبَقِيَّةِ الْمَاءِ أَىْ لِمَا فَضَلَ مِنْ مَاءِ طَهَارَتِهِ كَالَّذِى بَقِىَ فِى نَحْوِ الإِبْرِيقِ لا فِى نَحْوِ الْبِئْرِ.
وَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ ءَالَةً لِلطَّهَارَةِ اسْتَطْرَدَ الْمُصَنِّفُ لِأَنْوَاعِ الْمِيَاهِ فَقَالَ (الْمِيَاهُ الَّتِى يَجُوزُ) أَىْ يَصِحُّ (التَّطْهِيرُ بِهَا سَبْعُ مِيَاهٍ مَاءُ السَّمَاءِ) أَىِ النَّازِلُ مِنْهَا وَهُوَ الْمَطَرُ (وَمَاءُ الْبَحْرِ) أَىِ الْمِلْحِ (وَمَاءُ النَّهْرِ) أَىِ الْحُلْوِ (وَمَاءُ الْبِئْرِ) وَمِنْهَا بِئْرُ زَمْزَمَ (وَمَاءُ الْعَيْنِ) النَّابِعَةِ مِنَ الأَرْضِ (وَمَاءُ الثَّلْجِ وَمَاءُ الْبَرَدِ) أَىِ الْمَاءُ الْحَاصِلُ مِنْ ذَوَبَانِهِمَا وَيَجْمَعُ هَذِهِ السَّبْعَةَ قَوْلُكَ مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ نَبَعَ مِنَ الأَرْضِ عَلَى أَىِّ صِفَةٍ كَانَ مِنْ أَصْلِ الْخِلْقَةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَاءَ الَّذِى نَبَعَ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ النَّبِىِّ ﷺ فَإِنَّهُ طَهُورٌ شَرِبَ مِنْهُ الصَّحَابَةُ وَتَوَضَّئُوا.
(ثُمَّ الْمِيَاهُ) تَنْقَسِمُ مِنْ حَيْثُ حُكْمُهَا (عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ) أَحَدُهَا (طَاهِرٌ) فِى نَفْسِهِ (مُطَهِّرٌ) لِغَيْرِهِ (غَيْرُ مَكْرُوهٍ) اسْتِعْمَالُهُ (وَهُوَ الْمَاءُ الْمُطْلَقُ) عَنْ قَيْدٍ لازِمٍ فَلا يَضُرُّ فِى كَوْنِهِ مُطْلَقًا الْقَيْدُ الْمُنْفَكُّ فِى بَعْضِ الأَوْقَاتِ كَمَاءِ الْبِئْرِ وَأَمَّا مَا لا يَنْفَكُّ قَيْدُهُ كَمَا فِى قَوْلِكَ مَاءُ الْبِطِّيخِ مَثَلًا وَكَمَا فِى قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الطَّارِقِ ﴿مِنْ مَّاءٍ دَافِقٍ﴾ فَلا تَصِحُّ الطَّهَارَةُ بِهِ.
(وَ)الْقِسْمُ الثَّانِى (طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ مَكْرُوهٌ) اسْتِعْمَالُهُ تَنْزِيهًا فِى الْبَدَنِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ بِنَحْوِ شُرْبٍ وَأَكْلٍ لا فِى الثَّوْبِ (وَهُوَ الْمَاءُ الْمُشَمَّسُ) أَىِ الْمُسَخَّنُ بِتَأْثِيرِ الشَّمْسِ فِيهِ بِحَيْثُ تَنْفَصِلُ مِنَ الْمَاءِ زُهُومَةٌ الـزهومة تكون بـمعنى الرِّيح الـمُنْتِنَةِ وبِـمعنـى الريح الكريهة ولـو بلا نُتـن ولا تغيـُّرٍ وبـمعنـى الدُّسُومة كـما في مـختار الصحاح. والـمرادُ عنا كـما في حاشية الـجمل أنَّ الزهومة أجزاءٌ تظهرُ على وجه الـماء كالرغوة أي مع كونـها مُنْبَثَّةً في جـميع أجزائه تُؤَثِّرُ فِى الْبَدَنِ إِذَا لاقَتْهُ فَيُخَافُ عَلَيْهِ الْبَرَصُ مِنْهَا. وَإِنَّمَا يُكْرَهُ شَرْعًا بِبَلَدٍ حَارٍّ فِى إِنَاءٍ مُنْطَبِعٍ إِلَّا إِنَاءَ النَّقْدَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِصَفَاءِ جَوْهَرِهِمَا فَلا يَنْفَصِلُ مِنْهُمَا شَىْءٌ فَإِذَا بَرَدَ زَالَتِ الْكَرَاهَةُ لِزَوَالِ الْعِلَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْمُنْطَبِعِ الْمَطْرُوقُ بِالْمَطَارِقِ. وَاخْتَارَ النَّوَوِىُّ فِى الْمَجْمُوعِ عَدَمَ الْكَرَاهَةِ مُطْلَقًا وُجِدَتِ الشُّرُوطُ أَوْ لا لِضَعْفِ حَدِيثِهِ وَتَبَعًا لِنَصِّ الشَّافِعِىِّ فِى الأُمِّ حَيْثُ قَالَ وَلا أَكْرَهُ الْمَاءَ الْمُشَمَّسَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ اهـ.
وَيُكْرَهُ أَيْضًا شَدِيدُ السُّخُونَةِ وَإِنْ سُخِّنَ بِالنَّارِ وَشَدِيدُ الْبُرُودَةِ لِأَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ إِسْبَاغَ الْوُضُوءِ.
(وَ)الْقِسْمُ الثَّالِثُ (طَاهِرٌ) فِى نَفْسِهِ (غَيْرُ مُطَهِّرٍ) لِغَيْرِهِ (وَهُوَ) الْمَاءُ الْقَلِيلُ (الْمُسْتَعْمَلُ) فِى مَا لا بُدَّ مِنْهُ مِنْ وُضُوءٍ أَوْ غُسْلٍ أَوْ إِزَالَةِ نَجِسٍ بِحَيْثُ يَطْهُرُ بِهِ الْمَحَلُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ أَوْ يَزِيدَ وَزْنُهُ بَعْدَ انْفِصَالِهِ عَمَّا كَانَ قَبْلَ الْغَسْلِ بَعْدَ اعْتِبَارِ مَا يَتَشَرَّبُهُ الْمَغْسُولُ مِنَ الْمَاءِ وَمَا يُلْقِيهِ مِنَ الْوَسَخِ.
(وَ)مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَيْضًا الْمَاءُ (الْمُتَغَيِّرُ) أَحَدُ أَوْصَافِهِ مِنْ طَعْمٍ وَلَوْنٍ وَرِيحٍ (بِمَا) أَىْ بِشَىْءٍ (خَالَطَهُ مِنَ الطَّاهِرَاتِ) تَغَيُّرًا يَمْنَعُ إِطْلاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ حِسِّيًّا كَانَ التَّغَيُّرُ أَوْ تَقْدِيرِيًّا فِيمَا لا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ كَأَنِ اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ مَا يُوَافِقُهُ فِى صِفَاتِهِ كَمَاءِ الْوَرْدِ الْمُنْقَطِعِ الرَّائِحَةِ وَالطَّعْمِ وَكَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ إِذَا وَقَعَ فِى مَاءٍ قَلِيلٍ فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ بِمُخَالِفٍ مِنْ أَوْسَطِ الصِّفَاتِ كَطَعْمِ الرُّمَّانِ وَلَوْنِ عَصِيرِ الْعِنَبِ الأَسْوَدِ وَرِيحِ اللَّاذَنِ بِفَتْحِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ قِيلَ هُوَ اللُّبَانُ الذَّكَرُ وَقِيلَ غَيْرُهُ. فَإِنْ لَمْ يَمْنَعِ التَّغَيُّرُ إِطْلاقَ اسْمِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ تَغَيُّرُهُ بِالطَّاهِرِ يَسِيرًا فَلا يُسْلَبُ طَهُورِيَّتَهُ أَىْ فَهُوَ مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ خَالَطَهُ عَنِ الطَّاهِرِ الْمُجَاوِرِ لَهُ فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى طَهُورِيَّتِهِ وَلَوْ كَانَ التَّغَيُّرُ كَثِيرًا مَا دَامَ لَمْ يَنْحَلَّ مِنْهُ فِى الْمَاءِ شَىْءٌ وَإِلَّا فَهُوَ مِنَ الْمُخَالِطِ. وَكَذَا الْمُتَغَيِّرُ بِمُخَالِطٍ لا يَسْتَغْنِى الْمَاءُ عَنْهُ كَطِينٍ وَطُحْلُبٍ وَمَا فِى مَقَرِّهِ وَمَمَرِّهِ وَالْمُتَغَيِّرُ بِطُولِ الْمُكْثِ فَإِنَّهُ طَهُورٌ وَمِنْهُ يُعْلَمُ أَنَّ وِعَاءَ الْحَدِيدِ وَنَحْوِهِ إِذَا صَدِئَ وَفِيهِ مَاءٌ طَهُورٌ فَانْحَلَّ الصَّدَأُ فِى الْمَاءِ الَّذِى بِدَاخِلِهِ فَغَيَّرَهُ فَإِنَّهُ لا يُؤَثِّرُ فِى حُكْمِهِ وَيَبْقَى طَاهِرًا مُطَهِّرًا.
(وَ)الْقِسْمُ الرَّابِعُ (مَاءٌ نَجِسٌ) أَىْ مُتَنَجِّسٌ وَهُوَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا قَلِيلٌ (وَهُوَ الَّذِى حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ) تَغَيَّرَ أَمْ لا (وَهُوَ) أَىْ وَالْحَالُ أَنَّهُ مَاءٌ (دُونَ الْقُلَّتَيْنِ) وَيُسْتَثْنَى فِى الْقَدِيمِ أي الـمذهب القديـم للشافعيِّ فإنه ذهبَ فيه إلى أنـها لا تُنَـجِّسُهُ وقال الشيـرازِيُّ في التنبيه إنه الأرفقُ بالناس اهـ وقال الـماورديُّ إنه الأصحُّ اهـ وهو قولُ الـجمهور ومالَ رضيَ الله عنه في الأُم إلى أنـها تُنَـجِّسُهُ إن لـم تكن متولِّدةً فيه مِنْ هَذَا الْقِسْمِ الْمَيْتَةُ الَّتِى لا دَمَ لَهَا سَائِلٌ عِنْدَ قَتْلِهَا أَوْ شَقِّ عُضْوٍ مِنْهَا كَالذُّبَابِ إِنْ لَمْ تُطْرَحْ فِيهِ مَيْتَةً وَلَمْ تُغَيِّرْهُ وَإِلَّا بِأَنْ طُرِحَتْ فِيهِ مَيْتَةً أَوْ غَيَّرَتْهُ تَنَجَّسَ وَكَذَا النَّجَاسَةُ الَّتِى لا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ الْمُعْتَدِلُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا لا يُنَجِّسُ الْمَاءَ الْقَلِيلَ وَالْمَائِعَ. ويُسْتَثْنَى أَيْضًا صُوَرٌ أُخْرَى مَذْكُورَةٌ فِى الْمَبْسُوطَاتِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الضَّرْبَ الثَّانِىَ مِنَ الْقِسْمِ الرَّابِعِ بِقَوْلِهِ (أَوْ كَانَ) كَثِيرًا (قُلَّتَيْنِ) فَأَكْثَرَ (فَتَغَيَّرَ) بِالنَّجَسِ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا وَلَوْ تَقْدِيرًا بِمُخَالِفٍ مِنْ أَشَدِّ الصِّفَاتِ كَلَوْنِ الْحِبْرِ وَطَعْمِ الْخَلِّ وَرِيحِ الْمِسْكِ فَإِنَّهُ لا تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ لِتَنَجُّسِهِ. (وَالْقُلَّتَانِ خَمْسُمِائَةِ رِطْلٍ بَغْدَادِىٍّ تَقْرِيبًا فِى الأَصَحِّ) فِيهِمَا أَىْ فِى الْخَمْسِمِائَةِ رِطْلٍ لأنه قيل إنـهما ألف رطل وَفِى التَّقْرِيبِ أي فلـو نقصَ رطلٌ أو رطلانِ لـم يُؤثِّر وقيل إنـهما خـمسُمِائةٍ تـحديدًا. وَالرِّطْلُ الْبَغْدَادِىُّ كَمَا عِنْدَ النَّوَوِىِّ فِى الْمَجْمُوعِ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ أَىْ هَذَا وَزْنُ الْقُلَّتَيْنِ مِنَ الْمَاءِ وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ السَّعَةُ فَهُمَا مَا تَسَعُهُ حُفْرَةٌ مُدَوَّرَةٌ عَرْضُهَا ذِرَاعٌ وَعُمْقُهَا ذِرَاعَانِ وَنِصْفٌ.
وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ قِسْمًا خَامِسًا وَهُوَ الْمَاءُ الْمُطَهِّرُ الْمُحَرَّمُ اسْتِعْمَالُهُ فِى الطَّهَارَةِ كَالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ وَالْمَاءِ الْمُسَبَّلِ لِلشُّرْبِ.