وقال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22] ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مادحًا يوسف عليه السلام بقوله: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» رواه البخاري، وأما قوله تعالى إخبارًا عن يوسف: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] معنى: {وَهَمَّ بِهَا} أن جواب لولا محذوف يدل عليه ما قبله أي ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها فلم يحصل منه همّ بالزنى لأن الله أراه برهانه. وقال بعض المفسرين من أهل الحق إن معنى: {وَهَمَّ بِهَا} أي همّ بدفعها، أي أن الله أعلمه بالبرهان أنك يا يوسف لو دفعتها لقالت لزوجها دفعني ليجبرني على الفاحشة، فلم يدفعها بل أدار لها ظهره ذاهبًا فشقت قميصه من خلف، فكان الدليل عليها. أما ما يروى من أن يوسف همّ بالزنى وأنه حلّ إزاره وجلس منها مجلس الرجل من زوجته فإن هذا باطل لا يليق بنبي من أنبياء الله تعالى، قال الله تعالى في براءة يوسف: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
قال المحدث الفقيه الشيخ عبد الله الهرري في كتابه «صريح البيان في الرد على من خالف القرءان» ما نصه([1]): «بيان. تبرئة يوسف عليه السلام من الهمّ بالفاحشة. اعلم أن الأنبياء عليهم السلام تجب لهم العصمة من الكفر ومن المعصية الكبيرة وكذا الصغيرة التي فيها خسة ودناءة وكذا كل ما لا يليق بمنصبهم قبل النبوة وبعدها. وأما وصف القرءان ليوسف عليه السلام بالهمِّ فليس فيه دليل على همه بالفاحشة، والمقرر عند العلماء أن ظاهر الآية إذا كان يحتمل وجوهًا من التفسير منها ما يوافق الحق ومنها ما يخالفه يحمل على المعنى الذي ليس فيه محظور ولا يبطله نقل ولا عقل، لذا فإن القول بأن سيدنا يوسف عليه السلام همَّ بالزنا بامرأة العزيز أي قصد ذلك فهو كفر لأن فيه طعنًا وقدحًا بنبي من أنبياء الله، وهي دعوى باطلة بالنقل والعقل. فإذا كان الأمر كذلك يحمل الهمُّ إما على أنه همَّ بدفعها عنه وإما على أنه لم يحصل منه هم ألبتة على ما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى، فنقول وبالله التوفيق:
قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي طلبت امرأة العزيز واسمها زليخا وهي {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} كان {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي سيدنا يوسف {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي بمصر {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي أن يواقعها بأن يعمل معها ما يفعله الرجل مع زوجته، فأبى ورفض {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي قالت له: هَلُمَّ وأقبل وتعالَ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي رد عليها سيدنا يوسف عليه السلام بقوله: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه مما دعوتني إليه، قاله إنكارًا لما طلبت منه ثم قال: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أراد العزيز، قاله مجاهد وغيره، أي هو الذي صورة وأحسن مثواي أي أحسن منزلتي وأكرمني وائتمنني فلا أخونه في أهله.
الثاني: أن الضمير في {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} يعود على الله تعالى، قاله أبو حيان والزجاج، أي أن الله خالقي تولاني في طول مقامي ونجاني من الجب. أما معنى قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي لا ينجح من ظلَم ففعل ما ليس له فعله، وجازى الإحسان بالسوء.
قال المفسر أبو حيان في «النهر الماد» ما نصه([2]): «وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء استعاذ أوَّلًا بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل شيء ثم نبَّه على أن إحسان الله إليه لا يناسب أن يُجازى بالسوء، ثم نفى الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية، فلا يناسب أن أكون ظالمًا أضع الشيء غير موضعه». اهـ.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} أي قصدت وأرادت وعزمت امرأة العزيز على المعصية والزنا.
قال ابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير»([3]): «ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا لدلَّ على العزم والأنبياء معصومون من العزم على الزنا». اهـ.
وقال فخر الدين في تفسيره «التفسير الكبير»([4]): «إن يوسف عليه السلام كان بريئًا عن العمل الباطل والهم المحرم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين وبه نقول وعنه نذب». اهـ.
وقال المفسر اللغوي أبو حيان الأندلسي في تفسيره «النهر الماد»([5]): «الذي نقوله: إن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بها ألبتة بل هو منفي لوجود رواية البرهان كما تقول: قارنت لولا أن عصمك الله». اهـ.
قلنا: هذا هو الحق الذي يجب المصير إليه واعتقاده والذب عنه فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منزهون عن الهم المحرم ومن تسلط الشيطان على قلوبهم فلا يحصل منهم الهم بالزنا ولا إرادة ذلك والقصد على فعله.
أي كذلك أريناه البرهان {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} أي الإثم أو مقدمات الفحشاء {وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي الزنا {وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي يوسف عليه السلام {وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي الذين أخلصهم الله لرسالته أي طهرهم واختارهم واصطفاهم للنبوة.
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني يوسف والمرأة تسابقًا إلى الباب كل واحد منهما يريد أن يسبق صاحبه، وأراد يوسف أن يسبق ليفتح ويخرج وأرادت هي إن سبقت إمساك الباب لئلا يخرج فأدركته فتعلقت بقميصه من خلفه فجذبته {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي قطعته وشقَّته {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي من خلفه لأنه كان هو الأسبق إلى الباب وهي الطالبة له {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وجدا وصادفا {سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي زوجها {سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي عند الباب فلما رأت زوجها طلبت وجهًا للحيلة وكادت – من الكيد – فـ {سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} يعني الفاحشة {سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي يُحبَس {سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي مؤلم بأن يُضرَب.
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي سيدنا يوسف متبرئًا مما رمته به من الخيانة {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي هي طلبت مني الفاحشة وأبيتُ {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي حكم حاكم من أهلها {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} أي من قدام {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} أي من خلف {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ *فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} أي زوجها {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} يعني قال لها زوجها {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} يعني هذا الصنيع {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} يعني من حيلكن ومكركن {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وذلك لعظم فتنتهن.
{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} يعني قال له زوجها: يا يوسف {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} أي اكتمه ولا تخبر به أحدًا لئلا يشيع، ثم قال لزوجته {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} أي توبي من ذنبك {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} يعني من المذنبين. قال المفسرون: ثم شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدَّث بذلك النساء.
يتبيّن من سياق الآيات أن يوسف عليه السلام بريء من قصد الزنا والهم بفعله، ويُستدَل لذلك بأمور منها:
قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}، قال الفخر الرازي في «التفسير الكبير»([6]): «ذلك يدل على أن ماهية السوء والفحشاء مصروفة عنه». اهـ.
وقال أيضًا([7]): «إن الأنبياء عليهم السلام متى صدرت منهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوها بإظهار الندم والتوبة والتواضع، ولو كان يوسف عليه السلام أقدم هاهنا على هذه الكبيرة المنكرة لكان من المحال ألّا يتبعها بالتوبة والاستغفار، ولو أتى بالتوبة لحكى الله تعالى عنه إتيانه بها كما في سائر المواضع وحيث لم يوجد شيء من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة لا ذنب ولا معصية». وقال أيضًا: «واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف عليه السلام وتلك المرأة وزوجها والنسوة والشهود، ورب العالمين شهد ببراءته وإبليس أقر ببراءته أيضًا عن المعصية، وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذٍ لم يبقَ للمسلم توقّف في هذا الباب. أما بيان أن يوسف عليه السلام ادعى البراءة عن الذنب فهو قوله عليه السلام: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} وقوله عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وأما بيان أن المرأة اعترفت بذلك فلأنها قالت للنسوة: {وَلَقَدْ رَاوَدْتَّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 33] وأيضًا قالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51].
وأما بيان أن زوج المرأة أقر بذلك، فهو قوله: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ *يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [ص: 29] {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29] وأما الشهود، فقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [يوسف: 26] وأما شهادة الله تعالى بذلك فقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات:
أولها: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} واللام للتأكيد والمبالغة.
والثاني: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} أي كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء.
والثالث: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} مع أنه تعالى قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان: 63].
والرابع: قوله: {الْمُخْلَصِينَ} وفيه قراءتان: تارة باسم الفاعل وأخرى باسم المفعول، فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص، ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه واصطفاه، وعلى كلا الوجهين فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزها عما أضافوه إليه. وأما بيان أن إبليس أقر بطهارته، فلأنه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فكان هذا إقرارًا من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريقة الهدى.
وقال أيضًا([8]): «إلا أنا نقول: إن قوله: {وَهَمَّ بِهَا} لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال؛ لأن الهم من جنس القصد، والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية، فثبت أنه لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور، فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئًا آخر يغاير ما ذكروه، وبيانه من وجوه:
الأول: المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به، فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعم والتمتع، واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقال: هممت بفلان أي بضربه ودفعه.
فإن قالوا: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله: {لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فائدة؟
قلنا: بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين:
الأول: أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من دفعها أولى صونا للنفس عن الهلاك.
والثاني: أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به، فكان يتمزق ثوبه من قدام، وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن، ولو كان ثوبه ممزقًا من خلف لكانت المرأة هي الخائنة، فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى عنها، حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية» انتهى باختصار.
فيتلخص مما ذكرناه أن الله عصم الأنبياء عن الرذائل ونزههم عنها، ويوسف عليه السلام لم تشتهيها نفسه ولا أراد أن يواقعها ولم يهم بذلك، هذا هو اللائق بالنبي وهذا ما نعتقده وهو اعتقاد المسلمين.
أما سيد قطب فقد قال في كتابه المسمى «التصوير الفني في القرءان» عن سيدنا يوسف عليه السلام ما نصه([9]): «فها هو ذا يلقي الفتن من مرارة امرأة العزيز له فيأبى إنه في بيت رجل يؤويه فليحذر مواقع الحرج جميعًا، ومع ذلك يكاد يضعف». اهـ. أي جوز على يوسف أن يقع في زليخة.
([1]) صريح البيان في الرد على من خالف القرءان (طبع شركة دار المشاريع، الطبعة الثالثة 1429هـ ص239).
([4]) التفسير الكبير (18/118).
([6]) التفسير الكبير (18/118).