روى البخاريّ ومسلم وأحمد([1]) وابن حبّان([2]) وغيرهم أن رسول الله ﷺ قال: «الأنبياء إخوة لِعلَّات، دينهم واحد وأمهاتهم شتّى»([3])، والإخوة لعلّات هم مَنْ والدهم واحد وأمهاتهم مختلفات، والمعنى: أن الأنبياء كلهم على دين واحد وهو دين الإسلام، فكلّهم دعَوْا إلى عبادة الله وحده وعدم الإشراك به شيئًا والتصديق بأنبيائه، ولكن شرائعهم مختلفة، أي: الأحكام التي نزلت عليهم تختلف، قال الحافظ ابن حجر([4]): «إنّ أصل دينهم واحد وهو التوحيد وإن اختلفت فروع الشرائع»([5]).اهـ. ومثال ذلك أنه كان جائزًا في شرع آدم أن يتزوّج الأخ من أخته إن لم تكن توأمًا له فإنّ حوّاء رضي الله عنها ولدت أربعين بطنًا، في كل بطن ذكر وأنثى إلا بطنًا واحدًا حملت به سيدنا شيثًا عليه السلام، وكان حرامًا أن يتزوّج الأخ بأخته التي هي توأمته ويجوز له التزوّج بأخته غير التوأم، ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بعد موت آدم عليه السلام، وحرّم زواج الأخ بأخته مطلقًا سواءٌ كانت توأمًا له أم لم تكن. وكذلك كان مفروضًا في شرائع أنبياء بني إسرائيل كموسى عليه السلام صلاتان في اليوم والليلة، وفي شرع نبيّنا محمد ﷺ خمس صلوات.
وأوضح ربّ العزّة عزَّ وجلَّ الغاية من بعثه الرسل الكرام عليهم السلام فقال: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّـهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165].
كما جعل أنبيائهم عليهم السلام منقذين للناس من ظلمات الجهل والضلالة فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [إبراهيم: 5].
إنّ صلاح القلوب هو أن تكون عارفة بربها الخالق، مؤمنة ومصدقة بأسمائه وصفاته وأفعاله، وأحكامه وأوامره، وأن تكون مُؤْثِرَةً لمرضاته وما يحب، مجتنبة لمناهيه ومساخطه، فتعلم ما تقتضيه الضرورة من معرفة الرسول المبعوث وما جاء به، وتُصَدّقُه في ما أخبر به عنه، وتطيعه في ما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة إلا باتّباع الرسل والأنبياء الكرام، وباتّباعهم يتميّز أهلُ الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، فأيّ حاجة وضرورة تصوَّرْتَها فاعلمْ أنَّ ضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك إذا فقد الإنسان هدْيَه طرفة عين، لا شك سيفسد قلبُه ويحلّ به الألم والعذاب، وإذا كان هذا عمل الأنبياء عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام وتلك وظيفتهم، فإنه لا يتم الغرض منها ولا تتحقّق على تمام وجهها إلا إذا كانوا من الكمال وعلوّ المنزلة وسموّ المقام في نفوس الناس بالدرجة التي تجعلهم أهلًا لأن يُقْتَدَى بهم في أعمالهم وسيرهم، ويُلتزَم ما يبلّغون عن الله تعالى من الشرائع والأحكام والآداب، وبأن يكونوا سفراءَه إلى خلقه، وحَمَلَة الأمانة العظمى إلى عباده، والمبلّغين عنه سبحانه الأوامر الإلهية الكريمة، قال تعالى: {اللهُ يَصْطفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَميعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]، فلا غَروَ([6]) أن كانوا – مِنْ أجل هذا، ومِنْ أجل أكثر مما ذكرنا – صفوة خلق الله، يقول عزَّ من قائل: {أُولـئِكَ الَّذينَ هَدَى اللَّـهُ فَبِهُداهُمُ اقتَدِه قُل لا أَسأَلُكُم عَلَيهِ أَجرًا إِن هُوَ إِلّا ذِكرى لِلعالَمينَ} [الأنعام: 90].
وقال ربنا سبحانه وتعالى بعد ذكره عددًا من الأنبياء الكرام عليهم السلام: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، فجلَّ الله وتعالى أن يضع تلك الإمامةَ العظمى في غير موضعها، وأن يلقي بأعبائها على من لا يليق لها ولا يستأهلها، وألَّا يجعل حجته البالغة إلا في من يكون أَوْلى بها، فإنه العليم الخبير العزيز الحكيم.
[1])) أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الشيبانّي المروزيّ (ت241هـ)، أبو عبد الله، من كبار حفّاظ الحديث، قيل: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، وكان من أصحاب الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنهما وخواصه، ولم يزل مصاحبه إلى أن ارتحل الشافعيّ إلى مصر، وقال في حقه: «خرجت من بغداد وما خلّفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل».اهـ. وفيات الأعيان، ابن خلكان، (2/63، 64).
[2])) محمد بن حبان التميميّ، أبو حاتم البستيّ، ويقال ابن حبان، (ت354هـ)، حافظ محدّث مؤرخ علامة. وهو أحد المكثرين من التصنيف. قال ياقوت: «أخرج من علوم الحديث ما عجز عنه غيره».اهـ. من كتبه: (المسند الصحيح) في الحديث، و(روضة العقلاء) في الأدب، و(الثقات). الأعلام، الزركلي، (6/78).
[3])) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب التفسير: باب: {وَاذْكُرْ في الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16] (4/203)، رقم 3443. صحيح مسلم، مسلم، كتاب الفضائل، باب: فضائل عيسى عليه السلام، (7/96)، رقم 6280، واللفظ للبخاريّ: مسند أحمد، أحمد، باب مسند أبي هريرة، (2/406)، رقم 9259. صحيح ابن حبان، ابن حبان، ذكر الإخبار عن وصف الأمن الذي يكون في الناس بعد قتل ابنِ مريم الدجالَ، (15/225)، رقم 6814.
[4])) أحمد بن عليّ بن محمد الكنانّي العسقلانّي (ت852هـ)، أبو الفضل، شهاب الدين، ابن حجر. أصله من عسقلان بفلسطين ومولده ووفاته بالقاهرة. ولع بالأدب والشعر ثم أقبل على الحديث، وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفًا بأيام المتقدمين وأخبار المتأخرين. أما تصانيفه فكثيرة، منها: (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)، و(لسان الميزان)، و(الإحكام لبيان ما في القرآن من الأحكام)، و(الإصابة في تمييز أسماء الصحابة)، و(فتح الباري في شرح صحيح البخاري). الأعلام، الزركلي، (1/178، 179).
[5])) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلانيّ، (6/489).
[6])) «لا غرو أي لا عجب».اهـ. مختار الصحاح، الرازي، مادة: (غ ر و)، (ص471).