ويجب الحذر منه ما في كتاب «شرح صحيح البخاري»[(387)] ما يُنسَب إليه والعياذ بالله: «ولو كفر من جهل بعض صفات الله لكفر عامة الناس، إذ لا يكاد نجد منهم من يعلم أحكام صفات ذاته، ولو اعترضت جميع العامة وكثيرًا من الخاصة وسألتهم: هل لله تعالى قدرة أو علم أو سمع أو بصر أو إرادة، وهل قدرته متعلقة بجميع ما يصح كونه معلومًا لما عرفوا حقيقة ذلك؟ فلو حكم بالكفر على من جهل صفة من صفات الله تعالى لوجب الحكم به على جميع العامة، وأكثر الخاصة وهذا محال. والدليل على صحة قولنا حديث السوداء، وأن الرسول قال لها: (أين الله) فقالت: في السماء. فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله. فقال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة). فحكم لها بالإيمان، ولم يسألها عن صفات الله وأسمائه، ولو كان علم ذلك شرطًا فى الإيمان لسألها عنه كما سألها عن أنه رسول الله، وكذلك سؤال أصحاب رسول الله، عمر بن الخطاب وغيره، رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن القدر، فقالوا: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل لأمر مستأنف أم لأمر قد سبق؟ فقال: (بل لأمر قد سبق، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له) وأعلمهم أن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، ومعلوم أنهم كانوا قبل سؤاله مؤمنين، ولا يسع مسلمًا أن يقول غير ذلك فيهم، ولو كان لا يسعهم جهل القدرة وقدم العلم لعلمهم ذلك مع شهادة التوحيد، ولجعله عمودًا سادسًا للإسلام، وهذا بيّن» اهـ. وهذا كذب وكفر.
ومثله ما في كتاب «التوضيح لشرح الجامع الصحيح» لابن الملقّن (804هـ) [(388)]، ولا نعتقد أن ابن الملقن يقول هذا الكلام، حيث يقولون: « أن من جهل بعض الصفات فليس بكافر خلافًا لبعض المتكلمين، لأن الجهل بها هو العلم، إذ لا يبلغ كنه صفاته تعالى، فالجاهل بها المؤمن حقيقة» اهـ. وهذا تكذيبٌ للدين.
فقد قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في كتابه «الفقه الأبسط»[(389)]، كما نقل ذلك عنه المحدث الكوثري (1371هـ) في كتابه «العقيدة وعلم الكلام»[(390)]: قال أبو حنيفة: حدثني بعض أهل العلم أن معاذ بن جبل رضي الله عنه لما قدم مدينة حمص اجتمعوا إليه وسأله شاب فقال: ما تقول فيمن يصلي ويصوم ويحج البيت ويجاهد في سبيل الله تعالى ويعتق ويؤدي زكاته غير أنه يشك في الله ورسوله؟ قال: هذا له النار» اهـ..
ويقول أبو حنيفة أيضًا في كتابه «الفقه الأكبر» المصدر السابق: «وصفاته في الأزل غير محدثة ولا مخلوقة، فمن قال إنها مخلوقة أو محدثة، أو وقف أو شك فيها فهو كافر بالله تعالى» اهـ.
وقال ملا علي القاري في كتابه «شرح الفقه الأكبر»[(391)]: وفي شرح القونوي قال نعيم بن حماد: من شبه الله بشىء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبّه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم» اهـ.
وقال جمال الدين أبو بكر الخوارزمي (383هـ) في كتابه «مفيد العلوم ومبيد الهموم»[(392)]: الباب السابع فيما يلزم المكلف اعتقاده» ثم قال: «ثم يعتقد قِدم الصفات من قدرته وعلمه وحياته بلا روح ولا نفس وقدرته على مقتدراته قدرة واحدة» ثم قال[(393)]: ومن شك في شىء من ذلك فهو كافر» اهـ.
وقال الشيخ عبد الغني النابلسي في كتابه «الفتح الرباني والفيض الرحماني»[(394)]: وأما التشبيه: فهو الاعتقاد بأن الله تعالى يشبه شيئًا من خلقه كالذين يعتقدون أن الله تعالى جسم فوق العرش. أو يعتقدون أن له يدين بمعنى الجارحتين، وأن له الصورة الفلانية، أو على الكيفية الفلانية، أو أنه نور يتصوره العقل، أو أنه في السماء، أو في جهة من الجهات الست، أو أنه في مكان من الأماكن، أو في جميع الأماكن، أو أنه ملأ السماوات والأرض، أو أن له الحلول في شىء من الأشياء، أو في جميع الأشياء، أو أن الأشياء منحلة منه، أو شيئًا منها. وجميع ذلك كفر صريح. والعياذ بالله تعالى. وسببه الجهل بمعرفة الأمر على ما هو عليه. وبيان ذلك: إن الله تعالى خلق العقل الإنساني وهو الذي يخلق فيه جميع تصوراته وتصديقاته. فإذا أراد العقل أن يؤمن بربه بسبب ذلك التصور» اهـ..
وقال شيخ المتكلمين الإمام محمد بن الحسن بن فورك (406هـ) في كتابه «مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري»[(395)]: وكان يقول: العلم بالله تعالى إيمان والجهل به كفر، وإنه لا يصح وجود العلم به مع الجهل شرعًا ولا عقلاً لإجماعهم أنه لا يكون مؤمنًا كافرًا في حال معًا» اهـ..
وقال الإمام عبد القاهر بن طاهر البغدادي التميمي في كتابه «تفسير أسماء الله الحسنى»[(396)]: «وأما الكلام في طاعات المعتزلة، وسائر أهل الأهواء الضالة، فإن أهل السنة والجماعة يجتمعون على أن الأهواء المؤدية إلى الكفر لا يصح منهم طاعة لله عز وجل، ما يفعلونه من صلاة، وصوم، وزكاة، وحج لأن الله عز وجل أمر عباده بإيقاع هذه العبادة على شرط مقارنة كاعتقاد صحيح العدل والتوحيد، وبشرط أن يراد بها التقرب إلى الله عز وجل، مع اعتقاد صفة الإله على ما هو عليه، ولا يجوز أن يقصده بالطاعة من لا يعرفه، وقد بينا قبل هذا أن المعتزلة، وسائر أهل البدع الضالة، غير عارفين بالله عز وجل، لاعتقادهم فيه خلاف ما هو عليه في عدله، وحكمته» اهـ..
وقال الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده الأصبهاني (395هـ) في «كتاب التوحيد»[(397)]: باب ذكر الدليل على أن المجتهد المخطئ في معرفة الله عز وجل ووحدانيته كالمعاند. قال الله تعالى مخبرًا عن ضلالتهم ومعاندتهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما سُئل عن الأخسرين أعمالاً، فقال: كفرة أهل الكتاب كان أوائلهم على حق فأشركوا بربهم عز وجل وابتدعوا في دينهم وأحدثوا على أنفسهم، فهم يجتمعون في الضلالة ويحسبون أنهم على هدى، ويجتهدون في الباطل ويحسبون أنهم على حق، ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وقال علي رضي الله عنه: منهم أهل حروراء» اهـ..
وقال الشيخ كمال الدين أحمد بن حسن البياضي الحنفي (1097هـ) في كتابه «إشارات المرام من عبارات الإمام»[(398)]: الرابعة: الرد على المعتزلة المنكرين للقضاء والقدر في الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد، ويثبتون علمه تعالى بهذه الأفعال، ولا يسندون وجودها إلى ذلك العلم بل إلى اختيار العباد وقدرتهم، كما في شرح المواقف.
الخامسة: الرد على من نفى العلم بذلك أيضًا من قدمائهم، وأكفرهم الإمام به فيما سيأتي، وصرَّح بكفرهم في ذلك كثير من الأئمة منهم الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى» اهـ..
ومعنى قول الله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي… *} [سورة البقرة] .
إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مؤمنًا ومُصدقًا بقلبه تصديقًا جازمًا لا ريب فيه أن الله تبارك وتعالى قادر على إحياء الموتى وإعادة الخلق يوم القيامة، ولكنه أراد أن يزداد بصيرةً ويقينًا فسأل اللهَ تعالى أن يُرِيَهُ كيف يُحيي الموتى بعد موتهم، وقول الله تعالى {…أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي… *} أي أنا مؤمن غير شاك ولا مُرتاب ولكن تاقت نفسي لأن أرى بعينيَّ ليطمئنَّ قلبي ويزداد يقيني، فمعنى قول إبراهيم (ليطمئن قلبي) أي ليطمئنَّ قلبي بإجابة طلبي، لأنه من الجائز أن يعطي الله تعالى بعض الأنبياء جميعَ ما طلب أو أن يعطيَه بعض ما طلب ولا يعطيه بعضًا، فسيدنُا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرفُ خَلقِ الله وأكرمُهم على الله ما أُعطي جميع ما طلب، بل أُعطي بعض ما طلب ومنع بعض ما طلب، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام ما كان جازمًا وقاطعًا في نفسه بأنَّ الله يعطيه ما سأل، ولكنَّه كان مؤمنًا بأنَّ الله تبارك وتعالى قادرٌ على ذلك، ولكن كان عنده احتمال أنَّ الله يريه كيف يُحيي الموتى واحتمال أنه لا يريه، فأجابَ الله تبارك وتعالى سؤال إبراهيم عليه السلام وأمرَهُ أن يأخذَ أربعةً من الطير ويتعرف على أجزائها ثم يُفرقها أشلاء وأجزاء ويجعلَ على كل جبل منهن جُزءًا ثم يَدْعوهُن إليه فيأتينه سَعْيًا بإذن الله، فلمَّا فَعَل إبراهيمُ خليل الرحمـن ما أمره الله تعالى، صارَ كلُّ جُزء ينضم إلى مثله وعادت الأشلاءُ والأجزاءُ كما كانت وعادت الروح إلى كل طير، ورجعت الطيور الأربعة بقدرة الله ومشيئته إلى إبراهيم عليه السلام، وهو يرى ءايات الله البينات وءاثار قدرته العظيمة التي تدل أنه تعالى لا يُعجزه شىء في الأرض ولا في السماوات فتبارك الله أحسن الخالقين أي أحسن المقدرين.
قال الحافظ البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات»[(399)]: «وأما حديث النبي صلى الله عليه وسلم (نحن أحق بالشك من إبراهيم) فقال المزني: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم عليه السلام في أن الله قادر على أن يحيي الموتى، وإنما شكا أن يجيبهما إلى ما سألا. وقال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: مذهب هذا الحديث التواضع والهضم من النفس وليس في قوله «نحن أحق بالشك من إبراهيم اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم صلى الله عليهما، لكن فيه نفي الشك عن كل واحد منهما، يقول: إذا لم أشك أنا ولم أرتَب في قدرة الله عز وجل على إحياء الموتى، فإبراهيم عليه السلام أولى بأن لا يشك فيه ولا يرتاب[(400)]، وفيه الإعلام أن المسألة من قبل إبراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن من قبل طلب زيادة العلم واستفادة معرفة كيفية الإحياء» اهـ..
فليُحذَر من تفسير فاسد يتناقله بعض الناس أن سيدنا إبراهيم عليه السلام شكّ في قدرة الله، وهذا لا يليق بنبي من الأنبياء كما أنه لا يقول به مسلم قط.
فقد انعقد إجماع المسلمين على أن من شكّ في قدرة الله على كل شىء كفر، فكيف يُنسَبُ إلى نبي من الأنبياء الكفر والعياذ بالله؟!
نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه «فتح الباري شرح صحيح البخاري»[(401)]، عن الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي أنه قال: «جحده صفة القدرة كفر إتفاقًا» اهـ.. ويدخل في هذا أيضًا من شك في قدرة الله تعالى على كل شىء.
ـ[386] الإنصاف (عالم الكتب، الطبعة الأولى 1407هـ، ص152).
ـ[387] شرح صحيح البخاري (لابن بطال، مكتبة الرشد – الطبعة الثانية 1423هـ – 2003م، الجزء العاشر ص502 – 503).
ـ[388] تحقيق دار الفلاح – إصدارات وزارة الأوقاف – دولة قطر، الطبعة الأولى 1429هـ – 2008م، تخريج وطباعة دار النوادر، المجلد الثالث والثلاثون ص448).
ـ[389] الفقه الأبسط (ص/606).
ـ[390] العقيدة وعلم الكلام (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1425هـ).
ـ[391] شرح الفقه الأكبر (دار النفائس ص51).
ـ[392] مفيد العلوم ومبيد الهموم (المكتبة العصرية، ص33).
ـ[393] مفيد العلوم ومبيد الهموم (ص/34).
ـ[394] الفتح الرباني والفيض الرحماني (مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى 1433هـ ص103).
ـ[395] مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري (الناشر مكتبة الثقافة الدينية، ص12).
ـ[396] تفسير أسماء الله الحسنى (وهو مخطوط، ص461).
ـ[397] كتاب التوحيد (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1422هـ، ص80 – 81).
ـ[398] إشارات المرام من عبارات الإمام (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1428هـ، ص230).
ـ[399] الأسماء والصفات (الطبعة الأولى 1985 دار الكتاب العربي، الجزء الثاني ص276).
ـ[400] تفسير الخازن (1/192).
ـ[401] فتح الباري شرح صحيح البخاري (طبعة دار الريان سنة 1407ر الطبعة الأولى الجزء السادس ص604).