الخميس نوفمبر 21, 2024

مما يجب الحذر والتحذير ، ما دُسَّ في كتاب «الزهد»، للإمام أحمد بن حنبل (241هـ) [(325)]، من كلام عن نبي الله أيوب عليه السلام ما لا يليق بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فمما يقولون في هذا الكتاب: «حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا أبو المغيرة أخبرنا صفوان أخبرنا عبد الرحمـن بن جبير قال لما ابتليَ أيوب النبي صلى الله عليه وسلم بماله وولده وجسده طُرِحَ في المزبلة» اهـ. والعياذ بالله تعالى من هذا الكفر، كيف يقولون عن نبي من الأنبياء أنه طُرِحَ في المزبلة؟! هذا لا يليق بنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ونحن لا نعتقد في الإمام أحمد أنه يقول ذلك، إنما هو مما دُسَّ عليه.

قال ابن العربي القاضي أبو بكر رضي الله عنه: «ولم يصح عن أيوب في أمره إلا ما أخبرنا الله عنه في كتابه في آيتين؛ الأولى قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} والثانية في سورة ص: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصح عنه أنه ذكره بحرف واحد إلا قوله: «بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رِجل من جراد من ذهب…» الحديث. وإذ لم يصح عنه فيه قرآن ولا سنة إلا ما ذكرناه، فمن الذي يوصل السامع إلى أيوب خبره، أم على أي لسان سمعه؟ والإسرائيليات مرفوضة عند العلماء على البتات؛ فأعرض عن سطورها بصرك، وأصمم عن سماعها أذنيك، فإنها لا تعطي فكرك إلا خيالا، ولا تزيد فؤادك إلا خبالا»[(326)]، وهي القصة الطويلة التي يروي فيها بعض من انطلت عليهم كذبها وافتراءها أن الشيطان تحدى ربّ العزة بأنه لو سلط على أيوب لضجر وسخط على حكم الله تعالى، فسُلِط على ماله وولده وجسده إلا قلبه ولسانه، فصبر صبرا أثنى الله به عليه، وأن الدود كان يتناثر من جسد أيوب عليه السلام في مرضه، فصار يردها إلى جسده ويقول لها: «كلي فقد جعلني الله طعامك»، وهو ما قال ابن العربي فيه: «وهذا بعيد جدا، مع أنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا سبيل إلى وجوده»[(327)]، وأن أيوب على زعمه تقطع لحمه، وأنتن فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا؛ نعوذ بالله تعالى من الجهل والضلال، فهي أخبار لا تليق بمنصب النبوة، وحاشا لله أن يسلط عدوه على حبيبه بمثل هذه السلطة حتى يتحكم في ماله وولده وجسده بالبلاء والتنكيل، وأول ما يطالب به من قال بذلك أو تبعهم عليه إثبات دعواهم، وهم لا يثبتونها في كتاب ولا سنة، بل هي مجرد تلفيقات من قصص هي أوهى في الثبوت من خيط العنكبوت، وقد أجمع علماء الإسلام على أن أنبياء الله هم صفوة خلق الله، علماء حكماء معصومون بعصمة الله، فيستحيل على أحدهم أن يضر نفسه، لأن حفظ النفس مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء وأجمع عليه العقلاء، ويستحيل عليهم أيضا الأمراض المنفرة التي تنفر الناس عنهم، وهذه القصة لا تجوز في حق نبي من الأنبياء، وهي كذب، وهي مذكورة أيضا في بعض التفاسير وغيرها.

قال أبو الحسن علي بن أحمد السبتي الأموي: «وأما تعلقهم فيها من الكتاب العزيز فبقوله تعالى أنه قال: {مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} ، وليس لهم حجة في هذا القول، فإن الأنبياء عليهم السلام إذا مسهم ضر نسبوه إلى الشيطان على جهة الأدب مع الحق سبحانه، لئلا ينسبوا له فعلا يكره، مع علمهم أن كلا من عند الله، قال الخليل عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ *} ، وقال الخضر عليه السلام: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} ، وقال الكليم عليه السلام: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، وقال فتاه عليه السلام: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} ، وقال نبينا: «والخير كله في يديك، والشر ليس إليك»، يعني ليس إليك يضاف وصفا لا فعلا، وإن كان الفعل كله من عند الله، وقال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ؛ فخرج من مجموع ما ذكرناه أن تعلقهم بالآية في كل ما زوروه من الأقاصيص غير صحيح»[(328)].

وقال أبو محمد مكي في قصة أيوب: «وقوله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} إنه لا يجوز لأحد أن ينازل أن الشيطان هو الذى أمرضه وألقى الضر في بدنه ولا يكون ذلك إلا بفعل الله وأمره ليبتليهم ويثيبهم». قال مكي: وقيل: «إن الذى أصابه الشيطان ما وسوس به إلى أهله»، فإن قلت: فما معنى قوله تعالى عن يوشع: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} وقوله عن يوسف: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} وقول نبينا صلى الله عليه وسلم حين نام عن الصلاة يوم الوادي: «إن هذا واد به شيطان»، وقول موسى عليه السلام في وكزته: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} ، فاعلم أن هذا الكلام قد يرد في جميع هذا على مورد مستمر كلام العرب في وصفهم كل قبح من شخص أو فعل بالشيطان أو فعله، كما قال تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ *} وقال صلى الله عليه وسلم : «فليقاتله فإنما هو شيطان»[(329)].

والحق أن أيوب عليه السلام قد ابتلاه ربه بلاء شديدا، استمر ثمانية عشر عاما، وفقد ماله وأهله، ثم عافاه الله وأغناه، ورزقه الكثير من الأولاد[(330)].

ـ[325]   الزهد (دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية 1414هـ ص113).

ـ[326]   الجامع لأحكام القرءان (15/210).

ـ[327]   الجامع لأحكام القرءان (11/323).

ـ[328]   تنزيه الأنبياء عما نسب إليهم حثالة الأنبياء (ص/123 – 124).

ـ[329]   الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/121).

ـ[330]   انظر صحيح ابن حبان (7/157)، كتاب الجنائز وما يتعلق بها مقدما أو مؤخرا، باب ما جاء في الصبر وثواب الأمراض والأعراض، ذكر الخبر الدال على الدنيا مع ما يدخر له من الثواب في العقبى.