الإثنين ديسمبر 23, 2024

ومما يجب الحذر منه ، ما في كتاب «الإتقان في علوم القرءان»[(385)]، للحافظ السيوطي (911هـ)، ما نُبَرِّىء الحافظ السيوطي منه، حيث يقولون: « والثاني أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة وأنه علم تلك المعاني وعبّر عنها بلغة العرب وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى نزل به الروح الأمين على قلبك.

والثالث أن جبريل أَلقى إليه المعنى وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب وأن أهل السماء يقرؤونه بالعربية ثم إنه نزل به كذلك بعد ذلك» اهـ. والعياذ بالله تعالى من سوء المعتقد، فالقرءان كلام الله، ليس حرفًا وليس صوتًا وليس لغة، وهو ليس من تأليف جبريل وليس من تأليف بشر.

وأما قول الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [سورة يس] .

معنى هذه الآية أن الله تعالى يوجد الأشياء بدون تعب ومشقة وبدون ممانعة أحد له، أي أنه يخلق الأشياء التي شاء أن يخلقها بسرعة بلا تأخر عن الوقت الذي شاء وجودها فيه، فمعنى (كن فيكون) يدل على سرعة الإيجاد وليس معناه كل ما أراد الله خلق شىء يقول «كن كن كن»، وإلا لكان معنى ذلك أن الله كل الوقت يقول «كن كن كن» وهذا محال لأن الله عزّ وجل يخلق في اللحظة الواحدة ما لا يدخل تحت الحصر.

ثم «كن» لغة عربية والله تعالى كان قبل اللغات كلها وقبل أصناف المخلوقات فعلى قول المشبهة يلزم أن يكون الله ساكتا قبل ثم صار متكلما وهذا محال لأن هذا شأن البشر وغيرهم، وقد قال أهل السنة: لو كان يجوز على الله أن يتكلم بالحرف والصوت لجاز عليه كل الأعراض من الحركة والسكون والبرودة واليبوسة والألوان والروائح والطعوم وغير ذلك وهذا محال، والله تعالى خلق بعض العالم متحركا دائما كالنجوم وخلق بعض العالم ساكنا دائما كالسماوات، وخلق بعض العالم متحركا في وقت وساكنا في وقت وهم الإنس والجن والملائكة والبهائم والرياح والنور والظلام والظلال، وهو سبحانه وتعالى لا يشبه شيئا من هذه العوالم كلّها.

قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأبسط: «ويتكلم لا ككلامنا، نحن نتكلم بالآلات والحروف، والله متكلم بلا آلة ولا حرف» اهـ.

وقال أبو بكر الباقلاني (403هـ) في «الإنصاف» ما نصه[(386)]: «ويدل عليه قول شيخ طبقة التصوف الجنيد رحمه الله، فإنه قال: جلت ذاته عن الحدود، وجل كلامه عن الحروف، فلا حد لذاته، ولا حروف لكلامه» اهـ.

وقال بعض أهل السنة إن الله يخلق الخلق بكن أي بالحكم الأزلي بوجوده فالآية عندهم عبارة عن أن الله تعالى يخلق العالم بحكمه الأزلي، وحكمه سبحانه كلامه أزلي ليس كلاما مركبا من حروف ولا صوت.

وأما ما ذهبت إليه المجسمة من أن الله ينطق بالكاف والنون عند خلق كل فرد من أفراد المخلوقات فهو سفه لا يقول به عاقل لأنهم قالوا قبل إيجاد المخلوق ينطق الله بهذه الكلمة المركبة من كاف ونون فيكون خطابا للمعدوم، وإن قالوا إنه يقول ذلك بعد إيجاد الشىء فلا معنى لإيجاد الموجود.

وأما التفسيران اللذان ذهب إليهما أهل السنة فإنهما موافقان للعقل والنقل، ثم إنه يلزم على قول المجسمة بشاعة كبيرة وهي أن الله تبارك وتعالى لا يفرغ من النطق بـ «كن» وليس له فعل إلا ذلك، لأنه في كل لحظة يخلق ما لا يدخل تحت الحصر. فكيف يصح في العقل أن يخاطب الله كل فرد من أفراد المخلوقات بهذا الحرف.

كيف يُعقل أن ينطق الله تعالى بالكاف والنون بعدد كل مخلوق يخلقه فإن هذا ظاهر الفساد لأنه يلزم عليه أن يكون الله ليس له كلام إلا الكاف والنون. فما أبشع هذا الاعتقاد المؤدّي إلى هذه البشاعة.

فالتفسيران الأوّلان أحدهما وهو الأول قال به الإمام أبو منصور الماتريدي والثاني قال به الأشاعرة كالبيهقي.

ثم إن الله ما وصف نفسه بالنطق إنما وصف نفسه بالكلام أي بأنه متكلم فلو كان كلام الله نطقًا لجاءت بذلك ءاية من القرءان.

والموجود في القرءان الكلام والقول وهما عبارة عن معنًى قائم بذات الله أي ثابت له معناه الذكر والإخبار وليس نطقا بالحروف والصوت. وقد ألّف الحافظ أبو الفضل المقدسي جزءًا في تضعيف أحاديث الصوت على وجه التحقيق، والبيهقي رحمه الله قد صرّح بأنه لا يصح حديث في نسبة الصوت إلى الله.

وأما ما في كتاب فتح الباري في كتاب التوحيد من القول بصحة أحاديث الصوت فهو مردود، وهو نفسه في كتاب العلم ذكر خلاف ما ذكره في كتاب التوحيد، على أنّ ما ذكره في كتاب التوحيد من إثبات الصوت قال إنه صوت قديم ولم يحمله على الظاهر الذي تقوله المشبهة إنه صوت حادث يحدث شيئا فشيئا يتخلله سكوت كما قال زعيم المشبهة ابن تيمية بأن كلامه تعالى قديم النوع حادث الأفراد، ومثل ذلك قال في إرادة الله وكلا الأمرين باطل. والحافظ (أي ابن حجر العسقلاني) لا يعتقد قيام الحادث بذات الله، فشرحه هذا مشحون بذكر نفي الحركة والانتقال ونحو ذلك في مواضع كثيرة عن الله تعالى، فهو يؤول الأحاديث التي ظاهرها قيام صفة حادثة بذات الله على غير الظاهر.

ثم إنه يلزم من قول إن الله يخلق بلفظ كن الذي هو لفظ مركب من حرفين خَلقُ المخلوق بالمخلوق وهذا محال، إنما يخلق الله المخلوقات بقدرته القديمة ومشيئته القديمة وعلمه القديم.

ـ[385] الإتقان في علوم القرءان دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1424هـ ص118).