الأحد ديسمبر 7, 2025

قال الله تعالى:
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ
فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ
شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}
[يوسف: 77].

فمما يجب اعتقاده أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون من السرقة قبل النبوة وبعدها، لأن هذا الفعل من المحرمات، ويدلّ على خسّة النفس ودناءتها، وهذا معارض لمنصب النبوة وعصمة الأنبياء، ومن لا يؤتمن على أموال الناس ومتاعهم كيف يأتمنه الناس على أمور دينهم؟!

فهذا يُنفّر الناس من الأنبياء ويبعدهم عنهم، ولا يقبل الناس الدعوة من سارق ولصّ.

قال إمام أهل السُّنَّة والجماعة الإمام أبو منصور محمد بن محمد بن محمود الماتريدي المتوفى سنة 333هـ في كتابه «تأويلات أهل السنة تفسير الماتريدي» ما نصه([1]): «ونعلم أنهم كذبوا في قولهم {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} وأرادوا أن يتبرؤوا منه، وينفوا ذلك عن أنفسهم، ليُعلم أنه ليس منهم»، ثم قال: «وقد ذُكر في بعض الحروف (أي القراءات): {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} بالتشديد – أي نسب إلى السرقة – فإن ثبت؛ فالتأويل هو لقولهم – أي لأصحاب القراءة هذه وهم: أحمد بن جبير الأنطاكي، وابن أبي شريح عن الكسائي والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين -»، ثم قال: «{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} من الكذب إنه سرق أخ له من قبل». اهـ.

وقال المفسر أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي المتوفى سنة 516هـ في تفسيره المسمى «معالم التنزيل» ما نصه([2]): «قال سعيد بن جبير: كان لجده من أمه صنم يعبده – أي جده – فأخذه سرًا – أي يوسف – وكسره وألقاه في الطريق لِئَلاّ يُعبد». اهـ.

 

ومثله قال المفسر فخر الدين الرازي المتوفى سنة 544هـ في كتابه «التفسير الكبير»([3]) والمفسر ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ في كتابه «زاد المسير»([4])، وزاد أيضًا ما نصه: «قال ابن الأنباري: وليس في هذا الفعل ما يوجب السرقة، لكنها تشبه السرقة، فعيّرَه إخوته بذلك عند الغضب. والسابع: أنهم كذبوا عليه في ما نسبوه إليه، قاله الحسن. وقرأ أبو رزين وابن أبي علبة: (فقد سُرِّق) بضمّ السين وكسر الراء وتشديدها». اهـ.

وليعلم أن من نسب للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما يقدح في دينهم وشرفهم وأمانتهم وعفتهم فهو مكذب للقرءان كافر لا يكون من المسلمين.

ويكفي في عصمتهم وبراءتهم وحفظهم من السرقة ومن كل ما يقدح بمنصبهم وبعصمتهم الإجماع الذي نقلناه قبل الآن، ونعيد ذكره هنا لأهميته في هذا البحث.

قال الشيخ التلمساني في «شرح لمع الأدلة» ما نصه([5]): «لا يجوز عليهم الكبيرة ألبتة ويجوز تعمد الصغيرة بشرط عدم الإصرار، ولا يجوز منهم صغيرة تدل على خساسة النفس ودناءة الهمة كتطفيف حبة وسرقة باقة بقل». اهـ، ثم قال([6]): «وأما عصمتهم عن الكبائر والإصرار على الصغائر وعن كل صغيرة تؤذن بقلة الاكتراث بالدين فمستند إلى الإجماع القاطع، فإن السلف رضي الله عنهم لم يزالوا يحتجون بالنبي بأفعاله وأقواله ومتبادرون إلى التأسي به، وجميع الظواهر التي اعتمد عليها الحشوية قابلة التأويل».

فإذا كان التطفيف في حبة عنب أو سرقة حبة عنب أو باقة بقل مستحيل عليهم بالإجماع فكيف بما هو أكبر من ذلك؟!

قال الحافظ زين الدين العراقي في كتابه «طرح التثريب في شرح التقريب»([7]): «قال القاضي عياض: الأنبياء منزهون عن النقائص في الخَلق والخُلق سالمون من المعايب ولا يلتفت إلى ما قاله من لا تحقيق عنده في هذا الباب من أصحاب التاريخ في صفات بعضهم وإضافته بعض العاهات إليهم – المنفِّرة – فالله تعالى نزههم عن ذلك ورفعهم عن كل ما هو عيب ونقص مما يغض العيون وينفر القلوب، وكذا ذكر النووي والقرطبي هذا». اهـ.

وفيه([8]) عند شرحه لحديث «خرَّ عليه جرادٌ من ذهب فجعل أيوبُ يحتثي في ثوبه» يقول الحافظ زين الدين العراقي: «الرابعة: فيه أنه لا يُحكَم على الإنسان بالشَّرَهِ وحُبِّ الدنيا بمجرد أخذه لها والإقبال عليها، بل ذلك يختلف باختلاف المقاصد وإنما الأعمال بالنيات، فمُحالٌ أن يكون أيوب عليه الصلاة والسلام أخذ هذا المال حُبًّا للدنيا، وإنما أخذَه كما أخبر هو عن نفسه لأنه بركة من ربه». اهـ.

فإن كان حبّ المال والدنيا مستحيلاً على الأنبياء فكيف يجوز عليهم أن يسرق أحد منهم شيئًا؟!

 

 

([1]) تأويلات أهل السُّنَّة تفسير الماتريدي (طبعة دار الكتب العلمية الطبعة الأولى سنة 1426هـ في المجلد السادس ص270، 271).

([2]) معالم التنزيل (طبعة دار المعرفة الطبعة الثالثة سنة 1413هـ الجزء الثاني ص441).

([3]) التفسير الكبير، طبعة دار الكتب العلمية الطبعة الأولى سنة 1411هـ المجلد التاسع الجزء 18 ص147).

([4]) زاد المسير (طبعة ما يسمى المكتب الإسلامي الطبعة الرابعة سنة 1407هـ الجزء الرابع ص263 و264).

([5]) شرح لمع الأدلة (ص197، مخطوط).

([6]) المصدر نفسه، (ص198).

([7]) طرح التثريب في شرح التقريب (دار الكتب العلمية، الجزء الثاني ص201).

([8]) المصدر نفسه، (ص205 و206).