وكان شيخنا رحمه الله قبل نومه أحيانا يتروض وهو يذكر الله، وأحيانا كان يقول وهو يمشي: رب اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات.
وكان شيخنا رضي الله عنه عاملا بحديث: «أطعم الطعام وأفش السلام وصل بالليل والناس نيام» رواه البيهقي والبزار. فكان كثير الإطعام لمن عنده كثير الإفشاء للسلام مواظبا على قيام الليل ولو كان في شدة مرضه، فكان من عادته أنه يستيقظ قبل دخول الفجر بنحو ساعة أو أقل فيتوضأ ويصلي ما شاء الله له أن يصلي وينتظر دخول الفجر فإذا تأكد من دخول الوقت بدأ بالتحصن بـ «بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم» ثلاث مرات، رواه البخاري في «الأدب المفرد» والنسائي وأبو داود وابن ماجه والترمذي وغيرهم، ثم تقام الصلاة فيصلين فإذا أنهى صلاته قرأ بعض الأوراد الواردة التي يداوم عليها التي منها «حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم» سبع مرات، رواه أبو داود، ثم ذكر الله وجلس ينتظر صلاة الضحى، وفي انتظاره يشتغل أيضا بالعلم بمطالعة كتب أهل السنة حتى يدخل وقت الضحى فيصلى صلاة الضحى فيكون عاملا بحديث: «من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة» رواه الترمذي، ثم كان شيخنا رحمه الله يستلقي قليلا والسبحة تدور في يده وهو يهلل ويستغفر وأحيانا ينام قليلا ثم يستيقظ ويشتغل بالذكر، ثم يجلس مع طلابه فيسألونه عما عرض عليهم من مسائل، وعند نحو العاشرة يأكلون معه، وقبل أن يبدأ بالأكل يغسل يده وغالب أكله كما ذكرنا سابقا خبز ومرق وأحيانا هندباء، ثم يغسل يده، ثم يمشي خطى بعد الطعام، ويستاك ويخلل بالخلال، ثم بعد ذلك يبدأ المريدون بقراءة الكتب على الشيخ وكان يقرأ عليه أحيانا في مجلس واحد في ثمانية كتب بعضها في التفسير وبعضها في الحديث وبعضها في الفقه وبعضها في الأصول وبعضها في النحو وبعضها في السيرة وبعضها في غير ذلك فإذا دخل الظهر أمر بالتأكد من دخول الوقت فإن كانت الشمس ظاهرة أمر بمراقبة الظل هل مال عن وسط السماء، فإذا تأكد من دخول الوقت أمر بالأذان، فإن كان عنده من هو قوي الصوت حسنه طلب منه أن يؤذن، ثم يصلي الراتبة ويأمر بصلاتها ثم الإقامة، وما بين الأذان والإقامة يشتغل بالذكر والدعاء لأن هذا من الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء، ففي الحديث: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد» ثم يصلي مع المحافظة على السواك قبل الدخول في الصلاة، وكان يحافظ في أكثر الأحيان على لبس القلنسوة والرداء في أثناء صلاته، فإذا أنهى الصلاة اشتغل بالذكر والدعاء عملا بحديث: «أسمع الدعاء ما كان في جوف الليل ودبر الصلوات الـمكتوبات» رواه الترمذي([1]).
ثم يصلي الراتبة البعدية ثم يشتغل كعادته إما بإعطاء درس أو بالإجابة على أسئلة أو بإقراء من لم يقرأ بعد من المريدين الذين يقرؤون عادة، ثم يستلقي قليلا ويجلس أحيانا في الشمس لينتفع بحرارتها.
وخلال هذا الاستلقاء أو الجلوس يسألونه ويستشيرونه إلى دخول العصر فالأذان والإقامة ثم الصلاة، وأحيانا يكون درس عام لمن يسر الله له أن يجتمع في بيت الشيخ، وبعد الدرس المسائل والاستشارات والتعرف إلى بعض الناس ويقرب الجديد إليه، وإن كان كبيرا في السن جلب له كرسيا وأجلسه بقربه، وكان من عادته أن يقدم للضيوف الشاي بالحليب، وكثيرا ما كان شيخنا يدرس كل يوم درسين أو ثلاثة أو أكثر غير ما يقرأ عليه، ومرة أعطى نحو ثمانية دروس متوالية، ثم قال له أخي الشيخ نبيل: لو ترتاحون قليلان فقال: نعم، فدخل إلى الغرفة واستلقى دقائق، ثم قام وقال: نعود إلى الناس، فقال له أخي: بعد ما ارتحتم، فقال: الناس ينتظروننا.
ثم بعد نحو السادسة والنصف يتهيأ شيخنا لصلاة المغرب وبعد الصلاة أيضا ذكر وسواك، وكان محافظا بعد صلاة المغرب وبعد صلاة الفجر على قول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الـملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير»([2]) عشر مرات وهو ثان ركبتيه قبل أن يقوم من مجلسه.
وكذلك كان يقول: «اللهم أجرني من النار»([3]) سبع مرات عقب صلاة المغرب وصلاة الصبح.
ثم في قريب السابعة يوضع الطعام فيدعو شيخنا الكبير والصغير، والضيف مقدم على غيره، ويدفع شيخنا بما طاب من الطعام إلى غيره ويترك لنفسه الخبز والمرق والزيت والعسل، وإن كان عنده ضيوف جاؤوا من سفر يشتري لهم طعاما خاصا لإكرامهم يكون فيه أحيانا من أنواع اللحم المشوي، وبعد الطعام يحمد الله كثيرا ويقول: «الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه([4]) وجعل له مخرجا([5])» رواه النسائي وأبو داود وابن حبان، ويقول: «الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة» رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي.
ثم يمشي رضي الله عنه في البيت بعد الطعام خطوات نحو أربعين أو أكثر لأن بعض الأطباء العرب أشاروا عليه بذلك، ثم يجلس لمؤانسة من حل ضيفا، ثم في نحو الثامنة يصلي شيخنا العشاء بمن بقي في البيت وكالعادة الذكر والسواك يرافقانه، وبعد العشاء يصلي ركعتين ثم يوتر بركعة، وأحيانا يصلي أكثر من ذلك، ويدخل غرفته للراحة فيقرأ سورة الملك وهو مستلق في فراشه، ثم بعد نحو نصف ساعة يخرج شيخنا ولا يكون قد بقي في البيت عادة إلا من يبيت عنده من خدم أو ضيف، وهنا يطلب «الدوسمي» أي: الماء مع العسل لأنه يريد ما ينشط لعمل الليل، فيطالع في الكتب إلى قريب الواحدة ليلا وأحيانا إلى الثانية وإن صار النوم يغلبه أثناء القراءة وهو لا يريد النوم من شدة حبه للعلم طلب الشاي لأن شربه يساعد على الاستيقاظ فيشربه، ويتخلل هذه القراءة أيضا مسائل واستشارات وذكر وأحيانا يدخل من عنده سفر للوداع، وفي قريب الثانية يدخل شيخنا الغرفة ليرتاح، فيستلقي والسبحة تدور في يده مع التهليل والاستغفار وغير ذلك، ثم ينام قليلا وكلما استيقظ في الليل ذكر الله، ومن جملة ما يقول: «لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار» رواه النسائي والحاكم.
فكأنه لا ينام مع كبر سنه وكثرة أمراضه وكثرة تعبه في النهار، لا ينام إلا وقتا قليلا، فإذا صارت الساعة نحو الرابعة قام لصلاة الليل، كل هذا يدل على علو شأنه، فالاستقامة كما قال العلماء عين الكرامة، وكان شيخنا يقول لطلابه: يا أهل العافية صلوا السنة. وذات يوم قام شيخنا ليصلي قيام الليل كعادته قبل الفجر بنحو نصف ساعة ثم التفت إلى طلابه وقال: هذه ساعة الخيرات والبركات هذه ساعة استجابة الدعاء كثير من الناس يفوتونها على أنفسهم، فينبغي لنا إن لم نكن كشيخنا أن نتشبه به، ومن قرأ سيرة رسول الله ﷺ عرف أن شيخنا كان شديد الاتباع له والتشبه به. (وقد قال رسول الله ﷺ: قالت أم سليمان بن داود لسليمان: يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تترك الإنسان فقيرا يوم القيامة» رواه النسائي وابن ماجه والبيهقي.
وقال لقمان لابنه: يا بني لا يكن الديك أكيس منك ينادي بالأسحار وأنت نائم).
وأما يوم الأحد فكان بالنسبة لشيخنا رحمه الله كغيره من الأيام فالشيخ دائما في همة عالية للخير والتدريس، لكن حضور الناس إليه يختلف عن باقي الأيام لأن عادة أهل بلادنا أنهم يخرجون يوم الأحد للتنزه، وهذه العادة لم تكثن تعجب شيخنا، فيكون عنده وقت أكثر للنظر في كتب أهل الحق والنظر في كتب أهل الضلال ليحذر منها وللتأليف، ويزيد في صلوات النافلة، ولا يخرج للنزهة في يوم العطلة كعادتنا، وإنما كان يخرج في أوقات مختلفة للرياضة ثم يجلس في مكان ينظر فيه إلى البحر أو إلى النهر أو إلى الأشجار عملا بقول سيدنا علي عليه السلام: «روحوا القلوب ساعة فساعة»([6]) معناه أريحوها، إذا تعب يرتاح ثم يعود يعمل ثم يرتاح وهكذا، وكان يقول: إذا لم أخرج للرياضة أمرض، وكان يقول: كثير من الأمراض تندفع بالرياضة.
يقول ابن أختي أيمن في يوم أحد صباحا: كنت أنا وصديقي سامي القاضي الذي يخدم شيخنا نتحدث واتفقنا على الخروج الأحد الذي يليه للنزهة، ثم خرج شيخنا من غرفته وكانت الساعة نحو العاشرة، فنظر فلم يجد سوانا، فسأل عن بعض من عادته الحضور ضحى، وأجبناه بأننا لا نعرف أين هم، فقال: ما هذه العادة في بلادكم يوم العطلة يذهبون للنزهة، ما هذه العادة؟! وقال: في بلادنا في يوم العطلة يأخذون الأولاد لزيارة القبور أو للمكث في المسجد، ما هذه العادة عندكم؟! قال ابن أختي: فقررت أنا وصديقي إلغاء مشروعنا.
([1]) عن أبي أمامة قال: قيل لرسول الله ﷺ أي الدعاء أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبات» رواه النسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن، ومعنى «أسمع» أرجى للإجابة.
([2]) عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «من قال حين يصبح لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له، له الـملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير» عشر مرات كتب له بكل واحدة قالها عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات موبقات» أي من الكبائر «ورفعه الله بها عشر درجات وكن له كعتق عشر رقاب وكن له مسلحة من أول النهار إلى ءاخره» رواه الترمذي والنسائي وأحمد، و«مسلحة» أي: سلاحا يحفظه.
([3]) عن الحارث بن مسلم أنه أخبره عن أبيه مسلم بن الحارث التميمي عن رسول الله ﷺ أنه أسر إليه فقال: «إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل اللهم أجرني من النار سبع مرات، فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك كتب لك جوار منها وإذا صليت الصبح فقل كذلك فإنك إن مت في يومك كتب لك جوار منها» رواه أبو داود والنسائي وابن حبان، و«جوار» أي خلاص.
([4]) أي: سهل دخوله في الحلق أو أنزله بسهولة في هذا الموضع الضيق.
([6]) رواه الحافظ الزبيدي في شرح الإحياء عن علي موقوفا، وعند غيره من طريق ابن شهاب مرسلا.