قول المفسر محمد بن أحمد القرطبي المالكي رحمه الله
(ت 671هـ)
قال المفسر محمد بن أحمد القرطبي([1]): «الفصل الأول: اعتقاد المسلمين: أما اعتقاد المسلمين فهو أن كل موجود سوى الله تعالى فهو محدث مخلوق مخترع، على معنى أنه لم يكن موجودا ثم صار موجودا، وأن له محدثا موجودا قديما لا يشبه شيئا من الموجودات الحادثة بل يتعالى عن شبهها من كل وجه، فليس بجسم ولا يحل في الأجسام، ولا جوهر ولا يحل في الجواهر، ولا عرض ولا تحله الأعراض. وأنه إله واحد لا شريك له في فعله، ولا نظير له في ذاته وطوله([2])، لا ينبغي له الصاحبة ولا الولد، ولم يكن له من خلقه كفؤا أحد، وأنه عالم قادر مريد حي، موصوف بصفات الكمال من السمع والبصر والكلام وغير ذلك مما يكون كمالا في حقه، وأنه منزه عن صفات النقص والقصور، وأنه يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء، لا يفتقر إلى شىء، وإليه يفتقر كل شىء، وبيده ملك كل جماد وحي، لا يجب عليه لمخلوق حق ـ أي لا حق يلزمه ـ، وتجب حقوقه على الخلق، لا يتوجه عليه متى ولا أين ولا لـم ولا كيف فلا يقال: متى وجد ولا أين وجد ولا كيف هو ولا لـم فعل، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون {23} (الأنبياء)» اهـ.
وقال في تفسيره([3]): «وقيل: إتيان الله تعالى مجيئه لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة كما قال تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا {22} (الفجر)، وليس مجيئه تعالى حركة ولا انتقالا ولا زوالا، لأن ذلك إنما يكون إذا كان الجائي جسما أو جوهرا. والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: يجيء وينزل ويأتي، ولا يكيفون لأنه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير {11} (الشورى)» اهـ.
وقال رحمه الله تعالى أيضا([4]): «ولا يجوز أن يحمل هذا وما أشبهه مما جاء في القرآن والخبر على وجه الانتقال والحركة والزوال، لأن ذلك من صفات الأجرام والأجسام، تعالى الله الكبير المتعال ذو الجلال والإكرام عن مماثلة الأجسام علوا كبيرا» اهـ.
وقال أيضا([5]): « قال شيخنا أبو العباس رحمه الله: متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرءان وإضلال العوام كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرءان، أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية، حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وإصبع تعالى الله عن ذلك» اهـ.
وقد ذكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات([6]) الحديث الطويل الذي فيه «يأتيهم الله في صورة» الحديث ثم أورد في شرحه أقوال بعض العلماء فقال: «فهذا حديث قد رواه البخاري في الصحيح عن أبي اليمان دون ذكر الصورة ثم أخرجه من حديث معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد وفيه ذكر الصورة، وأخرجه أيضا من حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري، ورواه مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن أبي اليمان نحو حديث إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عطاء بن يزيد وفيه ذكر الصورة، وأخرجاه من حديث عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، إلا أن في حديثه([7]): «في أدنى صورة من التي رأوه فيها».
وقد تكلم الشيخ أبو سليمان الخطابي رحمه الله في تفسير هذا الحديث وتأويله بما فيه الكفاية، ثم قال([8]): «وأما قوله: «فيأتيهم الله» إلى تمام الفصل فإن هذا موضع يحتاج الكلام فيه إلى تأويل وتخريج، وليس ذلك من أجل أننا ننكر رؤية الله سبحانه بل نثبتها، ولا من أجل أنا ندفع ما جاء في الكتاب وفي أخبار رسول الله ﷺ من ذكر المجيء والإتيان، غير أنا لا نكيف ذلك ولا نجعله حركة وانتقالا كمجيء الأشخاص وإتيانها، فإن ذلك من نعوت الحدث، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ويجب أن تعلم أن الرؤية التي هي ثواب للأولياء وكرامة لهم في الجنة غير هذه الرؤية المذكورة في مقامهم يوم القيامة»اهـ. واحتج بحديث صهيب في الرؤية بعد دخولهم الجنة ثم قال: «وإنما تعريضهم لهذه الرؤية امتحان من الله عز وجل لهم، يقع بها التمييز بين من عبد الله وبين من عبد الشمس والقمر والطواغيت، فيتبع كل من الفريقين معبوده، وليس ننكر أن يكون الامتحان إذ ذاك يعد قائما، وحكمه على الخلق جاريا، حتى يفرغ من الحساب ويقع الجزاء بما يستحقونه من الثواب والعقاب، ثم ينقطع إذا حقت الحقائق، واستقرت أمور العباد قرارها» اهـ.
ثم قال([9]): «وتخريج معنى إتيان الله في هذا إياهم أنه يشهدهم رؤيته ليثبتوه فتكون معرفتهم له في الآخرة عيانا، كما كان اعترافهم برؤيته في الدنيا علما واستدلالا، ويكون طروء الرؤية بعد أن لم يكن بمنزلة إتيان الآتي من حيث لم يكونوا شاهدوه فيه. قيل: ويشبه أن يكون -والله أعلم- إنما حجبهم عن تحقيق الرؤية في الكرة الأولى حتى قالوا: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، من أجل من معهم من المنافقين الذين لا يستحقون الرؤية وهم عن ربهم محجوبون، فلما تميزوا عنهم ارتفع الحجاب ـ أي المعنوي ـ فقالوا عندما رأوه: أنت ربنا» اهـ. ثم قال([10]): «وأما ذكر الصورة في هذه القصة فإن الذي يجب علينا وعلى كل مسلم أن يعلمه أن ربنا ليس بذي صورة ولا هيئة، فإن الصورة تقتضي الكيفية، وهي عن الله وعن صفاته منفية، وقد يتأول معناها على وجهين، أحدهما: أن تكون الصورة بمعنى الصفة، كقول القائل: صورة هذا الأمر كذا وكذا، يريد صفته، فتوضع الصورة موضع الصفة.
والوجه الآخر: أن المذكور من المعبودات في أول الحديث إنما هي صور وأجسام كالشمس والقمر والطواغيت ونحوها، ثم لما عطف عليها ذكر الله سبحانه خرج الكلام فيه على نوع من المطابقة فقيل: «يأتيهم الله في صورة كذا» إذ كانت المذكورات قبله صورا وأجساما، وقد يحمل آخر الكلام على أوله في اللفظ ويعطف بأحد الاسمين على الآخر. والمعنيان متباينان وهو كثير في كلامهم، كالعمرين والأسودين والعصرين، ومثله في الكلام كثير. ومما يؤكد التأويل الأول هو أن معنى الصورة الصفة قوله من رواية عطاء ابن يسار عن أبي سعيد: «فيأتيهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها» وهم لم يكونوا رأوه قط قبل ذلك، فعلمت أن المعنى في ذلك الصفة التي عرفوه بها، وقد تكون الرؤية بمعنى العلم، كقوله: وأرنا مناسكنا {128} (البقرة) أي علمنا. قال أبو سليمان: ومن الواجب في هذا الباب أن نعلم أن مثل هذه الألفاظ التي تستشنعها النفوس إنما خرجت على سعة مجال كلام العرب ومصارف لغاتها، وأن مذهب كثير من الصحابة وأكثر الرواة من أهل النقل الاجتهاد في أداء المعنى دون مراعاة أعيان الألفاظ، وكل منهم يرويه على حسب معرفته ومقدار فهمه وعادة البيان من لغته، وعلى أهل العلم أن يلزموا أحسن الظن بهم، وأن يحسنوا التأني لمعرفة معاني ما رووه، وأن ينزلوا كل شىء منه منزلة مثله في ما تقتضيه أحكام الدين ومعانيها، على أنك لا تجد بحمد الله ومنه شيئا صحت به الرواية عن رسول الله ﷺ إلا وله تأويل يحتمله وجه الكلام، ومعنى لا يستحيل في عقل أو معرفة» اهـ.
ومما ذكره القرطبي أيضا في تفسيره على محمل التنزيه لا التجسيم والتكييف قوله في تفسير قول الله تعالى([11]): يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد {30} (ق) ما نصه: «وقيل: ينطق الله النار حتى تقول هذا كما تنطق الجوارح، وهذا أصح على ما بيناه في سورة الفرقان. وفي صحيح مسلم والبخاري والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينـزوي بعضها إلى بعض([12])، وتقول: قط قط…» لفظ مسلم([13]). وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة: «قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذاب أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ ويزوى بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله ـ عز وجل ـ من خلقه أحدا…» لفظ البخاري([14]). قال علماؤنا رحمهم الله: أما معنى القدم هنا فهم قوم يقدمهم الله إلى النار، وقد سبق في علمه أنهم من أهل النار. وكذلك الرجل وهو العدد الكثير من الناس وغيرهم، يقال: رأيت رجلا من الناس ورجلا من جراد، قال الشاعر: [الطويل]
إليهم من الحي اليمانين أرجل | فمر بنا رجل من الناس وانزوى | |
على ابني نزار بالعداوة أحفل | قبائل من لخم وعكل وحمير |
ويبين هذا المعنى ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «ما في النار بيت ولا سلسلة ولا مقمع([15]) ولا تابوت إلا وعليه اسم صاحبه، فكل واحد من الخزنة ينتظر صاحبه الذي قد عرف اسمه وصفته، فإذا استوفى كل واحد منهم ما أمر به وما ينتظره ولم يبق منهم أحد، قال الخزنة: قط قط، حسبنا حسبنا ـ أي اكتفينا اكتفينا ـ، وحينئذ تنـزوي جهنم على من فيها، وتنطبق إذ لم يبق أحد ينتظر» اهـ. فعبر عن ذلك الجمع المنتظر بالرجل والقدم». ثم قال: «وقال النضر بن شميل([16]) في معنى قوله عليه السلام: «حتى يضع الجبار فيها قدمه» أي من سبق في علمه أنه من أهل النار» اهـ. قال القاضي عياض في كتابه مشارق الأنوار على صحاح الآثار([17]): «قوله: حتى يضع الجبار فيها قدمه» قيل: هو أحد الجبابرة الذين خلقهم الله لها فكانت تنتظره، وقيل: الجبار هنا الله تعالى، وقدمه قوم قدمهم الله تعالى لها أو تقدم في سابق علمه أنه سيخلقهم لها وهذا تأويل الحسن البصري([18]) كما جاء في كتاب التوحيد من البخاري «وأن الله ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها». وقال أيضا: «وقيل: معناه يقهرها بقدرته حتى تسكن، يقال: وطئنا بني فلان إذا قهرناهم وأذللناهم» اهـ.
ويزيد في تأكيد أن الرجل تأتي بمعنى العدد الكثير ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال[19]: «بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد من ذهب»اهـ. قال الحافظ ابن حجر[20] : «قوله: (رجل جراد) إي جماعة جراد»اهـ.
[1] ) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام، القرطبي، ص 440.
[2] ) «والطول، والطائل، والطائلة: الفضل، والقدرة، والغنى، والسعة. قوله تعالى: ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير {3} (غافر)، أي ذي القدرة، وقيل: ذي الفضل والمن» اهـ. تاج العروس، الزبيدي. مادة ط و ل، 29/395.
[3] ) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 7/129.
[4] ) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 3/28.
[5] ) تفسير القرطبي، القرطبي، 4/14.
[6] ) الأسماء والصفات، البيهقي، ص374.
[7] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، 1/112.
[8] ) أعلام الحديث شرح صحيح البخاري، الخطابي، 1/ 524.
[9] ) الأسماء والصفات، البيهقي، ص374.
[10] ) الأسماء والصفات، البيهقي، ص374.
[11] ) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 17/18، 19.
[12] ) قال الشيخ المحدث عبد الله الهرري رحمه الله في بعض دروسه: «ينضم بعضها إلى بعض» اهـ. وقال ابن بطال: «قال النضر بن شميل: القدم ههنا هم الكفار الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار، وأنه تملأ النار بهم حتى ينزوي بعضها إلى بعض من الملأ لتضايق أهلها» اهـ. شرح صحيح البخاري، ابن بطال، 10/412.
[13] ) صحيح مسلم، مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، 8/158.
[14] ) صحيح البخاري، البخاري، كتاب التفسير، باب قوله وتقول هل من مزيد {30} (ق)، 6/173.
[15] ) «المقمع والمقمعة: ما قمع به، والمقمعة: سياط تعمل من حديد رؤوسها معوجة» اهـ. لسان العرب، ابن منظور، مادة ق م ع، 8/294.
[16] ) النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد المازني التميمي، أبو الحسن أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب ورواية الحديث وفقه اللغة. ولد بمرو (من بلاد خراسان) وانتقل إلى البصرة، توفي بمرو. من كتبه: «الصفات»، و«كتاب السلاح». الأعلام، الزركلي، 8/33.
[17] ) مشارق الأنوار على صحاح الآثار، القاضي عياض، 1/268.
[18] ) الحسن بن يسار البصري، ت110هـ، أبو سعيد من كبار التابعين، كان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه. شب في كنف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخباره كثيرة. حلية الأولياء، أبو نعيم، 2/131. ميزان الاعتدال، الذهبي، 1/ 245. الأعلام، الزركلي، 2/226، 227.
[19] ) صحيح البخاري، البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ[سورة الأنبياء].
[20] ) فتح الباري، ابن حجر، 6/ 425.