الإثنين ديسمبر 8, 2025

قول الإمام مالك رضي الله عنه (ت 179هـ)

قال الإمام مالك رضي الله عنه في ما رواه عنه الحافظ المجتهد أبو بكر ابن المنذر([1]): «أرى في أهل الأهواء أن يُعْرَضُوا على السيف، فإن رُدِعوا وإلا ضُرِبَتْ أعناقُهُم» اهـ. وأهل الأهواء هم الفرق التي اتبعتْ أهواءها بما يخالف أهل السنة والجماعة في المعتقد كالمشبهة والمجسّمة والمعتزلة والجهمية.

وقد تقدم أن البيهقيّ أخرج([2]): «أن رجلًا دخل على الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه) كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرُّحَضاء ثم رفع رأسه فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كما وصف نفسه ولا يقال: كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه، فأُخرج الرجل» اهـ.وفي رواية: «الاستواء معلوم ولا يقال كيف، والكيف غير معقول» اهـ. ومعنى «الاستواء معلوم»: أي معلوم وروده في القرآن بأنه مستوٍ على عرشه استواءً يليق به، ومعنى «والكيف غير معقول»: يريد الكيف من الشكل والهيئة والجلوس والاستقرار ونحو ذلك من صفات المخلوقين فهذا كله غير معقول في حقّ الله، أي لا يقبله العقل السليم، لكون هذه الصفات من أوصاف الأجسام.

ولا يصح عن مالك رضي الله عنه ولا عن غيره من السلف أنه قال: «الاستواء معلوم والكيفية مجهولة» فهذه العبارة لم تثبت من حيث الإسنادُ عن أحد من السلف كما تقدّم، وهي موهمة معنًى فاسدًا، وهو أن استواء الله على العرش هو استواء له هيئة وشكل نحن لا نعلمه، وهذا خلاف مراد السلف بقولهم: «والكيف غير معقول».

ولا يُغترّ بوجود هذه العبارة في كتب بعض المشاهير فهم لا يفهمون منها ما تفهمه المشبهة المجسمة لأنهم صَرَّحوا في كتبهم بأن الله منزّه عن الجسمية والتحيّز في المكان وعن الحدّ والمقدار لأن الحدّ والمقدار من صفات المخلوق، قال الله تعالى: وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ {8} (الرعد)، فالتحيّز في المكان والجهة من صفات الحجم والله ليس حجمًا ولا يجوز عليه ما يجوز على الأحجام من الصفات.

وعبارة: «الاستواء معلوم والكيفية مجهولة» وإن وُجِدت في بعض الكتب إلا أنها غلطة لا أساس ولا إسناد لها عن السلف، لا عن الإمام مالك ولا عن غيره، وهي شنيعة لأنها يفهم منها المشبّه المجسّم كيفًا لكن لا نعلمه، هو مجهول عندنا، وأما بعض من أوردها من أهل السّنة بلا إسناد فلا يفهمون هذا المعنى، بل يفهمون منها أن حقيقة الاستواء غير معلومة للخلق، ولكن المجسّمة تقصد بها ما يناسب معتقدها من أن الله حجم له حيّز. والعجب كيف يقولون إن الاستواء على العرش حسّيّ ثم يصفونه بأنه مجهول! ولعلّهم يريدون بهذا هل هو جلوس ترَبُّع أم على شكل آخر، والعياذ بالله تعالى.

وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة من الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة والتابعين من بعدهم([3]) للالكائيّ، وكتاب الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة لابن بطة([4]): «عن الإمام المجتهد سفيان بن عيينة أنه سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه) كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله تعالى الرسالة، وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق» اهـ.

ويستدل بقول الله تعالى: وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ {8} (الرعد)على أنّ الله خلق كل شىء على كميّة مخصوصة أي على حجمٍ مخصوص، فالعرشُ له حجمٌ وهو أكبرُ جسمٍ خلقه الله تعالى من حيث المِساحة. وكذلك الذَّرَّة لها حجمٌ، ولكن الله تعالى الذي خلق كل شىءٍ على حجمٍ مخصوصٍ لا يجوزُ أن يكون ذا حجمٍ، ويُفهم من هذه الآية أنّ الله لا يجوز أن يُوصف بصفاتِ الأحجام، وصفاتُ الأحجامِ كثيرةٌ منها الحركةُ والسكونُ والاتصالُ والانفصالُ واللونُ والبرودةُ والحرارةُ واليُبوسةُ والجلوسُ والاستقرارُ والتغيّرُ. والله تعالى جعل الأجسامَ على أحوالٍ منها ما هو ساكنٌ على الدوامِ كالعرشِ والسماواتِ السبعِ، ومنها ما هو متحرّكٌ أحيانًا وساكنٌ أحيانًا كالإنسان والملائكةِ والجنِ، ومنها ما هو متحركٌ دومًا كالنجومِ. فالله الذي خلق هذه الأشياء لا يجوز أن يكون مُشبهًا لها ولا متصفًا بصفةٍ من صفاتها. وهذا العرش المجيد خلقه الله ليكون قِبلةً للملائكة الحافّين حوله يتوجهون إليه ويطوفون به كما أنّ المؤمنين في الأرض يتوجهون إلى الكعبة ويطوفون حولها ويُعظّمونها.

فكما أنّه لا مناسبةَ بين الله والكعبةِ، كذلك لا مناسبةَ بين الله والعرشِ. ثم فوق العرش يوجدُ مكانٌ، فقد ورد في صحيح البخاريّ([5]) وصحيحِ ابن حِبّان([6]) أنّ رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ الله كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ» معناه يوجدُ كتابٌ فوق العرش مكتوبٌ فيه هذه الجملة: «إنَّ رَحمتي سَبَقَتْ غَضَبي»، فدلّ الحديث على وجود مكان فوق العرش وأن هذا المكان جعل الله فيه كتابًا، فهل يقول المشبهة إن الله بذاته على العرش مع هذا الكتاب ! أم يقولون إن الله بذاته مع الملائكة في السماء يزاحمهم! أم يقولون إنه مع البشر بذاته أين ما كانوا ! تعالى الله عن كل ذلك، فهذا التناقض في الاعتقاد وهذا التخبُّط في الرأي لا يشكُّ في قبحه وردّه من كان عنده أدنى فهم وتمييز. ومعنى «إنَّ رحمتي سَبَقَتْ غَضَبي» أنّ مظاهرَ رحمةِ الله كالجنّةِ والملائكةِ أسبق وجودًا وأعظمُ من مظاهرِ الغضبِ كالنارِ والشياطينِ، وليس معناه أن الله لهُ صفة تسبقُ صفة، فاللهُ تعالى صفاتُهُ كلها أزليّة ليس فيها سابقٌ ومسبوقٌ.

[1] ) محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوريّ، ت 319هـ، فقيه مجتهد، من الحفاظ،=
 =قال الذهبيّ: «ابن المنذر صاحب الكتب التي لم يصنَّف مثلها» اهـ، منها: «المبسوط» في الفقه، و«الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف». الأعلام، الزركلي، 5/294.

 

[2] ) الأسماء والصفات، البيهقيّ، ص 515.

 

[3] ) شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة، اللالكائيّ، 1/398.

 

[4] ) الإبانة، ابن بطة، 3/164.

    ابن بطة عبيد الله بن محمد العكبريّ الحنبليّ، ت 304هـ. عالم بالحديث، فقيه من كبار الحنابلة. من أهل عكبرا مولدًا ووفاة، رحل إلى مكة والثغور والبصرة وغيرها في طلب الحديث، ثم لزم بيته أربعين سنة، فصنَّف كتبه وهي تزيد على مائة، منها: «الشرح والإبانة على أصول السّنة والديانة»، و«التفرد والعزلة». الأعلام، الزركلي، 4/197.

[5] ) صحيح البخاريّ، البخاري، 9/196.

 

[6] ) صحيح ابن حبان، ابن حبان، 14/13. وروايته: «لَمَّا قَضَى الله الخلقَ كَتَبَ في كِتَاب عِنْدَهُ: غَلَبَتْ أَوْ قَالَ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضْبِي (الشك من الراوي) قَالَ: فَهِيَ عِنْدَه فَوْقَ العَرْشِ».

    محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد التميمي أبو حاتم البستي، ت 354هـ، محدّث مؤرخ علامة جغرافي. ولد في بلاد سجستان وتنقل في الأقطار وهو أحد المكثرين في التصنيف. من كتبه «المسند الصحيح»، و«روضة العقلاء» في الأدب. الأعلام، الزركلي، 6/78.