الجمعة أكتوبر 18, 2024

قول الإمام المجتهد ابن جرير الطبريّ رحمه الله
(ت 310هـ)

قال الإمام المفسر محمد بن جرير الطبريّ تحت باب عنوانه([1]): «القول في الدلالة على أن الله عزَّ وجلَّ القديم الأول قبل كلّ شىء، وأنه هو المُحدِث كلّ شىء بقدرته تعالى ذكره:

فمن الدّلالة على ذلك أنه لا شىء في العالم مشاهد إلا جسمٌ أو قائمٌ بجسم، وأنه لا جسم إلا مفترق أو مجتمع، وأنه لا مفترق منه إلا وهو موهوم فيه الائتلاف إلى غيره من أشكاله، ولا مجتمع منه إلا وهو موهوم فيه الافتراق، وأنه متى عدم أحدهما عدم الآخر معه، وأنه إذا اجتمع الجزآن منه بعد الافتراق فمعلوم أن اجتماعهما حادث بعد أن لم يكن.

وإذا كان الأمر في ما في العالَمِ من شىء كذلك، وكان حكم ما لم يُشاهَد وما هو من جنس ما شاهدنا في معنى جسم أو قائم بجسم، وكان ما لم يخلُ من الحَدَثِ لا شكّ أنه محدَث بتأليفِ مؤلّفٍ _ بكسر اللام المشددة _ له إن كان مجتمعًا، وتفريق مفرّق _ بكسر الراء المشدّدة _ له إن كان مفترقًا، وكان معلومًا بذلك أن جامع ذلك إن كان مجتمعًا، ومفرّقه إن كان مفترقًا، من لا يشبهه ومن لا يجوز عليه الاجتماع والافتراق، وهو الواحد القادر الجامع بين المختلفات الذي لا يشبهه شىء، وهو على كلّ شىء قدير، فبُيّنَ ممّا وصفنا أن بارئ الأشياء ومحدِثَها كان قبل كلّ شىء، وأن الليل والنهار والزمان والساعات محدَثات، وأن محدِثَها الذي يدبّرها ويصرّفها قبلها، إذ كان من المحال أن يكون شىء يُحدِث شيئًا إلا ومحدثه قَبلَه، وإن في قوله تعالى ذِكْرُهُ: أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ {17} وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ {18} وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ {19} وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ {20} (الغاشية) لَأَبْلَغَ الحُجَج وأدلَّ الدلائل لمن فكّر بعقل، واعتبر بفهم على قِدَمِ بارئها وحدوث كلّ ما جانسها، وأن لها خالقًا لا يشبهها» اهـ.

فإن قيل: روى البيهقيّ بإسناد صحيح عن ابن عباس أنه قال([2]): «تفكّروا في كل شىء ولا تفكروا في ذات الله» اهـ. فالجواب: أن النّهي ورد عن التفكر في الخالق مع الأمر بالتّفكر في الخلق، فإنه يوجب النظر وإعمال الفكر والتأمّل في ملكوت السموات والأرض ليستدلّ بذلك على وجود الخالق الصانع وعلى أنه لا يشبه شيئًا من خلقه، ومن لم يعرف الخالق من المخلوق لا يكون عارفًا بالله تعالى، وعليه فلا يكون عاملًا بهذا الأثر الصحيح. وقد أمر القرآن بتعلّم الأدلة على العقائد الإسلامية على وجوده تعالى وعلى ثبوت العلم له والقدرة والمشيئة والوحدانية إلى غير ذلك من الصفات الواجبة له سبحانه ولم يطعن إمام معتبر في هذا العلم الذي هو مقصد أهل السنّة والجماعة من السلف والخلف.

[1] ) تاريخ الأمم والملوك، الطبريّ، 1/25.

 

[2] ) الأسماء والصفات، البيهقيّ، ص420، فتح الباري، ابن حجر، 13/383، وعزاه للبيهقيّ وقال: «موقوف وسنده جيد» اهـ.