الجمعة أكتوبر 25, 2024

قول الإمام ابن بطّال المالكيّ شارح البخاريّ (ت 449هـ)

قال الإمام ابن بطّال([1]): «ومعنى قول عائشة رضي الله عنها: «الحمد لله الذي وسِع سَمْعُه الأصوات» أدرك سمعُه الأصوات لا أنه اتَّسع سمعه لها، لأن الموصوف بالسعة يصحّ وصفه بالضيق بدلًا منه، والوصفان جميعًا من صفات الأجسام» اهـ.

وقال ابن حجر العسقلانيّ([2]): «وقال ابن بطّال: تضمّنت ترجمة الباب ـ أي قول البخاريّ: كتاب التوحيد ـ أن الله ليس بجسم لأن الجسم مركّب من أشياء مؤلّفة، وذلك يردّ على الجهمية في زعمهم أنه جسم. كذا وجدت فيه، ولعلّه أراد أن يقول: المشبهة، وأما الجهمية فلم يختلف أحد ممن صنّف في المقالات أنهم ينفون الصفات حتى نُسِبوا إلى التعطيل» اهـ.

وقال ابن حجر أيضًا([3]): «قال ابن بطّال: احتجّت المجسّمة بهذا الحديث فقالوا في قوله «وأشار بيده ـ أي النبي ﷺ ـ إلى عينه»: دلالة على أن عينه كسائر الأعين، وتُعُقّبَ باستحالة الجسمية عليه لأن الجسم حادث وهو قديم، فدلّ على أن المراد نفي النقص عنه» اهـ.

وقال أيضًا([4]): «وأما قول المجسّمة ففاسد أيضًا لأن الاستقرار من صفات الأجسام، ويلزم منه الحلول والتناهي، وهو محال في حق الله تعالى، ولائق بالمخلوقات لقوله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ {28} (المؤمنون)، وقوله: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه ِ{13} (الزخرف)» اهـ.

فائدة: في بيان معاني الاستواء في اللغة وما هو اللائق منها بالله قال الإمام القاضي أبو بكر بن العربيّ محمد بن عبد الله([5]) المتوفّى سنة 543 هجرية رحمه الله([6]): «والذي يجب أن يُعتقدَ في ذلك أنّ الله كان ولا شىء معه، ثمّ خلق المخلوقات من العرش إلى الفرش([7])، فلم يتعيّن بها ولا حدث له جهة منها، ولا كان له مكان فيها، فإنّه لا يحول ولا يزول، قدّوس([8]) لا يتغيّر ولا يستحيل، وللاستواء في كلام العرب خمسة عشر معنى ما بين حقيقة ومجاز. منها ما يجوز على الله فيكون معنى الآية، ومنها ما لا يجوز على الله بحال، وهو إذا كان الاستواء بمعنى التمكّن أو الاستقرار أو الاتصال أو المحاذاة، فإنّ شيئًا من ذلك لا يجوز على البارئ تعالى ولا يُضربُ له الأمثال به في المخلوقات» اهـ.

وقد نص على معانيها أهل اللغة في مطوَّلاتهم، ومنهم خاتمة اللغويين والحفاظ محمد مرتضى الزبيدي في تاج العروس حيث قال([9]): «استوى: قد يُسند إليه فاعلان فصاعدًا، ويكون بمعنى اعتدل في ذاته ـ وهذا في حق غير الله تعالى ـ، ومنه قوله تعالى: (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى( {6} (النجم)،و (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) {28} (المؤمنون)، و (لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ( (الزخرف)، و (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) {29} (الفتح). وقولهم: استوى فلان على عمالته، واستوى يأمر.

ومن ذلك: استوى الرَّجل إذا بلغ أَشُدَّه، فعلى هذا قوله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى {14} (القصص) يكون استوى عطف تفسير، أو بلغ أربعين سنة، وبه فسّرت الآية. وفي الصّحاح: استوى الرجل إذا انتهى شبابه. وفي التهذيب: المستوي من الرجال الذي بلغ الغاية من شبابه وتمام خلقه وعقله، وذلك بتمام ثمان وعشرين إلى تمام ثلاثين، ثم يدخل في حدّ الكهولة، ويحتمل كون بلوغ الأربعين غاية الاستواء وكمال العقل. ولا يقال في شىء من الأشياء استوى بنفسه حتى يُضمّ إلى غيره فيُقال استوى فلان وفلان، إلّا في معنى بلوغ الرجل النهاية فيُقال: استوى، ومثله اجتمع.

قال الرّاغب: ومتى ما عُدّي بعلى اقتضى معنى الاستيلاء كقوله عزّ وجلّ: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {5} (طه) ومنه قول الأخطل([10]) أنشده الجوهريّ: [الرجز]

قد استوى بِشْرٌ على العراقِ

 

منْ غيرِ سيفٍ ودمٍ مُهْراقِ

 

ثم قال الراغب([11]): وقيل معناه استوى كلّ شىء في النسبة إليه، فلا شىء أقرب إليه من شىء إذ كان عزّ وجلّ ليس كالأجسام الحالّة في مكان دون مكان» اهـ.

ومن معاني الاستواء الجلوس والنضوج والتمام بعد النقصان، فلو قال شخص: استوت الفاكهة بمعنى جلست، واستوى القمر أي صار ناضجًا بعد أن كان نيئًا، تضحك الناس من قصر عقله لسخافة ما يدّعيه، فإذا كان تشبيه المخلوق بالمخلوق على هذا النحو عَبَثًا غير مقبول، فكيف بتشبيه الخالق بالمخلوق؟!.

[1] ) شرح البخاريّ، ابن بطال، 1/417.

 

[2] ) فتح الباري، ابن حجر، 13/345.

 

[3] ) فتح الباري، ابن حجر، 13/390.

 

[4] ) فتح الباري، ابن حجر، 13/406.

 

[5] ) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، أبو بكر بن العربي، ت 543هـ، قاض من حفاظ الحديث ولد في إشبيلية سنة 468هـ، صنَّف كتبًا في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ، من كتبه: «العواصم من القواصم»، و«عارضة الأحوذي». الأعلام، الزركلي، 6/230.

 

[6] ) عارضة الأحوذيّ بشرح صحيح الترمذيّ، أبو بكر بن العربيّ المالكيّ، 2/236 .

 

[7] ) قال الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله في بعض دروسه: «هو شىء واسع كالغطاء تحت الأرض السابعة فوق جهنم» اهـ.

 

[8] ) «القدوس: المُنَزَّهُ عنِ العُيُوبِ والنَّقائصِ» اهـ. تاج العروس، الزبيدي، مادة : ق د س، 16/357.

 

[9] ) تاج العروس، الزَّبيدي، مادة س و ي، 38/330، 332.

 

[10] ) الأخطل غِياث بن غَوْث، نصرانيّ من بني تغلب أبو مالك، شاعر مصقول الألفاظ، حسن الديباجة، اشتهر في عهد بني أمية بالشام، وأكثر من مدح ملوكهم، وهو أحد الثلاثة المتفق على أنهم أشعر أهل عصرهم: جرير والفرزدق والأخطل.  له ديوان شعر، ولد 19هـ، وتوفي 90هـ، الأعلام، الزركلي، 5/123.

 

[11] ) مفردات القرءان، الراغب الأصفهاني، 1/ 439.