الجمعة أكتوبر 25, 2024

قول إمام الحرمين أبي المعالي
عبد الملك بن عبد الله الجوينيّ([1]) رحمه الله (ت 478هـ)

قال إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجوينيّ الأشعريّ ما نصه([2]): «البارئ سبحانه وتعالى قائمٌ بنفسه، واعلم أن معنى قيامه بنفسه هو استغناؤه عن كلّ ما سواه، فلا يحتاج إلى مخصّص له بالوجود، لأنَّ الاحتياج إلى الغير ينافي قِدَمَه، وقد ثبت وجوب قِدَمه وبقائه، متعالٍ عن الافتقار إلى محلّ يحلّه أو مكانٍ يُقلّه» اهـ.

وقال أيضًا ما نصه([3]): «مذهب أهل الحقّ قاطبةً أن الله سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيّز والتخصّص بالجهات» اهـ.

وقال أيضًا([4]): «إن سميتم البارئ جسمًا وأثبتم له حقائق الأجسام فقد تعرضتم لأمرين: إما نقض دلالة حدث الجواهر، فإنّ مبناها على قبولها للتأليف والمماسة والمباينة ـ أي الانفصال ـ وإما أن تطردوها وتقضوا بقيام دلالة الحدث في وجود الصانع، وكلاهما خروج عن الدين، وانسلال عن رِبْقَة المسلمين([5])» اهـ.

ثم قال: «وتفصيل ذلك أن الحدوث فينا منعوت بالجواز، فنقدّسُ الإلهَ عنه، والتركّب والتصوّر عنه والتقدّر في صفاتنا موسومة بالجواز، فلا تَركّب إلا ويجوز فرض خلافه، ولا قَدْر ولا حدّ ولا طول ولا عرض إلا والعقل يُجوّزُ أمثالها وخلافها، وهذه الصفات لجوازها افتقرت إلى تخصيص بارئها، فتعالى الصانع عنها» اهـ.

وقال أيضًا([6]): «نقول: من انتهض لمعرفة مدبّره فإن اطمأنّ إلى موجود انتهى إليه فكره فهو مشبّه([7])، وإن اطمأنّ إلى النفي المحض فهو معطّل([8])، وإن قطع بموجود واعترف بالعجز عن درك حقيقته فهو موحّد([9])، وهو معنى ما روي عن الصّدّيق رضي الله عنه: [البسيط]

 

العجزُ عن دَرَكِ الإدْراكِ إدراكُ

 

والبحثُ عن ذاتِهِ كفرٌ وإشراكُ

 

فإن قيل: فغايتكم إذًا حيرة ودهشة؟ قلنا: العقول حائرة في درك الحقيقة -أي حقيقة الله- قاطعة بالموجود المنزَّه عن صفات الافتقار» اهـ. وهذا النقل الأخير على اختصاره محكَم الصنعة يدل على تحقيق باهر وهو من جنس ما رُوي عن الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، فما أدقّها من عبارة وما أوسع معناها، شفى بها صدور قوم مؤمنين، فرضي الله عنه وجزاه عنا وعن الإسلام خيرًا، وقد أخذها من قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} (الشورى)، ومن قوله سبحانه: وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ {4} (الإخلاص)، ومن قوله عزّ وجلّ: فَلاَ تَضْرِبُواْ للهِ الأَمْثَالَ {74} (النحل)، ومن قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا {65} (مريم). وكل هذا يدلّ على أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أكَّد على تنـزيه الله عما يخطر في الأذهان من معاني الجسمية وصفاتها كالجلوس والتحيز في جهة وفي مكان والحركة والسكون ونحو ذلك، فقد روى السيوطيّ([10]) وغيره أن الإمام الشافعيّ قال: «المجسّم كافر» اهـ.

وقال إمام الحرمين الجويني([11]) رحمه الله أيضًا: «فصل مشتمل على الرد على من قال: إنَّ الله تعالى جسم وليس بمتألف.

قد ذهبت بعض المجسمة إلى موافقة أهل الحق في تقدس الربّ سبحانه وتعالى عن خصائص الأجسام وما يثبت لها من الأحكام. وذهبوا إلى منع كونه مؤلّفًا، ثم ساروا إلى أن الـمَعْنِيَّ بكونه جسمًا: وجوده أو قيامه بالنفس. ومن سلك هذا المسلك آلَ الكلام معه إلى التنازع في الإطلاق والتسمية نفيًا وإثباتًا.

ومما يفسد هذه الطريقة ويوضح بطلانها ما قدمناه من إنباء الجسم عن التأليف، فمن أراد صرفه عن وجهه والعدول عن قضيته في موجب الله كان مصدودًا عن ذلك، إذ لا سبيل إلى إزالة قضايا الألفاظ من غير دلالة.

ولو سوغنا تبديل اللغة ونقلها عن موضوعها في المسميات الجارية تواضعًا واصطلاحًا بين فئة من الناس، فلا سبيل إلى تجويز ذلك في أوصاف الإله لإجماع الأمة، إذ لو جاز ذلك لجاز للمطلق أن يطلق لفظ المؤلَّف، وإذا روجع فيه فسَّره بالوجود، ومهما ثبت إنباء الجسم في اللغة عن التأليف ترتَّب عليه امتناع تسمية الإله به، ولم يجز ذكره في أوصاف الإله نقلًا وخروجًا عن اللغة.

ثم نقول لهم: أنتم لا تخلون في إطلاقكم الجسم: إما أن تقولوا: أطلقنا ذلك بلا دليل ولا اقتضاء من عقل وشرع ولغة، وإما أن تسندوا مذهبكم إلى دليل في ظنّكم. فإن لم تسندوه إلى دليل، كان الذي ذكرتموه محض التلقيب([12]) بناءً على التشهي والتمني، ولو ساغ ذلك لساغ إثبات سائر الألقاب كذلك، لتجوز تسميته زيدًا وبكرًا وعمرًا، تعالى الله عن قول الزائغين.

وإن أسندتم مذهبكم إلى دليل فَأَيّدُوْهُ بتكلُّم عليه، ولا يجدون إلى إبدائه سبيلًا، إذ مدارك العلوم مضبوطة، وجملتها لا يُتلقَّى منها ما قالوه. فإنَّ من مدارك العلوم العقلَ، ولا يتلقى منه إثبات أصل الأسماء فضلًا عن تفصيلها. ومن مدارك العلوم مواردُ الشرع، وليس في شىء منها ما سوَّغ تسميته تعالى جسمًا؛ إذ لم يدل على ذلك كتاب ولا سنة ولا إجماع. ومن مدارك العلوم في الأسامي قضيةُ اللغة، ولو حكَّمناها في مسألتنا لما قامت على ما يرومه الخصم؛ إذ ليس في لغة العرب تسمية الوجود جسمًا، بل في لغتهم ما يناقض ذلك، فإنهم يصفون الأعراض بالوجود ولو سميت أجسامًا أَبَوْهُ، فإن من سمى علم المرء أو إرادته أو قدرته أجسامًا، كان ذلك عرفًا مستبشعًا في قضية اللغة. فإذا بطل تلقي مرامهم من هذه الجهات لم يبق إلا التَّحَكُّم([13]) الـمَحْض» اهـ.

[1] ) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي، ت 478هـ، ملقب بإمام الحرمين. ولد في جوين من نواحي نيسابور ورحل إلى بغداد فمكة حيث جاور أربع سنين وذهب إلى المدينة وأخذ ودرس جامعًا طرق المذهب ثم عاد إلى نيسابور. له مصنفات كثيرة، منها: «العقيدة النظامية». وفيات الأعيان، ابن خلكان، 1/287، الأعلام، الزركلي، 4/160.

 

[2] ) الإرشاد إلى قواطع الأدلة، الجوينيّ، ص53.

 

[3] ) الإرشاد إلى قواطع الأدلة، الجويني، ص58.

 

[4] ) الإرشاد إلى قواطع الأدلة، الجويني، ص61.

 

[5] ) قوله: «انسلال عن ربقة المسلمين» : أي خروج من حدود الإسلام، والربقة في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها. تاج العروس، الزبيدي، مادة ر ب ق، 13/ 159.

 

[6] ) العقيدة النظامية، الجوينيّ، ص23.

 

[7] ) مشبّه أي شبّه الله تعالى بخلقه، فهو غير مؤمن وغير مسلم.

 

[8] ) معطّل أي منكر وجود الله تعالى، فهو غير مؤمن وغير مسلم.

 

[9] ) موحّد أي آمن بالله تعالى وصدّق به، وهذا هو المسلم المؤمن الناجي يوم القيامة.

 

[10] ) الأشباه والنظائر، السيوطي، ص488.

 

[11] ) الشامل في أصول الدين، الجويني، ص425، 426.

 

[12] ) «لَقَّبْت الاسْمَ بالفِعلِ تَلْقِيبًا: إِذا جَعَلت له مِثالًا من الفِعل» اهـ. تاج العروس، الزبيدي، مادة ل ق ب، 4/220.

 

[13] ) «التحكم: الدعوى بلا دليل» اهـ. الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم، عبد الله الهرريّ، ص178.