الحمد لله الخبير بعباده، البصيرِ في أمور خلقه، الحكيمِ في تقديره، العَدْلِ في حكمهِ، الفَعَّالِ لما يريدُ وكُلُّ الخلقِ مِلْكُه، الحاكمِ المطلقِ الآمرِ الذي لا آمِرَ له، الناهي الذي لا ناهِيَ له، وكُلٌّ تحت حُكْمِهِ و قضائه، وكُلُّ نعمةٍ منه فضلٌ ، وكُلّ نِقمةٍ منه عَدْلٌ ، ولا تثبت قَدَمٌ في الإسلامِ إلا على ظهر التسليم والاستسلام. والصلاة والسلامُ على سيدنا محمدٍ مَن لا نبيَّ بَعْدَه، الصَّادِقِ في كُلِ ما أخبر به و بَلَّغَه عن رَبّه، القائِلِ فيه {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وَحيٌ يوحى} سورة النجم آية 3و4 . ومَن اتبع شريعته ومات على هديه يُدْخله الله دارَ السَّلام.
أما بعد عباد الله، أوصيكم و نفسي بتقوى الله العَلي العظيم القائِلِ في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} سورة الأحزاب آية 36.
بالهدى جاء وبالحق صدع وبالْخُلُقِ العظيم في الناس لَمَعَ وبالمعجزات بُرهانه سطع فآمن به مَن آمن وانقادت له أفئدة وأذعنت له نفوسٌ وبلغ منهم الإيمان مبلغًا عظيمًا حتى قال قائلهم لقد آمن بك جلدي وشعري وكُل جسدي…. فافتدوه بالنفس والمال وارتضوه قائدًا ومُعَلِمًا مصدقين برسالته حتى وقف سعْدُ بن معاذٍ قبل غزوة بدرٍ ونادى مخاطِبًا النَّبِيَ صلى الله عليه وَسَلَّم: “لقد آمنا بك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمع والطاعة فامضِ لما أردت فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تَخَلَّف منا رَجُلٌ واحِدٌ وما نكره أن تلقى بنا عَدُوَّا غدًا إنا لَصَبْرٌ في الحرب صدقٌ في اللقاءِ لعل اللهَ يُرِيْك منَّا ما تَقَرُّ به عينُك” .
وهذا عُكاشةُ وقد حَمِي الوطيس يُدافعُ المشركين بسيفه فَكُسِرَ سيفُه فأعطاه الرسولُ صلى الله عليه وَسَلَّم جزوة من الخشب ليُقاتلَ بها بدلا من السيف المكسور فأخذها عكاشة بلا تردد ولم يَقُل عيدانٌ ماذا أفعل بها كيف أدفع ضربات السيوف بخشبة؟! وهذا من قوة يقين عكاشة بالنبي عليه الصلاة والسلام. فمضى متوكلا على الله مستمِدًا الأمدادَ من النبي محمد فانقلبت العِيدان سيفًا معجزة لسيد المرسلين .
وأما سيف اللهِ المسلول سيدُنا خالد بنُ الوليد لما تَعَلم مِن رسولِ اللهِ أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصِيبه وأنَّ الضار والنافع على الحقيقةِ هو الله فلم يأبه بالسُّم لما أُتِي به إليه بل قال بسم الله الذي لا يَضُرُّ مَعَ اسمه شئ وتناول السُّم فلم يَضُرَّه وما ذاك إلا بقوة اليقين بتعاليم سيد المرسلين.
لكن ليتنبه أنه لا يُتأسى بسيدنا خالد في مثل هذا أي ابتلاع السُّم إلا مَن بَلَغ حالُه نحوَ حالِ سيدنا خالد من الولاية.
ومَرَّةً كان أبو الدرداء في مجلسٍ فأتى رَجُلٌ وقال: يا أبا الدرداء تداركْ دارَك إنها تحترق فقال أبو الدرداء بكل ثقةٍ بالله و يقين بتعاليم سيد المرسلين: داري لم تحترق. ثم أتى آخر وقال: يا أبا الدرداء تدارك دارَك إنها تحترق ، فأعاد أبو الدرداءِ بكل ثباتٍ وبمزيد توكل على ربِّ العالمين وثقةٍ بتعاليم سيد المرسلين: داري لم تحترق، ثم أتى آخر و قال: يا أبا الدرداء لقد شبت النارُ قُبَالَةَ دارِك وانطفأت قبل أن تدخُلَ دارك، فعجبَ الجُلاسُ لأمرِ أبي الدرداءِ وسألوه فقال: لقد سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وَ سَلَّم يقولُ: “مَن قال حين يصبح وحين يمسي: “إنَّ ربي اللهُ الذي لا إله إلى هو عليه توكلتُ و هو رَبُّ العرش العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أشهد أنَّ اللهَ على كل شئٍ قدير وأنَّ اللهَ قد أحاطَ بِكُلِّ شئٍ عِلْمًا أعوذُ بالله الذي يُمسِكُ السماءَ أن تقع على الأرضِ إلا بإذنه مِن شر كل دَابّةٍ ربي آخذٌ بناصيتها إنَّ ربي على صراطٍ مستقيم”. لم يُصبه في نفسه ولا أهلِهِ ولا مالِهِ شئٌ يكرَهُه” .
لذالك قال الشيخ أحمد المرزوقي :
وكل ما أتى به الرسول |
| فحقه التسليم والقبول |
وليس الأمرُ خاصًا بالرجال دون النساءِ ، فها هي أُمُّ سُلَيمٍ المنورةُ القلب بهديِ المصطفى تتحلى بالصبرِ الجميل عند فقد ولدِها مِن أبي طلحةَ اسمعوا معي الأمُ الثكلى تخاطب الزوج قائلةً يا أبا طلحة .. يا أباطلحة: لو أنَّ جيرانًا لنا أعارونا عارِيّةً وأرادوا أن يسترِدُّوها أَتَرُدها إليهم أم لا ؟ فقال الرَّجُل بلى، فقالت إذن احتَسِبِ ابنك . فَأَدْرَكَ الرَّجُلُ أنَّ وَلَدَه قد مات… فهل بلغت أم سُلَيْم هذه الدرجةَ مِن الصبر لولا قوة اليقين بتعاليم سيد العالمين.
فلا عَجَبَ أنْ تَجد بين الصحابَة من كانَ هكذا حاله فإنَّ نبيَهم سيدُ الناس وخيرُ الخلق وأشدُ الناسِ توكلًا على الله وقد غرس فيهم هذا التسليمَ والتعظيمَ لكلام رَبِّ العالمين “فلقد أتى رَجُلٌ إلى رسول الله يشكو إليه أن أخاه تؤلمه بطنُه فأشار عليه أن يأكل العسل فأطعم ذاك أخاه العَسَلَ فبقيت بطنُه تؤلمه فعاد وأخبر النبيَ فأكّد عليه النبيُ أن يأكل العسلَ فعاد الرجلُ وتكرر الأمر فعاد إلى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وَسَلَّم فقال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّم أطعِمْه عَسَلا صَدَق اللهُ وكذبت بطنُ أخيك ففعل الرجلُ وتعافى أخوه” .
ومرة كان الرسول صلى الله عليه وَسَلَّم تحت شجرة فإذا برجلٍ مشرك قد حمل سيفه وسلطه على النبي وقال ” يا محمد من يمنعك مني الآن” ؟ فقال النبي صلى الله عليه وَ سَلَّم بصوت كله ثقة بالله “الله” فسقط السيف من يد المشرك.
فاثبت على نهج النبيِ ولا تحِدْ |
| فبنهجه ترقى الشعوب كذا الدولْ |
واعمل بشرعِ المصطفى تسعَدْ تجِدْ |
| في جنةٍ ذاك الجزاء على العَمَلْ |
ذاك الصراط وكلنا حتما يَرِد |
| يا من خشيت عبورَه دَع ذا الكسل |
فاثبت على نهج النبيِ ولا تحِدْ |
| فبنهجه ترقى الشعوب كذا الدولْ |
واعمل بشرعِ المصطفى تسعَدْ تجِدْ |
| في جنةٍ ذاك الجزاء على العَمَلْ |
ذاك الصراط وكلنا حتما يَرِد |
| يا من خشيت عبورَه دَع ذا الكسل |
الخطبة الثانية
الحمدُ لله الذي لا يضر مع اسمه شئٌ في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم وحَقٌ له علينا أن نعبُدَه وأوجب علينا اتباع المرسلين وَوَعَدَ من آمَن بالجنة وتَوَعَّد الكُفَّار بالجحيم فسعِدَ من أطاعَ اللهَ وأذعَن بالتسليم و خسِر من أعرض أو شكك بكلام سيد النبيين. والصلاة والسلام الأتمان على النبي الرؤوف الرحيم. عباد الله اتقوا الله
أما بعد وقد تقدم ما تقدم فإن مسلك الأنبياء التسليم للرحمن والإذعان لأوامر الله فقد أوحى الله تعالى الى نبيه ابراهيم أن يذبح ولده اسماعيل ابتلاء له وإظهارا لطاعته لربه، فقال ابراهيم لولده: “يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ” ورؤيا الانبياء حق” .
فقال اسماعيل : “يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين واشدد رباطي حتى لا أتحرك وأبعد عني ثيابك حتى لا يرش عليك من دمي فتراه أمي فتحزن وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني” . ثم أقبل عليه سيدنا ابراهيم عليه السلام يقبله ويبكي ويقول : “نعم العون أنت يا بني على أمر الله عز وجل” .
ثم أمر السكين على حلقه فانقلبت فناداه الملك بأمر الله: “يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا هذا فداء ابنك” فنظر ابراهيم فإذا جبريل عليه السلام معه كبش كان يرعى في الجنة قال تعالى: {وفديناه بذبح عظيم} .
واعلَموا أنَّ الله َ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ، أمرَكَمْ بالصلاةِ و السلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ { إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } اللّهُمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ و على ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ و على ءالِ سيّدِنا إبراهيم و بارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ و على ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ و على ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقولُ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ}
فيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ إنَّا سَأَلْنَاكَ أَنْ لا تجعلَ لَنَا ذَنْبًا إِلا غَفَرْتَه و لا مَرِيضًا إلا شَفَيْتَه وَ لا مَكْرُوبًا إِلا فَرَّجْتَ عَنْهُ يَا اللهُ وَ لا مُعْسِرًا إِلَّا قَضَيْتَ دَيْنَهُ وَ لا غَائبًا إَلا رَدَدْتَهُ إِلَى أَهْلِه سَالِمًا غَانِمًا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
الّلهُمَّ إِنَّا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا ظُلْمًا كَثِيرًا وَ لَا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنت فاغفِرْ لنا مغفرةً مِنْ عندِك و ارحمْنَا إِنَّك أنتَ الغفورُ الرحيمُ.
ربَّنَا إنَّا نعوذُ بِكَ مِنْ قلبٍ لا يخشعُ و نداءٍ لا يُسمعُ و مِنْ نفسٍ لا تشبَعُ و مِنْ علمٍ لا يَنفعُ.
اللهُمَّ ءاتِ نفوسَنا تقواها و زكِّهَا أنتَ خيرُ منْ زكّاها، أنتَ وليُّها ومولاها.
ربَّنَا إِنَّا نسألُكَ بنَبِيِّكَ محمدٍ نبيِّ الرحمةِ أَنْ تُصْلِحَ لنا دينَنَا الذي هو عِصمةُ أمرِنَا و أَصلِحْ لنا دُنيانا التي فيها معاشُنَا و أَصْلِحْ لنا ءاخرتَنا التي فيها معادُنَا، و اجعلِ الحياةَ زيادةً لنا مِنْ كُلِّ خيرٍ و اجعلِ الموتَ راحةً لنا مِنْ كُلّ شرٍ، إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ، إِنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ.
الهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.
إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
اذكروا الله العظيم يذكُرْكم واشكروه يزدكم واستغفروه يغفر لكم ويهيء لكم من أمرِكم رَشَدًا . وأقِمِ الصلاة.