الإثنين ديسمبر 23, 2024

قصة مكذوبة على هاروت وماروت

وقد روي عن عليّ وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدّيّ والكلبيّ ما معناه (وهو خبر مكذوب مدسوس، وسيأتي تحذير القرطبيّ منه): أنه لـمَّا كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام وذلك في زمن إدريس عليه السلام عيَّرتهم الملائكة، فقال الله تعالى أما إنكم لو كنتم مكانهم، وركّبت فيكم ما ركّبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم، فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا ذلك، قال فاختاروا ملكين من خياركم، فاختاروا هاروت وماروت، فأنزلهما إلى الأرض فركّب فيهما الشهوة، فما مرَّ بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية «بيدخت» وبالفارسية «ناهيل» وبالعربية «الزهرة» اختصمت إليهما، (وهذه قصة مكذوبة) وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرّم الله، فأجاباها وشربا الخمر وألـمَّا بها، فرآهما رجل فقتلاه، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلّماها فتكلَّمت به فعَرِجَتْ فمُسِخت كوكبًا. وقال سالم عن أبيه عن عبد الله (وهو خبر مدسوس): فحدّثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرّم الله عليهما. وفي غير هذا الحديث: فخيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا، فهما يعذَّبان ببابل في سرب من الأرض، قيل: بابل العراق وقيل: بابل نهاوند، وكان ابن عمر في ما يروي عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلًا سبَّهما وشتمهما، ويقول: إن سهيلًا كان عشَّارًا – أي: الذي يقبض عشر الأموال – باليمن يظلم الناس، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت. قلنا – أي: القرطبيّ -: هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره لا يصح منه شيء، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله، قال الله تعالى: {لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ويَفْعَلُونَ مَا يُؤْمرُونَ} [التحريم: 6]، وقال أيضًا: {بَلْ عِبَادٌ مُّكَرَمُونَ} [الأنبياء: 26]. وقال: {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27]. وقال جلَّ جلاله: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]. وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه، ويخلق فيهم الشهوات»، ثم قال: «ولكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصحّ. ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء، ففي الخبر: «أن السماء لـمَّا خلقت خلق فيها سبعة دوّارة زُحَل والـمُشْتَرِي وبَهْرَام([1]) وعُطَارد والزُّهَرَة والشمس والقمر». وهذا معنى قول الله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40]، فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلًا قد كانا قبل خلق آدم»([2]). انتهى كلام القرطبيّ.

ونقل القرطبيّ عن الزجّاج قوله: «وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: أي والذي أنزل على الملكين، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه. قال الزجاج([3]): وهذا القول الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه: أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه. والذي أنزل عليهما هو النهي، كأنه قولا للناس: لا تعملوا كذا»([4]).اهـ. واعتمده أيضًا ابن حجر، ونقله مُقِرًّا ثم قال بعده: «وقد استُدِلَّ بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتُها وهو التعبد للشياطين أو للكواكب، وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر به من تعلّمه أصلًا. قال النوويّ: «عمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد عدّه النبيّ ﷺ من السبع الموبقات» ومنه ما يكون كفرًا ومنه ما لا يكون كفرًا؛ بل معصية كبيرة، فإنْ كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا، وأما تعلّمه وتعليمه فحرام فإن كان فيه ما يقتضي الكفر كفر واستتيب منه ولا يقتل، فإن تاب قبلت توبته وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عُزّرَ»([5]).اهـ.

[1])) بهرام: الـمِـرّيخ: النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير، (1/81).

[2])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (2/52).

[3])) معاني القرآن وإعرابه، الزجاج، (1/183).

[4])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (2/53، 54).

[5])) فتح الباري، ابن حجر، (10/244).