الخميس نوفمبر 21, 2024

قصة عبد الله([1]) ابن أم مكتوم الأعمى

يقول الله تبارك وتعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس: 1 – 11].

أخرج الترمذيّ والحاكم وابن حبان عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «نزلت في ابن أم مكتوم الأعمى»([2]) واسمُه عمرو بن قيس، وقيل: عبد الله بن قيس وهو ابن خال السيدة خديجة رضي الله عنها.

ومعنى {عَبَسَ وَتَوَلَّى}، أي: قطّب ما بين عينيه([3])، قاله الزبيديّ([4]). { وَتَوَلَّى}، أي: أعرض بوجهه الكريم ﷺ، قاله البخاريّ([5]).

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: { أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى }: «روى أهل التفسير أجمع أن قومًا من أشراف قريش كانوا عند النبيّ ﷺ وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله ابن أم مكتوم، فكره رسول الله ﷺ أن يقطع عبدُ الله عليه كلامه، فأعرض عنه، ففيه نزلت هذه الآية»([6]).اهـ. فالنبيّ ﷺ لم يقع بسبب هذا الفعل في معصية، ولم يكسر قلب هذا الصحابيّ ولا آذاه، لكنّ الله عاتبه عتابًا لطيفًا؛ لأنّ المطلوب منه أن يجمع بين المصلحتين مصلحة دعوة هؤلاء للإسلام ومصلحة الاهتمام بعبد الله ابن أم مكتوم. والذين كان رسول الله يناجيهم في أمر الإسلام هم: عتبة([7]) وشيبة([8]) ابنا ربيعة، وأبو جهل عمرو بن هشام([9])، وأُبي([10]) وأمية([11]) ابنا خلف على خلافٍ في بعضهم. وجاء لفظ الأعمى إشعارًا بعذره في الإقدام على قطع كلام رسول الله ﷺ للقوم، وللدلالة على ما يناسب من الرفق به والصَّغْوِ لـِمَا يقصده رضي الله عنه. قال القرطبي: «قال الثوريّ: فكان النبيّ بعد ذلك إذا

رأى ابنَ أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول: «مرحبًا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول له: «هل من حاجة؟» واستخلفه مرتين على صلاة الناس في المدينة المنورة في غزوتين من غزواته ﷺ»([12]).اهـ.

ثم قال: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَى}: «أي: وما يعلمك لَعلَّهُ يعني ابن أم مكتوم يَزَّكَّى بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه. وقيل: الضمير في {لَعَلَّهُ} للكافر، يعني: إنك إذا طمعت في أن يتزكى بالإسلام أو يذكر، فتقربه الذكرى إلى قبول الحق {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنَفَعَهُ الذِّكْرَى} وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن»([13]).اهـ.

ومعنى قوله تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى}، أي: استغنى عن الإيمان والقرآن بماله كما ذكر ذلك الرازي. وأما تفسير {مَنِ اسْتَغْنَى} بمن كان ذا ثروة وغنى، فقد ردّه الرازي في تفسيره فقال: «وهو فاسد ههنا لأن إقبال النبيّ ﷺ لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى فأنت تقبل عليه».اهـ. ثم قال: «المعنى من استغنى عن الإيمان والقرآن بما له من المال»، وروي عن عطاء قريبٌ منه، والمراد الذين كان رسول الله ﷺ يناجيهم في شأن الإسلام ثم قُتِلُوا والعياذ بالله على الكفر، قُتِل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل عمرو بن هشام وأمية بن خلف يوم بدر، أما أبيُّ بن خلف فقد رماه رسول الله ﷺ بحَرْبة والحربة دون الرمح، يوم أُحُد فقتله»([14]).اهـ.

وقوله: {فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} قال القرطبيّ: «أي: وما عليك أن لا يهتدي هذا الكافر ولا يؤمن، إنما أنت رسول، ما عليك إلا البلاغ»([15]).اهـ. وقوله: {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى} قال القرطبي: «يطلب العلم لله {وَهُوَ يَخْشَى}، أي: يخاف الله {فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى}، أي: تعرض عنه بوجهك وتشغل بغيره»([16]).اهـ.

والذي جرى من النبيّ ﷺ كان ترك الأولى([17]). ولم يقع بذلك في معصية ولم يكسر قلب الأعمى كما بيّنّا ذلك آنفًا.

والحاصل أن نبينا محمدًا ﷺ أعظم الناس خُلُقًا، ولن يستطيع أحد أن يجد في سيرة رسول الله ﷺ ما يكذّب ذلك، فرسول الله ﷺ هو المعلّم الكامل، والمربي الفاضل، وهو سيد المتواضعين وسيد الأولين والآخرين.

[1])) ابن أم مكتوم، عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم (ت23هـ)، صحابيّ شجاع. كان ضرير البصر. أسلم بمكة وهاجر إلى المدينة بعد وقعة بدر. وكان يؤذن لرسول الله ﷺ في المدينة مع بلال. وكان النبيّ ﷺ يستخلفه على المدينة، يصلي بالناس في عامة غزواته. وحضر حرب القادسية ومعه راية سوداء وعليه درع سابغة، فقاتل وهو أعمى ورجع بعدها إلى المدينة فتوفي فيها، قبيل وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. الأعلام، الزركلي، (5/83).

[2])) صحيح ابن حبان، (2/294)، رقم الحديث 535. سنن الترمذي، الترمذي، (5/4329، رقم الحديث 3331. المستدرك، الحاكم، (3/735)، رقم الحديث 6671.

[3])) تاج العروس، الزبيديّ، (16/221).

[4])) الزبيديّ هو: محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسينيّ (ت1205هـ)، أبو الفيض الملقب بمرتضى، علَّامة باللغة والحديث والرجال والأنساب، من كبار المصنفين. أصله من واسط في العراق ومولده بالهند ومنشؤه في زبيد باليمن. رحل إلى الحجاز وأقام بمصر، فاشتهر علمه وكاتبه ملوك الحجاز والهند واليمن والشام والعراق والمغرب الأقصى والترك والسودان والجزائر. وزاد اعتقاد الناس فيه، وتوفي بالطاعون في مصر. من كتبه: (تاج العروس في شرح القاموس)، و(إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين)، و(أسانيد الكتب الستة)، و(عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة)، و(كشف اللثام عن آداب الإيمان والإسلام)، و(عقد الجمان في بيان شعب الإيمان). الأعلام، الزركلي، (7/70).

[5])) صحيح البخاري، البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة عبس، (6/206).

[6])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (19/211).

[7])) عتبة بن ربيعة بن عبد شمس (ت2هـ)، أبو الوليد، كبير قريش وأحد ساداتها في الجاهلية. وأول ما عرف عنه توسطه للصلح في حرب الفِجار بين هَوَازِنْ وكِناَنَةَ وقد رضي الفريقان بحكمه، وانقضت الحرب على يده. أدرك الإسلام، وطغى فشهد بدرًا مع المشركين. وكان ضخم الجثة، عظيم الهامة، طلب خوذة يلبسها يوم «بدر» فلم يجد ما يسع هامته، فاعتجر على رأسه بثوب له، وقاتل قتالًا شديدًا، فأحاط به عليّ بن أبي طالب وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم فقتلوه. الأعلام، الزركلي، (4/200).

[8])) شيبة بن ربيعة بن عبد شمس (ت2هـ)، من زعماء قريش في الجاهلية. أدرك الإسلام، وقُتلِ على الوثنية. وهو أحد الذين نزلت فيهم الآية: {كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ} [الحجر: 90] وهم سبعة عشر رجلًا من قريش، اقتسموا عقبات مكة في بدء ظهور الإسلام، وجعلوا دأبهم في أيام موسم الحج أن يصدّوا الناس عن النبيّ ﷺ ولـمَّا كانت وقعة بدر، حضرها شيبة مع مشركيهم، ونحر تسع ذبائح لإطعام رجالهم، وقُتلِ فيها. الأعلام، الزركلي، (3/181).

[9])) أبو جهل، عمرو بن هشام بن المغيرة المخزوميّ القرشّ (ت2هـ)، أشدّ الناس عداوة للنبي ﷺ في صدر الإسلام، وأحد وجهاء قريش ودهاتها في الجاهلية. أدرك الإسلام، وكان يقال له أبو الحكم فسمّاه المسلمون أبا جهل. واستمر على عناده يثير الناس على محمد رسول الله ﷺ وأصحابه، لا يفتر عن الكيد لهم والعمل على إيذائهم، حتى كانت وقعة بدر الكبرى فشهدها مع المشركين فكان من قتلاها. الأعلام، الزركلي، (5/87).

[10])) أُبيُّ بن خلف بن وهب بن حذافة (ت3هـ)، أحد المشركين المجاهرين بالعداء لرسول الله ﷺ، قتل أخوه أمية يوم بدرٍ وأسر هو. وبعد أسره قال: «إنَّ عندي لفرسًا أعلفها كل يوم أقتل عليها محمَّدًا».اهـ. فبلغت النبيَّ فقال: «بل أنا أقتله إن شاء الله».اهـ. فقتله ﷺ يوم أُحُدٍ». المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ابن الجوزي، (3/167).

[11])) أمية بن خلف بن وهب (ت2هـ)، من بني لؤيّ أحد جبابرة قريش في الجاهلية، ومن وجهائهم. أدرك الإسلام ولم يسلم. وهو الذي عذّب بلالًا الحبشيَّ في بدء البعثة المحمدية. أسره عبد الرحمن بن عوف يوم بدر، فرآه بلال فصاح بالناس يحرّضهم على قتله فقتلوه. الأعلام، الزركلي، (2/22).

[12])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (19/213).

[13])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (19/213)

[14])) مفاتيح الغيب، الرازي، (31/54).

[15])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (19/215).

[16])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (19/214).

[17])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (19/215).