الخميس نوفمبر 21, 2024

قصة أصحاب السبت

   قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة].

   عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الأَحْمَرِ كَانَتْ قَرْيَةُ أَيْلَةَ الَّتِى ذُكِرَتْ قِصَّتُهَا فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ حَيْثُ كَانَ أَصْحَابُ السَّبْتِ الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ.

   كَانَ الْيَهُودُ قَبْلَ بِعْثَةِ النَّبِىِّ يَكْتُمُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّوْبِيخِ وَالذُّلِّ لَهُمْ عَلَى مَا جَرَى مَعَ بَعْضِ أَسْلافِهِمْ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنَ الإِهْلاكِ وَالْمَسْخِ لَكِنَّ اللَّهَ فَضَحَهُمْ فِى الْقُرْءَانِ الْكَرِيمِ عِنْدَمَا أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْقِصَّةَ لِيُحَذِّرَ الْيَهُودَ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ وَتَكَبُّرِهِمْ وَرَفْضِهِمُ الإِيـمَانَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مُذَكِّرًا إِيَّاهُمْ مَا حَلَّ بِإِخْوَانِهِمْ فِى قَرْيَةِ أَيْلَةَ فَمَا هِىَ تِلْكَ الْقِصَّة.

   كَانَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَيَّامَ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وَقَبْلَهَا يَمْتَنِعُونَ عَنِ الْعَمَلِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالصَّيْدِ يَوْمَ السَّبْتِ إِذْ كَانَ هَذَا الأَمْرُ حَرَامًا فِى شَرِيعَتِهِمْ ابْتِلاءً لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَلِيُظْهِرَ لِلنَّاسِ مَنْ يَلْتَزِمُ بِأَوَامِرِهِ وَمَنْ يَعْصِيهِ. وَكَانَتِ الْحِيتَانُ وَالأَسْمَاكُ تَأْتِى يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى إِنَّهَا تَكَادُ أَنْ تُصَادَ بِالْيَدِ مِنْ قُرْبِهَا لِأَنَّهَا أُلْهِمَتْ أَنَّهَا لا تُصَادُ فِى هَذَا الْيَوْمِ لِنَهْيِهِ تَعَالَى بَنِى إِسْرَائِيلَ عَنْ صَيِّدِهَا فَكَانَتْ تَأْتِى بِكَمِيَّاتٍ كَبِيرَةٍ إِلَى شَاطِئِ قَرْيَةِ أَيْلَةَ وَتَتَزَاحَمُ هُنَاكَ فَلا يُخَوِّفُونَهَا وَلا يُفْزِعُونَهَا وَإِذَا كَانَ غَيْرُ يَوْمِ السَّبْتِ لَزِمَتِ الْحِيتَانُ وَالأَسْمَاكُ قَاعَ الْبَحْرِ فَلَمْ يُرَ مِنْهُنَّ شَىْءٌ حَتَّى يَأْتِىَ السَّبْتُ التَّالِى.

   وَلَكِنَّ النَّفْسَ الْخَبِيثَةَ سُرْعَانَ مَا يَقُودُهَا الشَّيْطَانُ إِلَى الْعِصْيَانِ وَالْفَسَادِ فَإِنَّ أَحَدَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ اشْتَهَى أَكْلَ السَّمَكِ فَأَغْوَاهُ الشَّيْطَانُ وَزَيَّنَ لَهُ الْقِيَامَ بِحِيلَةٍ لِاصْطِيَادِ مَا يَشْتَهِى مِنْهَا فَأَتَى إِلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ يَوْمَ السَّبْتِ وَرَأَى سَمَكَةً كَبِيرَةً تَسْبَحُ قَرِيبَةً مِنْهُ فَرَبَطَ ذَيْلَهَا بِحَبْلٍ وَوَضَعَ الطَّرَفَ الآخَرَ فِى وَتِدٍ عَلَى الشَّاطِئِ وَذَهبَ فَلَمَّا انْقَضَى النَّهَارُ عَادَ هَذَا الرَّجُلُ وَأَخَذَ السَّمَكَةَ إِلَى مَنْزِلِهِ وَنَظَّفَهَا وَشَوَاهَا فَانْبَعَثَتْ رَائِحَتُهَا حَوْلَ دَارِهِ فَأَتَاهُ جِيرَانُهُ يَسْأَلُونَهُ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْكَرَ مَا فَعَلَ وَلَمَّا أَصَرُّوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ «إِنَّهُ جِلْدُ سَمَكَةٍ وَجَدْتُهُ وَشَوَيْتُهُ» فَلَمَّا كَانَ السَّبْتُ الآخَرُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمَّا شَمَّ النَّاسُ رَائِحَةَ الشِّوَاءِ سَأَلُوهُ فَقَالَ لَهُمْ «إِنْ شِئْتُمْ صَنَعْتُمْ كَمَا أَصْنَعُ» فَقَالُوا لَهُ «وَمَا صَنَعْتَ» فَأَخْبَرَهُمْ فَفَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ.

   وَنَوَّعُوا فِى اسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ فَقَامَ بَعْضُهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِحَفْرِ حُفَرٍ مُتَّصِلَةٍ بِالْبَحْرِ بِوَاسِطَةِ مَمَرَّاتٍ يَسْهُلُ سَدُّهَا فَإِذَا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ وَكَثُرَ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى فَعَلَهُ الْكَثِيرُونَ وَوَصَلَ بِهِمُ الأَمْرُ أَنِ اصْطَادُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ عَلانِيَةً وَبَاعُوهَا فِى الأَسْوَاقِ فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الِاعْتِدَاءِ.

   وَلَمَّا جَاهَرَ الْفُسَّاقُ بِطَرِيقَتِهِمْ قَامَ عُلَمَاءُ بَنِى إِسْرَائِيلَ الْمُسْلِمُونَ وَنَهَوْهُمْ عَنْ هَذَا وَخَوَّفُوهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا فَجَعَلُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْفُسَّاقِ جِدَارًا فِى الْقَرْيَةِ وَلَمْ يَعُودُوا يُسَاكِنُوهُمْ.

   وَفِى اللَّيْلِ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَانْتَقَمَ مِنَ الَّذِينَ فَسَقُوا وَمَسَخَ شُبَّانَهُمْ قِرَدَةً وَعَجَائِزَهُمْ خَنَازِيرَ كَمَا قِيلَ فَقَامَ الَّذِينَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ صَبَاحًا وَذَهَبُوا إِلَى أَعْمَالِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ فَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا مِنَ الْفَاسِقِينَ فَاسْتَغْرَبُوا وَتَسَاءَلُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَامَ أَحَدُهُمْ وَوَضَعَ سُلَّمًا عَلَى الْجِدَارِ وَصَعِدَ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْقَوْمِ رَأَى عَجَبًا إِذْ أَصْبَحَ الْفُسَّاقُ قِرَدَةً لَهَا أَذْنَابٌ يَتَعَاوَوْنَ وَيَقْفِزُونَ عَلَى بَعْضِهِمْ وَخَنَازِيرَ تُصْدِرُ أَصْوَاتًا قَبِيحَةً فَفَتَحُوا عَلَيْهِمُ الأَبْوَابَ وَدَخَلُوا وَصَارَ كُلُّ قِرْدٍ يَأْتِى قَرِيبَهُ مِنَ الإِنْسِ فَيَشُمُّ ثِيَابَهُ وَيَبْكِى فَيَقُولُ الإِنْسِىُّ «أَلَمْ نَنْهَكُمْ» فَيُشِيرُ الْقِرْدُ بِرَأْسِهِ «نَعَمْ».

   وَكَانُوا قَبْلَ الْمَسْخِ قَدِ افْتَرَقُوا كَمَا قِيلَ إِلَى ثَلاثِ فِرَقٍ فِرْقَةٌ عَصَتْ وَصَادَتْ وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا وَهُمُ الَّذِينَ مُسِخُوا وَفِرْقَةٌ نَهَتْ وَتَنَحَّتْ وَكَانُوا اثْنَىْ عَشَرَ أَلْفًا وَفِرْقَةٌ تَنَحَّتْ وَلَمْ تَنْهَ وَلَمْ تَعْصِ وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ الأَخِيرَةُ قَالَتْ لِلْفِرْقَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِى نَهَتْ عَنِ الْحَرَامِ «لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا عُصَاةً سَيُهْلِكُهُمُ اللَّهُ وَسَيُعَذِّبُهُمْ» عَلَى مَا كَانُوا يَتَوَقَّعُونَهُ بَعْدَ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا عُرِفَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِالأُمَمِ الْعَاصِيَةِ السَّابِقَةِ فَقَالَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ «مَوْعِظَتُنَا مِنْ بَابِ التَّذْكِيرِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَيَتَرَاجَعُونَ». وَلَمْ تَهْلِكْ إِلَّا الْفِرْقَةُ الأُولَى الْعَاصِيَةُ وَأَنْجَى اللَّهُ الَّذِينَ نَهَوْا وَالَّذِينَ لَمْ يَعْصُوا.

   وَلَمْ يَبْقَ الَّذِينَ مُسِخُوا أَحْيَاءً أَكْثَرَ مِنْ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَلَمْ يَأْكُلُوا خِلالَهَا وَلَمْ يَشْرَبُوا وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ نَسْلٌ. وَكَانُوا عِبْرَةً بَالِغَةً لِمَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ مِنَ الأُمَمِ وَلِمَنْ رَءَاهُمْ وَعَرَفَ قِصَّتَهُمْ.