الأحد ديسمبر 22, 2024

قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ *} [سورة آل عمران]

المكرُ من الخَلْقِ خُبْثٌ وخِداعٌ لإيصال الضّرر إلى الغير باستعمال حيلةٍ، وأمَّا مِن الله تعالى فهو مُجازاةُ الماكرين بالعُقوبة من حيث لا يدرون. وبعبارة أخرى إنَّ الله أقوى في إيصال الضَّرر إلى الماكرين من كل ماكر، جزاءً لهم على مَكرِهم، أما المكرُ بمعنى الاحتيال فهو مستحيل على الله.

قال ابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير»[(102)]: «قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، قال الزجاج: المكر من الخلق: خبث وخداع، ومن الله عز وجل: المجازاة، فسُمِّيَ باسم ذلك، لأنه مجازاة عليه، كقوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} » اهـ. أي أن الله يجازيهم على استهزائهم بالمؤمنين فينتقم منهم.

في هذه الآية أسندَ اللهُ إلى نفسه المكرَ، ومكرُ اللهِ ليس كمكرِ العباد، مكرُ الإنسان أن يُحاولَ إيصالَ الضَّررِ إلى إنسانٍ بطريقةٍ خفيَّة يحتاجُ فيها إلى استعمال بعض الحيلِ، أما مكرُ الله فليس هكذا، مكرُ الله هو إيصالُ الضَّرر إلى من يشاءُ من عباده من حيثُ لا يعلم ذلك العبد ولا يظنُّ ولا يحتسبُ أن الضَّررَ يأتيهِ من هنا.

فمكر العبدِ مذمومٌ أما مكرُ الله لا يُذَمُّ لأنَّ الله لا يجوز عليه الظلمُ، لا يكونُ ظالما إن انتقمَ من عبادِهِ الظالمين بما شاء.

يكفر من يسمي الله «ماكرا» لأنه لا يدل على المدح والكمال، فلا يُؤخذ الماكر اسما لله من هذه الآية كما ظنّ بعض الكفار ولا تعطي هذا المعنى بالمرة.

قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ… *} [سورة آل عمران] .

قال الفخر الرازي في «التفسير الكبير»[(103)]: «قوله تعالى: {…إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} : ونظيره قوله تعالى حكاية عنه {…فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ}» ثم قال: «{…إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} أي متمم عمرك فحينئذ أتوفاك فلا أتركهم حتى يقتلوك بل أنا رافعك إلى سمائي، ومقربك بملائكتي، وأصونك عن أن يتمكنوا من قتلك وهذا تأويل حسن».

ثم نقل الرازي عن بعض المفسرين[(104)] قالوا: «إن قوله تعالى: {…وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يقتضي أنه رفعه حيًا، والواو لا تقتضي الترتيب، فلم يبق إلا أن يقول فيها تقديم وتأخير والمعنى إني رافعك إليَّ ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالي إياك في الدنيا ومثله من التقديم والتأخير كثير في القرءان. والمراد بقوله تعالى: {…وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} أي إلى محل كرامتي وجعل ذلك رفعًا إليه للتفخيم والتعظيم، ومثله قوله {…إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي… *} [سورة الصافات] ، أي إلى طاعة ربي، أي إلى حيث وَجَّهني ربي، إلى مكانٍ أمرني الله أن أذهب إليه، وإنما ذهب إبراهيم عليه الصلاة والسلام من العراق إلى بَرّ الشام لأنه عرفَ، بتعريف الله إياه، أن الشام مهبط الرحمات وأن أكثر الوحي يكونُ بالشام وأن أكثر الأنبياء كانوا بها، وقد يقول السلطان ارفعوا هذا الأمر إلى القاضي، فكذا ههنا» اهـ.

ومثل ذلك قال القرطبي في تفسيره[(105)] «الجامع لأحكام القرءان» سنة 1373هـ في شرحه لهذه الآية.

ومن أمثلة التقديم والتأخير في القرءان الكريم قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى *} [سورة الأعلى] ، ومعروف أن النبات يكون أولاً طريًا أخضر اللون ثم يجف وييبس، وأما الآية ففيها {…غُثَاءً} أي يابسًا، ثم جاء فيها {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى *} أي أخضر، والمعنى أنه بعد الخضرة يجف وييبس لكن التقديم والتأخير من أساليب البلاغة.

وليس صحيحًا أن عيسى عليه الصلاة والسلام عندما رُفع إلى السماء كان ميتا ثم أحياه الله في السماء، هذا كذب يجب الحذر منه، وقال القرطبي في تفسيره عن هذا القول: «وهذا فيه بعد».اهـ

وليس صحيحا أنه رفع نائما، بل الصحيح والمعتمد أنه رفع إلى السماء حيًا يقظان، وهذه معجزة عظيمة له عليه الصلاة والسلام.

ومن سخافة عقول الوهابية أنهم احتجوا بهذه الآية على أن الله تعالى في السماء ورفع عيسى «حقيقة» إليه، وهذا من أسخف السخافات، لأن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض والجهات كلها، يعني كان موجودا قبلها، فعلى زعم ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية وابن باز ومحمد خليل هراس ومحمد العريفي الوهابية، أن الله تعالى بذاته حقيقة في السماء ورفع المسيح حقيقة إليه، فعلى زعمهم أين كان الله قبل أن كان قبل أن يخلق السماء؟! وإن كان كما زعموا فقد جعلوا الله تعالى مع المسيح في السماء الثانية حقيقة، وعلى قولهم هذا فقد جعلوا الله تحت أقدام الملائكة الذين في السماء الثالثة، وجعلوا الله تعالى جسما تحاصره السماوات، وجعلوا الله محتاجا إلى خلقه، وجعلوا الله متغيرا متطورا متبدلا عاجزا ضعيفا يتغير من حال إلى حال، والتغير أكبر علامات الحدوث، وتنزه الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

وإليكم نصوص عباراتهم التي تدل على جهلهم العريض.

يقول شيخ المجسمة والمشبهة أحمد بن تيمية الحراني في كتابه المسمى «بيان تلبيس الجهمية»[(106)]: «قال تعالى: {…يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل رفع عيسى إليه إلى السماء» اهـ.

ويقول تلميذه الذي جمع كتبه وعقيدته المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه وإجماع الأمة ابن قيم الجوزية في كتابه المسمى «نونية ابن قيم» مع شرح الوهابي العنيد محمد خليل هراس عليها ما نصه[(107)]: «وإليه رفع المسيح حقيقة ولسوف ينزل كي يرى بعيان» اهـ. هذا الوهابي المجسم محمد خليل هراس يقول شارحا لهذا البيت مفتريا على الله ودينه وأهل السنة والجماعة: «هذا من جملة كلام أهل السنة والجماعة في إثبات الفوقية لله عز وجل على الحقيقة حيث أخبر سبحانه أنه رفع عيسى عليه السلام إليه بجسده وروحه حيًا كما قال تعالى: {…يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}» اهـ

وقال مثل ذلك ابن باز مفتي الوهابية مستشهدا بهذه الآية بزعمه في إثبات الجهة لله تعالى، ذكر ذلك في موقعه الرسمي على الإنترنت.

ومثل ذلك قال الوهابي محمد العريفي المجسم ناقلا عن ابن باز كذلك في موقعه الرسمي على الإنترنت.

وهكذا قال تابعهم عبد الهادي حسن وهبي في كتابه المسمى «غاية البيان في إثبات علو الرحمن» طبعة ما يسمى جمعية السراج المنير الطبعة الأولى.

ومن عجيب تناقضاتهم أنه وافقهم في هذه العقيدة ثم كفّرهم عليها فهو قال في هذا الكتاب ما نصه[(108)]: «وليس المراد بأن السماء تحصر الرب وتحويه كما تحوي الشمس والقمر وغيرهما فإن هذا لا يقوله مسلم ولا يعتقده عاقل» اهـ.

فكيف يتفق هذا مع قول ابن قيم «إن الله رفع المسيح إليه حقيقة»؟

فهم متناقضون يكفر بعضهم بعضا.

وقول ابن قيم ومن وافقه إن الله حقيقة في السماء الثانية، يؤدي إلى أن الله محصور بلا شك، وقد كفرهم الإمام جعفر الصادق على ذلك. قال رضي الله عنه: «من زعم أن الله تعالى في شىء أو من شىء أو على شىء فقد أشرك، إذ لو كان في شىء لكان محصورا، ولو كان من شىء لكان محدثا، ولو كان على شىء لكان محمولاً». رواه القشيري في الرسالة القشيرية[(109)]. قال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} . فهل الله بزعمكم يكون طاويًا ومطويًا في آن واحد.

فلا مفر ولا مهرب للوهابية وأئمتها من الكفر والضلال إلا بأن يتركوا ما هم عليه ويرجعوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة من التنزيه والتوحيد.

ـ[102]       زاد المسير (الطبعة الرابعة 1407هـ، الجزء الأول ص395).

ـ[103]       التفسير الكبير (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1411هـ المجلد الرابع الجزء8 ص60).

ـ[104]       (ص/61).

ـ[105]       الجامع لأحكام القرءان (طبعة دار الكتب المصرية سنة 1373هـ).

ـ[106]       بيان تلبيس الجهمية (في الجزء الرابع من طبعة المملكة العربية السعودية وزارة ما يسمى الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف سنة 1426هـ).

ـ[107]       نونية ابن قيم (طبعة مطبعة الإمام مصر ص70).

ـ[108]       غاية البيان في إثبات علو الرحمـن (ص/27).

ـ[109]       الرسالة القشيرية (طبعة دار الجيل بيروت سنة 1410هـ الطبعة الثانية ص46).