قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأِبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ *) [سورة التوبة]
ومعنى استغفار إبراهيم لأبيه الذي كان كافرًا وهو على كفره، أن يطلب من الله المغفرة لأبيه بالدخول في الإسلام لأن الإسلام كفارة الكفر، قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ… *} [سورة الأنفال] وانتهاؤهم يكون بالدخول في الإسلام، والدخول في الإسلام يكون بالشهادتين، وعلى ذلك يُحمَل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق أبي طالب حين عرض عليه الإسلام فأبى: «لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك» أي أطلب لك من الله الهداية للإسلام فيُغفَر لك بالإسلام ، أي ما لم يوحِ الله إليَّ أنك تموت كافرًا.
قال الفخر الرازي في «التفسير الكبير» ما نصه[(725)]: «{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ… *} [سورة النساء] ، والمعنى أنه تعالى أخبر عنهم أنه يدخلهم النار، فطلبُ الغفران لهم جار مجرى طلب أن يخلف الله وعده ووعيده وذلك لا يجوز». ثم قال[(726)]: «المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإيمان والإسلام، وكان يقول له: آمِن حتى تتخلص من العقاب وتفوز بالغفران، وكان يتضرّع إلى الله – يدعو لوالده – في أن يرزقه الإيمان الذي يوجب (أي يثبت له) المغفرة، فهذا هو الاستغفار، فلما أخبره الله تعالى بأنه يموت مصرًّا على الكفر، ترك تلك الدعوة» اهـ.
قال الحافظ المحدث الشيخ عبد الله الهرري رحمه الله تعالى، في كتابه «الشرح القويم في حل ألفاظ الصراط المستقيم»: «وإذا قال: أستغفر الله قبل أن يجدد إيمانه بقوله أشهد ألاّ إلـه إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله وهو على حالته هذه فلا يزيده قوله أستغفر الله إلا إثما وكفرًا، لأنه يكذّب قول الله تعالى: {…لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}» .
ثم قال: «هذا بالنسبة لمن كان مسلمًا ثم كفر، أما من لم يكن مسلمًا ثم دخل في الإسلام فإنّ الله يغفر كل ذنوبه التي عمِلها قبل ذلك، كل ما كان عمله من الذنوب قبل الإسلام عندما ينطق بالشهادتين تُمحى عنه كلها لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام قال: [الإسلام يمحو ما قبله] (هذا بالنسبة للكافر الأصلي أما المرتد فاذا تشهد ورجع الى الاسلام يمحى عنه كفره فقط وأما بقية الذنوب فيتوب منها بعد إسلامه ولا تمحى عنه بمجرد الاسلام) وهذا حديث صحيح رواه البخاري، الدخول بالإسلام يكون بأن يعتقد بقلبه معنى الشهادتين وينطق بلسانه، فإذا حصل من شخص أنه كان مسلمًا وحصل منه كفر حتى يرجع الى الإسلام لا بد له من النطق بالشهادتين، ولا يكفي أن يقول مثلاً: أستغفر الله، إذا قال أستغفر الله قبل أن يرجع الى الإسلام بقوله أشهد ألاّ إلـه إلا الله وأشهد أنّ محمدًا رسول الله وهو بعد على حالته هذه لا يزيده قوله أستغفر الله إلا إثمًا، لأنه يكذّب قول الله عز وجل: {…لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ}» .
ثم قال: «تنبيه: إذا انسان قال لكم أريد أن أدخل الإسلام ماذا أفعل؟ لا يجوز أن يقال له: انتظر حتى أنهي ما بيدي ثم أدلّك، ولا يجوز أن يقال له: قل أستغفر الله، ولا يجوز أن يقال له: اذهب واغتسل ثم ارجع وأعلمك بل يكون صار كافرًا، لأنه رضي له أن يبقى على الكفر هذه المدّة، لأنه جاءه يطلب منه الدخول في الإسلام فلا يجوز أن يُؤخّره عن ذلك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّةً يخطب في الناس، فقام واحدٌ فسأله عن الإسلام فالنبي فورًا قطع كلامه وأجابه ولذلك قال ابن فَرحوُن في تبصرة الحكّام: قال شِهاب الدين القرافي إنّ الذي يخطب الجُمُعة إذا رأى كافرًا يريد أن ينطق بالشهادتين فقال له اصبر حتى أفرغ من خطبتي فإنه يُحكم بكفر الخطيب، لأنه لم يقل له فورًا انطق بالشهادتين بل أخّره، معناه رضي له أن يبقى هذه المدّة على الكفر، ومن رضي الكفر لإنسانٍ صار هو كافرًا ومن أمر إنسانًا بالكفر هو صار كافرًا. وقد ذكر ما يُشبه ذلك غير القرافي من العلماء مثل ابن حجر الهيتمي والحافظ النووي وغيرهم».
ثم قال: «تنبيه مهم: في تحريم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بمغفرة جميع الذنوب: قال الشوبري في تجريده حاشية الرملي الكبير ما نصه: وجزم ابن عبد السلام في الأمالي والغزالي بتحريم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بمغفرة جميع الذنوب وبعدم دخولهم النار، لأنَّا نقطع بخبر الله تعالى وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم من يدخل النار. وأما الدعاء بالمغفرة في قوله تعالى حكاية عن نوح {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ… *} [سورة نوح] ، ونحو ذلك فإنه وردَ بصيغة الفعل في سياق الإثبات، وذلك لا يقتضي العموم لأن الأفعال نكراتٌ، ولجواز قصد معهود خاص وهو أهل زمانه مثلا اهـ. وكذا الرملي في شرح المنهاج، فليس معنى الآية اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم.
وهذا الدعاءُ أي بعدم دخول أحدٍ من أهل الإسلام النارَ فيه ردٌّ للنصوص، وردُّ النصوص كُفرٌ كما قال النسفي في عقيدته المشهورة، وقد قال أبو جعفر الطحاوي: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام. وهذه عقيدة المرجئة، وهم من الكافرين من أهل الأهواء وذلك لقولهم (لا يضر مع الإسلام ذنب كما لا تنفع مع الكفر حسنة)» اهـ.
وقد قال أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي الهيتمي في كتابه «الإعلام بقواطع الإسلام» ما نصه[(727)]: «واعلم أن الدعاء ينقسم الى كفر وحرام وغيرهما، فما هو كفر أن يسأل نفي ما دل السمع القاطع على ثبوته كاللهم لا تعذب من كفر بك أو اغفر له أو لا تخلد فلانا الكافر في النار لأن ذلك طلب لتكذيب الله تعالى في ما أخبر به وهو كفر».
رسالة نافعة جدا في تحريم قول اللهم أجرنا وأجر والدينا وجميع المسلمين من النار
فقد درج بين بعض العوام في بعض البلدان ممن ينتسبون للتصوف والطرق ولا سيما بين بعض من ينتسب للقادرية وبين بعض رواد المساجد أن يقولوا والعياذ بالله تعالى عقب صلاة الفجر وصلاة المغرب اللهم أجرنا وأجر والدينا وجميع المسلمين من النار وهذا الكلام ليس نصا قرآنيا ولا ثبت عن رسول الله أو عن أحد من صحابته الكرام ولا كلام إمام من أئمة المسلمين أو العلماء المعتبرين أو الصوفية الصادقين بل هذا الكلام من نسج بعض من لا فهم له في الدين إذ هو معارض للقرآن والحديث والاجماع. فوجب علينا القيام بالتحذير من هذه العبارة الفاسدة عملا بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ… *} [سورة آل عمران] وعملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» رواه مسلم، ولزيادة الفائدة نبين أن معتقد أهل الإسلام أهل السنة والجماعة أن الإيمان والإسلام متلازمان لا يفترقان وهما كالظهر مع البطن فلا يكون إيمان بدون إسلام ولا إسلام بدون إيمان فأصل الإيمان موجود عند كل أهل الإيمان وإنما يتفاوتون في كماله فمنهم الكامل في الإيمان وفيهم من ليس كاملا في الإيمان فيقال عن الأول المؤمن التقي أو المسلم التقي ويقال عن الثاني المسلم العاصي أو المؤمن العاصي، ولا يسلب اسم الإيمان عن المسلم إلا بوقوعه في الردة والكفر والعياذ بالله تعالى وأما ما دون الكفر من الكبائر والصغائر فلا يكون مجرد فعلها مخرجا من الإسلام وموقعا في الكفر.
ومن دين الله تعالى الاعتقاد بيوم القيامة حيث يحشر الناس وتزوج النفوس فالكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن فمن الناس من ينجو ذلك اليوم وهم الأتقياء ومن الناس من يخلد في النار وهم الكفار، ومن الناس من يكون تحت خطر المشيئة فيعذب الله من شاء منهم بدخولهم النار ويعفو عمن يشاء وهم العصاة من المسلمين من أهل الكبائر الذين ماتوا بدون توبة وعلى هذا تدل النصوص القرآنية والحديثية وأقوال أئمة الاسلام وإجماع أهل الدين، كما ورد في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ… *} [سورة النساء] . دلت الآية على أن الله يغفر ما سوى الكفر لمن يشاء من المسلمين العصاة ويفهم من ذلك أن الله لا يغفر للبعض من المسلمين العصاة قال الله تعالى: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ… *} [سورة العنكبوت] . فاذا لا بد من الجزم أن الله تعالى يدخل بعض المسلمين العصاة من أهل الكبائر النار بذنوبهم ولا يكون ظالما لهم بل استحقوا العقوبة لظلمهم أنفسهم. ويكفي في إثبات هذا الموضوع إيراد الآيات التي فيها وعيد شديد وإخبار عن وقوع العذاب لبعض أهل الكبائر الذين ماتوا بلا توبة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} [سورة النساء] . فلا يجوز أن يقال اللهم أجرنا وأجر والدينا وجميع المسلمين من النار لأن هذا معارض لهذه الآية ولغيرها ومصادم للأحاديث الصحيحة. لا يجوز هذا الكلام لأن معناه يا رب لا تدخل أحدا النار بالمرة. كيف يكون هذا!!! وكيف جاز عندهم أن يعتقدوا هذا المعتقد ورسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيدخل بعض المذنبين النار، الرسول أوحي إليه أنه سيدخل قسم من المسلمين بذنوبهم النار فالرسول لا يكذب.
بعض أهل التوحيد يدخلون النار بذنوبهم فيراهم الكفار قد دخلوا النار فيقولون لهم ما نفعكم إيمانكم أنتم أيضا تتعذبون معنا فينادي مناد أخرجوا من النار من قال لا إلـه إلا الله يعني بعد أن دخلوا النار يخرجهم الله تعالى منها وكذلك ورد في الحديث شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. شفاعة الرسول قسمان: قسم من العصاة يشفع الرسول لهم فلا يدخلون النار بشفاعته وقسم ثان من العصاة يخرجهم الله تعالى من النار بشفاعة محمّد وقد ورد حديث: يخرج قوم من النار من أمة محمد بشفاعة محمد. فإذا لا بد أن يدخل بعض المسلمين العصاة النار بذنوبهم حتما فالذي يقول يا رب لا تدخل أحدا من المسلمين النار هذا فساد كبير هذا معناه كأنه يقول يا رب غير مشيئتك الأزلية أنت شئت في الأزل أن تدخل بعض المسلمين النار لكن غير مشيئتك الأزلية ولا تدخل أحدا من المسلمين النار، هذا ضلال مبين، هذا مخالف لعقيدة المسلمين. قائل هذا الكلام أفسد عقيدته وكفر إلا إذا كان لا يفهم منه هذا المعنى. أما حين نقول اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات معناه اللهم اغفر لبعض المؤمنين كل ذنوبهم ولبعض المؤمنين بعض ذنوبهم، هذا معناه. ليس معناه يا رب لا تدخل أحدا النار بالمرة لا شاربي الخمرة ولا الزناة ولا القتلة ولا آكلي الربا ولا تاركي الصلاة وقد ورد أنه سيدخل قسم من المسلمين العصاة النار حتما أما من؟ ومن؟ فنحن لا نعلم، هذا شىء يعلمه الله، الرسول أخبرنا بذلك. الرسول لا يكذب. الله لا يكذب، الله تعالى أصدق القائلين هو قال: «ويصلون سعيرا» عن آكلي أموال اليتامى ظلما. السعير هو اسم من أسماء جهنم أي نار الآخرة فلا بد أن يتحقق معنى هذه الآية فيجب الاعتقاد أن بعض عصاة المسلمين الذين ماتوا من غير توبة لا بد أن يعذبوا حتما كما في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَِمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [سورة التوبة] . نحن نؤمن بأن القرآن حق وما ورد فيه من الوعيد فهو حق وكذلك ما ورد في أحاديث صحيحة والتي منها الحديث الذي فيه أن آخر من يخرج من النار اسمه جهينه. ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقول الله تعالى أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون قد اسودوا. وروى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم آخر أهل النار خروجا وآخر أهل الجنة دخولا رجل يخرج من النار حبوا فيقول الله اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيُخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى فيقول اذهب فادخل الجنة فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملأى فيقول اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، فهذه الأحاديث تدل على أنه لا يجوز لقائل أن يقول يا رب لا تدخل أحدا من المسلمين النار بالمرة فهذا مخالف للقرآن والسنة والإجماع وموافق لعقيدة المرجئة وهم من الكافرين من أهل الأهواء المردية فإنهم يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر حسنة. اعتبروا أن المسلم مهما عمل من الذنوب والآثام لا يضره ذلك، ردوا النصوص وخالفوا آيات القرآن التي فيها تهديد ووعيد للعصاة هذه الآيات عندهم معطلة بلا فائدة والعياذ بالله من شرهم فقول المرجئة لا يضر مع الايمان معصية هذا الكفر وأما قولهم الثاني – ولا ينفع مع الكفر – طاعة هذا صحيح فالكافر لو صلى صورة أو صام صورة أو حج صورة أو زكى صورة هذا لا ينفعه عند الله لأنه كافر. أما قولهم الأول وهو لا يضر مع الايمان ذنب هذا الكفر معناه إذا الشخص مسلمًا مهما فعل معاصي والذنوب لا يضره وهذا خلاف الشريعة. هذا قياس فاسد. كيف يقولون لا يضر المؤمن فعل المعصية والله تعالى يقول: «وسيصلون سعيرا» العلم يؤخذ من أهله لا يؤخذ برأي فلان ولا فلان كيف يستقيم هذا الدعاء الفاسد والمحرم مع ما ورد في كتاب البعث والنشور للبيهقي حيث يقول عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من أهل القبلة من شاء الله قالوا ما أغنى عنكم اسلامكم وقد صرتم معنا في النار قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فخرجوا قال فقال الكفار يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا رواه الحاكم في المستدرك وصححه ورواه ابن جرير الطبري والهيثمي. وذكر البيهقي عن ابن مسعود أنه قال يعذب الله قوما من أهل الايمان ثم يخرجهم بشفاعة محمد. ولننتقل الى حديث آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: كان حريصا على قتل صاحبه. فما أبين هذا البيان حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا التقى المسلمان بسيفيهما فاقتتلا لأجل الدنيا فالقاتل والمقتول في النار، أي كلاهما يستحق دخول النار عذابًا له مع كونهما من المسلمين.
ذكر ابن حجر الهيتمي المكي في كتابه «الفتاوى الحديثية» بقوله: «مطلب: هل يجوز الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بمغفرة جميع الذنوب وبعدم دخولهم النار أم لا؟ فأجاب: لا يجوز، فقد ذكر الإمام ابن عبد السلام والإمام القرافي من الأئمة المالكية أنه لا يجوز، لأنَّا نقطع بخبر الله وبخبر رسوله أن منهم من يدخل النار». وقال أيضًا: «إن الدعاء بعدم دخول أحد من المؤمنين النار حرام بل كفر، لما فيه من تكذيب النصوص الدالة على أن بعض العصاة من المؤمنين لا بد من دخوله النار» اهـ. ومثله عن ابن عبد السلام والغزالي، كما في كتاب «حاشية الجمل على شرح منهج الطلاب» للعجيلي الشافعي المتوفى سنة 1204هـ والشرح لزكريا الأنصاري الشافعي وهو مختصر منهاج الطالبين للحافظ النووي في كتاب «الصلاة»[(728)]، وفي كتاب «حواشي الشرواني وابن القاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج[(729)]، وفي كتاب «حاشية رد المحتار»[(730)] لابن عابدين الحنفي مطلب في الدعاء المحرّم، وصرّح التفتازاني وغيره بأن المحققين على عدم جواز الدعاء لجميع المؤمنين بمغفرة ذنوبهم، وصرّح النسفي بأنه الصحيح. ويقول[(731)]: «ما ثبت بالنصوص الصريحة لا يجوز عدمه شرعًا». وقد نقل اللقاني عن الأبي والنووي انعقاد الإجماع على أنه لابد من نفوذ الوعيد في طائفة من العصاة وإذا كان كذلك يكون الدعاء مثل قول من يقول «اللهم لا توجب علينا الصوم والصلاة». فتبين فساد قول من يقول «اللهم أجرنا وأجر جميع المسلمين من النار» وقول من يقول «اللهم اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم» وقول من يقول «يا رب أنت غفور رحيم أدخِل الكافرين الجنة» وقول من يقول كذبًا وافتراءً على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال «يا ليت جسدي بقدر النار حتى لا يدخلها أحد من أمة محمد». فهذا كله مخالف للقرءان والسنة والإجماع وهو ضلال مبين.
وفي كتاب «الجامع لأحكام القرءان»[(732)] لأبي عبد الله القرطبي، عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} ، قال: «والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة.
وفي حواشي نور الدين على الشبراملسي على نهاية المحتاج يقول: «والذي منعه الغزالي إنما هو مغفرة جميع الذنوب لكل مؤمن بحيث لا تمس النار واحدا منهم، وقد رد الشبراملسي على من أنكر هذا».
وقول القرافي المالكي في كتابه «الفروق» في بيان قاعدة ما هو من الدعاء كفر، ما نصه[(733)]: «القسم الأول: أن يطلب الداعي نفي ما دل السمع القاطع من الكتاب والسنة على ثبوته، وله أمثلة: الأول: أن يقول: اللهم لا تعذب من كفر بك، أو اغفر له. وقد دلت القواطع السمعية على تعذيب كل واحد ممن مات كافرا بالله تعالى، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ… *} [سورة النساء] ، وغير ذلك من النصوص، فيكون ذلك كفرا، لأنه طلب لتكذيب الله تعالى في ما أخبر به، وطلب ذلك كفر، فهذا الدعاء كفر. الثاني: أن يقول: اللهم لا تخلّد فلانا الكافر في النار. وقد دلَّت النصوص القاطعة على تخليد كل واحد من الكفار في النار، فيكون الداعي طالبا لتكذيب خبر الله تعالى، فيكون دعاؤه كفرا» اهـ.
وقول ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي في كتابه «الإعلام بقواطع الإسلام» ما نصه[(734)]: «واعلم أن الدعاء ينقسم إلى كفر وحرام وغيرهما، فمما هو كفر أن يسأل نفي ما دل السمع القاطع على ثبوته كاللهم لا تعذب من كفر بك أو اغفر له أو لا تخلد فلانا الكافر في النار لأن ذلك طلب لتكذيب الله تعالى في ما أخبر به وهو كفر» اهـ.
ـ[725] التفسير الكبير (ص/167).
ـ[726] الإعلام بقواطع الإسلام (طبعة دار الكتب العلمية 1307هـ).
ـ[727] كتاب الصلاة: باب صلاة الجمعة (ص/488).
ـ[728] تحفة المحتاج بشرح المنهاج (3/351).
ـ[729] حاشية رد المحتار (1/522).
ـ[730] حاشية رد المحتار (ص/523).
ـ[731] الجامع لأحكام القرءان (المجلد الخامس).
ـ[732] الفروق (طبع المكتبة العصرية 1424هـ، الجزء الرابع ص203).
ـ[733] الإعلام بقواطع الإسلام (طبع دار الكتب العلمية 1407هـ، ص96).
ـ[734] حاشية محي الدين شيخ زادة على تفسير القاضي البيضاوي (طبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان، الطبعة الأولى سنة 1419هـ الجزء الثامن ص365).