قال الله تعالى: {…وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *} [سورة طه]
يقول الدكتور السوري في كتابه المسمى: «الإنسان مسير أم مخير» تحت عنوان وأحاديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توهم الجبر ما نصه[(430)]: «الحديث الثالث: ما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احتج آدم وموسى فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة، قال آدم: يا موسى اصطفاك الله بكلامه وخطّ لك بيده أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحجّ آدم موسى فحجّ آدم موسى». ثم قال الدكتور السوري في الهامش: «ومن المعلوم أنّ هذه المحاجة بين موسى وآدم إنما كانت في عالم الأرواح أو في الحياة البرزخية، وقد يستشكل أحدنا قول آدم: قدّره الله قبل أن يخلقني بأربعين سنة، إذ أن قدر الله ثابت من الأزل والجواب كما قال المحقق المازري أن المعنى: أثبت قدر الله هذا في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق بأربعين عاما يدل عليه اطلاع الله الملائكة على هذا القدر الذي قضى به منذ الأزل، ولعله كان قبل تنفيذ الخلق بأربعين عاما» اهـ.
الرد: من المستغرب أشد الاستغراب أن يقول إمام كبير كالمازري «منذ الأزل» وهي عبارة لا يخفى فسادها على طلبة العلم الصغار فضلا عن أئمتهم لأن هذه العبارة تفيد أن الأزل محكوم بالزمن ومنذ تفيد الابتداء، وهذا فساد واضح.
ثم لو أننا راجعنا كلام المازري لوجدنا أن الدكتور تقوّل عليه كلاما لم يقله أصلا، ولا وجود لهذه العبارة مطلقا في كلام المازري بل الموجود ما نقله عنه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري المسمى فتح الباري ونصه[(431)]: «وقال المازري: الأظهر أن المراد أنه كتبه قبل خلق آدم بأربعين عاما، ويحتمل أن يكون المراد أظهره للملائكة أو فعل فعلا ما أضاف إليه هذا التاريخ وإلا فمشيئة الله وتقديره قديم» اهـ. فانظر رحمك الله إلى تحريف الدكتور لكلام المازري.
وأما ما ذكره الدكتور في كلامه عن الحديث[(432)]: «احتج آدم وموسى» فقد قال ما نصه: «والإشكال في هذا الحديث يتلخص في أن آدم تبرأ من أي حول له وقوة أمام ما قد قدّره الله وقضاه من أكله من الشجرة التي حذره الله من الأكل منها، وفي هذا يدل على أن أقدار الله في حق عباده تفقدهم الحرية والقدرة على الاختيار والكسب فضلا عن المباشرة والفعل» اهـ. ثم قال: «والجواب عن هذا الإشكال يتمثل في عدة نقاط: أولها وأهمها بل هي العمود الفقري في حل الإشكال أن تعلم بأن آدم عندما أكل من الشجرة التي حذره الله من الأكل منها لم يكن يملك اختيارا إذ لم يكن في حاله يستوعب فيها أمر الله ونهيه بل كان ذاهلا عن ذلك كله بسبب النسيان الذي أطبق عليه، يدل على ذلك صريح قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *} [سورة طه] قال ابن عباس: نسي هنا من السهو والنسيان، أي فالكلمة بمعناها الحقيقي وليست مؤولة بمعنى الترك مجازا كما قال البعض[(433)] اهـ.
ثم قال الدكتور: «جنح الرازي في تفسيره إلى ما ذكره ابن عباس، وروي عن الحسن أنه قال: والله ما عصى آدم قط إلا بالنسيان»[(434)] اهـ
الرد: أولا: قوله: «إن آدم إنما أكل من الشجرة التي حذره الله من الأكل منها لم يكن يملك اختيارا» هو كلام مردود، فإذا لم يكن يملك اختيارا يعني أنه كان مجبرا، وإذا كان كذلك فلماذا خوطب بالتكليف.
ثانيا: قول الدكتور: «إذا لم يكن في حالة يستوعب فيها أمر الله ونهيه»، أقول: إذا كان آدم بهذه الحالة من الغيبوبة التي يزعمها الدكتور فمعنى ذلك أنه لم يبلغه التكليف أصلا فكيف ينسب الله إليه معصية.
ثالثا: قال الدكتور: «بل كان ذاهلا عن ذلك كله بسبب النسيان الذي أطبق عليه»، فإذا كان قد نسي فالناسي لا يؤاخذ شرعا بسبب نسيانه.
ثم يقول الدكتور: «قال ابن عباس (نسي) هنا من السهو والنسيان، أي فالكلمة بمعناها الحقيقي وليست مؤولة بمعنى الترك مجازًا كما قال البعض»[(435)] اهـ.
الرد: أوَّلا: ما نقله عن القرطبي هو في الجزء الحادي عشر وليس في الثاني عشر، ولعل هذا وقع منه إما عن سهو أو عن خطإ مطبعي.
ثانيًا: الذي ورد في القرطبي هو هذه العبارة: «قال ابن عباس: (نسي) هنا من السهو والنسيان»، وأما بقية الكلام الذي نسبه للقرطبي فلا أساس له هناك.
ثالثا: أما قوله: «قال ابن عباس: نسي هنا من السهو والنسيان»، فالجواب: نعم هذا ذكره بعض المفسرين عن ابن عباس، لكن لا ندري لماذا يتجاهل الدكتور الرواية الثانية التي وردت عن ابن عباس، قال ابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير» ما نصه[(436)]: «وفي هذا النسيان قولان أحدهما: إنه الترك، قاله ابن عباس ومجاهد، والمعنى ترك ما أمر به».اهـ
وقال الألوسي في «روح المعاني» ما نصه[(437)]: «وعن ابن عباس والحسن أن المراد فترك ما وصى به من الاحتراس عن أكل ثمرتها». اهـ
وقال الطبري في تفسيره ما نصه[(438)]: «حدثنا أبو صالح فقال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ… *} [سورة طه] يقول: فترك».اهـ
ونعود إلى تفسير ابن عباس عينه وليس ذلك المنسوب له المسمى «تنوير المقبس» بل المسمى «صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس» وفي هذه الصحيفة قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: «بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رجل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا» اهـ. قال ابن عباس: «قوله (فنسي) فترك»، وقد ذكر الطبري تفسير ابن عباس للنسي بالترك بإسناده عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كما ورد آنفا.
ثم الذين فسّروا الآية بالترك هم الأغلب.
فبعد أن بينّا الرواية الواردة عن ابن عباس بالسند المتصل فإليك ما يلي: أولا: قال القرطبي في تفسيره ما نصه: «قال فنسي وله معنيان أحدهما ترك أي ترك الامر والعهد، وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين» اهـ.
فلا أدري لماذا قفز الدكتور عن هذا الكلام وتركه إلى ذلك القول المنسوب لابن عباس.
ثم قال القرطبي: «قال ابن زيد: نسي ما عهد الله إليه في ذلك ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس».اهـ. فهل الأمانة العلمية تقتضي يا دكتور أن تقطف من الأقوال ما تشتهي نفسك وتشيح بطرفك عن سائرها.
ثانيا: قال الإمام اللغوي المحدث السيد محمد مرتضى الزبيدي في تاج العروس في مادة (نسي) ما نصه: «وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ… *} معناه أيضا ترك لأن الناسي لا يؤاخذ بنسيانه».اهـ.
ثالثا: قال الفراء في معاني القرءان ما نصه: «قوله فنسي: ترك ما أمر به».
رابعا: قال ابن كثير في تفسير الآية ما نصه: «قال مجاهد والحسن: ترك».
خامسا: قال الرازي في تفسيره ما نصه: «وفي النسيان قولان أحدهما: المراد ما هو نقيض الذكر، وإنما عوتب على ترك التحفظ والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان، وكان الحسن رحمه الله يقول: والله ما عصى قط إلا بالنسيان، والثاني: أن المراد بالنسيان الترك وأنه ترك ما عهد إليه من الاحتراز من الشجرة وأكل ثمرتها».
أما قول الدكتور: «وجنح الرازي في تفسيره إلى ما ذكره ابن عباس وروي عن الحسن البصري قوله والله ما عصى ءادم قط إلا بالنسيان» اهـ.
فالجواب: أولا: إن الرازي لم ينقل قول ابن عباس الذي ذكره القرطبي عنه.
ثانيا: قوله «جنح» الواقع لم يجنح حيث قال الرازي كلامًا كثيرًا يدافع فيه عن القول إن «نسي» بمعنى «ترك» وإن المعصية حقيقية وليست لغوية كما قال الدكتور. يقول الرازي في تفسيره ما نصه[(439)]: «وذلك يدل على أن لفظ العصيان لا يجوز إطلاقه إلا عند تحقق الإيجاب، لكنا أجمعنا على أن الإيجاب من الله تعالى يقتضي الوجوب فيلزم أن يكون إطلاق لفظ العصيان على ءادم عليه السلام إنما كان لكونه تاركًا للواجب» اهـ. وقال الشيخ محمد الحامد رحمه الله في كتاب «ردود على أباطيل» ما نصه[(440)]: «والإمام فخر الدين الرازي لم يسلم بأن الأكل من الشجرة كان عن النسيان بمعنى السهو فهو إذا موافق للقرطبي في اعتماده معنى الترك، وإليك كلام الفخر الرازي في كتابه عصمة الأنبياء: «لا نسلم أنه ارتكبه ناسيًا والدليل عليه قوله تعالى أي في ما حكاه عن إبليس: {…مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ *} [سورة الأعراف] ، وقوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ *} [سورة الاعراف] ، وكل ذلك يدل على أنه ما نسي النهي حال الإقدام على ذلك الفعل، وأيضًا فلأنه لو كان ناسيًا لما عوتب على ذلك الفعل ولما سمي بالعاصي فحيث عوتب عليه دل على أنه ما كان ناسيًا» ا.هـ.
ثالثًا: إن كلام الحسن يفيد أن ءادم عصى وهو المراد من البحث.
ثم يقول الدكتور في كتابه المسمى «الإنسان مسيّر أم مخيّر»[(441)]: «فإذا ثبت أن أكل ءادم من الشجرة تصرف إلزامي لا اختيار له فيه لأنه لم يصدر منه إلا نتيجة نسيان كما نصت الآية، فقد ثبت إذا أنه لم يكن مؤاخذًا فيه ولم يكن عليه أي لوم في ما صدر منه، إذ مما لا نعلم خلافًا فيه أن حال النسيان خارجة عن الوسع» اهـ.
نقول: لماذا هذا التكلف والتعسف في مثل هذا اللإخراج الواهي، ألم يقرأ الدكتور قوله تعالى: {…وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *} ، وقوله بعد ذلك {…وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *} ، وقوله: {…فَتَابَ عَلَيْهِ… *} ، وقوله: {…فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *} ، وقولهما: {…ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} فبعد ثبوت المعصية والظلم والغوآية ثم التوبة عليهما، فبعد كل ذلك يعتبر أن الأمر مجرد نسيان. وليس الأمر في قوله تعالى: {…وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *} [سورة البقرة] للندب، نعم قد يكون الأمر في القرءان والسنة للندب وليس للوجوب، ولكن هنا هل يكون الأمر ندبًا بعد قوله (فتكونا من الظالمين)، فهل من ترك مندوبًا يكون ظالمًا؟.
ثم يعتبر الدكتور في المصدر ذاته[(442)] أن المعصية في قوله تعالى: (وعصى ءادم ربه فغوى) هي معصية لغوية.
الرد: أولا: نقول: إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدّعيًا فالدليل، فإذا اعتبرت أن المعصية هنا لغوية فماذا تعتبر الغوآية في قوله {…وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى *} فهل تعتبرها غوآية لغوية، وماذا تعتبر قوله تعالى: {…وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *} فهل هو ظلم لغوي، وماذا تعتبر قوله تعالى: (فتاب عليه) فهل تعتبرها توبة لغوية.
لا أدري لماذا هذا التكلف وابتداع أشياء لم يسبق إليها هذا الرجل.
ثم إن الدكتور يقسم الأمر إلى تكليفي وءاخر إرشادي ويعتبر أن معصية ءادم لأمرٍ إرشادي فيقول في المصدر ذاته[(443)]: «ومثاله أن ينصح أحدنا صديقًا عزم على عقد نكاح ابنته على شاب فيقول له: أنصحك أن تسجل العقد الشرعي في المحكمة، فهذا أمر إرشادي لا علاقة له بالأحكام الدينية، أي فهو ليس أمرًا تكليفيًا، ولنفرض أن صديقنا هذا خالف هذه النصيحة» إلى أن يقول: «إن مخالفته هذه تسمى بدون ريب عصيانًا» اهـ.
الرد: قال الرازي في تفسيره ما نصه[(444)]: «والأمر قد يكون بالواجب والندب، فإنهم يقولون: أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني، وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على ءادم لا لكونه تاركًا الواجب بل لكونه تاركًا المندوب. فأجاب المستدل عن هذا الاعتراض بأنا بيَّنا أن ظاهر القرءان يدل على أن العاصي مستحق للعقاب، والعُرف يدل على أنه اسم ذم فوجب تخصيص اسم العاصي بترك الواجب، ولأنه لو كان تارك المندوب عاصيًا لوجب وصف الأنبياء بأسرهم عصاة في كل حال لأنهم لا ينفكون من ترك المندوب. فإن قيل وصف تارك المندوب بأنه عاصٍ مجازٌ والمجاز لا يطرد، قلنا: لما سلمت كونه مجازًا فالأصل عدمه. وأما قوله أشرت عليه في أمر ولده في كذا فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني قلنا: لا نسلم أن هذا الاستعمال مروي عن العرب» اهـ.
ثم قال الدكتور في المصدر ذاته[(445)]: «والجواب عن هذا الإشكال أن إخبار الله عن توبته على ءادم إنما هو من قبيل المشاكلة التي اقتضتها بلاغة المناسبة مع ندم ءادم وزوجته على ما بدر منهما من مخالفة أمر الله الإرشادي، والذي عبر عنه بيان الله عز وجل بقوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [سورة الأعراف] اهـ، إلى أن يقول: «والمشاكلة لون من أبرز ألوان المجاز البليغ الذي يفيض به كتاب الله عز وجل من مثل قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ *} [سورة آل عمران] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ *اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *} [سورة البقرة] اهـ.
الرد: الآية الأولى: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} لا خلاف بين المفسرين أنها محكمة.
وأما الآية {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} فإنها متشابهة تُحمل أو تؤوّل على ما يليق بالله تعالى وتنزيهه عن صفات المخلوقين، فقد قال أهل العلم في تأويلها إن الله يُجازي الماكرين على مكرهم.
فالعجب العجاب كيف يقيس الدكتور المحكم على المتشابه من أجل أن يقيم فكرة واهية بمقاييس هاوية.
وليعلم الدكتور أنه جاء في الفتاوى الهندية[(446)] نص في باب الردة أنه لو قال: «لم يعصوا – أي الأنبياء – حال النبوة ولا قبلها كفر لأنه رد المنصوص».
ثم اعلم أنه لم يحتج سيدنا ءادم عليه الصلاة والسلام بالقدر إلا بعد أن تاب، فقد أخبر الله تعالى عنه أنه قال: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} ، وقال في حقه: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى *} ، فالمذموم إنما هو احتجاج العاصي بالقدر مع الإصرار على الذنب. قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *} [سورة الأنبياء] .
قوله تعالى: يعني يونس بن متى عليه السلام، و«النون» أي الحوت وأضيف عليه السلام إليه لابتلاعه إياه، وقوله تعالى: {…إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} أي ذهب مُغاضبًا لقومه أهل نينوى – في العراق – لأنهم كذبوه ولم يؤمنوا بدعوته وأصروا على كفرهم وشركهم وأبطؤوا عن تلبية دعوته والإيمان به وبما جاء به من عند الله.
قال ابن الجوزي في تفسيره «زاد المسير» مانصه[(447)]: «غضب على قومه، قاله ابن عباس، والضحاك». ويقول[(448)]: «فظن أن لن نضيِّق عليه، قاله عطاء» اهـ.
وقال الإمام أبو منصور الماتريدي في كتابه «تأويلات أهل السنة» ما نصه[(449)]: «قال بعضهم (فظن أن لن نقدر عليه) أي: لن نضيّق عليه، ولا نبتليه بالضيق الشديد لما خرج من عندهم، فيقال: فلان مقدّر عليه، ومقتر، ومضيق عليه الأمر، وهو كقوله {…يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ… *} [سورة الإسراء] ، أي: يضيّق، وقوله {…فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ… *} [سورة الفجر] ، أي: ضيّق عليه رزقه». ثم قال في قوله تعالى حكاية عن يونس عليه السلام {…لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ *} ما نصه: «ثم اعترف بذلته وذنبه» اهـ.
ومما أجمعت عليه الأمة أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون محفوظون من طفولتهم إلى مماتهم من الكفر وكبائر الذنوب وصغائر الخسة، فيونس عليه السلام لم يكن ذنبه من هذا القبيل بل كان معصية صغيرة لا خسة ولا دناءة فيها، ثم تاب فورًا وتاب الله عليه.
وقوله «من الظالمين» ليس الظلم الذي هو من الكبائر لأنه لم يأكل مال إنسان ظلما ولا تصرف في حقوق الناس بالباطل، إنما قال ذلك في معرض مناجاته لربه في مقام التضرع والدعاء واللجوء إلى الله، ومن نسب إليه الظلم الذي هو كبيرة من الكبائر فقد كذّب دين الله وافترى على أنبيائه.
فلا يجوز اعتقاد أن نبي الله يونس عليه السلام ذهب مُغاضبًا لربه فإن هذا كفر وضلال ولا يجوزُ في حق أنبياء الله الذين عصمهم الله وجعلهم هُداةً مُهتدين عارفين بربهم، فمن نسب إلى يونس عليه السلام أنه ذهب مغاضبًا لله فقد افترى على نبي الله ونَسَب إليه الجهل بالله والكفر به، وهذا يستحيل على الأنبياء لأنهم معصومون من الكفر والكبائر وصغائر الخسة قبل النبوة وبعدها.
وأما قوله تعالى: {…فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ… *} [سورة الأنبياء] ، أي ظنَّ أن الله تعالى لن يُضيق عليه بتركه لقومه قبل أن يؤمر بذلك، وهو كقوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ… *} [سورة الفجر] ، أي ضَيَّقَ عليه رِزقَهُ. فلا يجوز أيضًا أن يُعتقد أن نبيَّ الله يونس عليه السلام ظن أن الله تعالى لا يستطيع عليه لأن هذا مما لا يُعذر فيه أحد العوامّ فضلا عن نبي كريم. فأنبياء الله تعالى جميعهم عارفون بالله وهم أفضل خلق الله وقد عصمهم الله تعالى من الجهل به ومن كل فعل وقول واعتقاد ينافي العصمة، ومن نسب إلى نبي من أنبياء الله أنه ظن أن الله تعالى لا يستطيع عليه فقد نسب إليه الكفر والجهل بالله، وهذا لا يجوز في حق الأنبياء للعصمة الواجبة في حقهم. فجميع الأنبياء منذ نشأتهم كانوا عارفين بالله، وقد أفاض الله تبارك وتعالى على قلوبهم معرفته، فكانوا مؤمنين مسلمين معصومين من الكفر والضلال، فهم لا يعتقدون ما ينافي العقيدة الصحيحة التي أمرهم باتباعها وتعليمها للناس.
نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه «فتح الباري شرح صحيح البخاري»[(450)]، عن الحافظ ابن الجوزي الحنبلي أنه قال: «جحدُه صفة القدرة كفر إتفاقًا» اهـ. ويدخل في هذا أيضًا من شك في قدرة الله تعالى على كل شىء.
ـ[430] الإنسان مسير أم مخير (ص/129).
ـ[431] فتح الباري (11/509).
ـ[432] (ص/130).
ـ[433] الجامع لأحكام القرءان للقرطبي (12/251).
ـ[434] مفاتيح الغيب (6/112ط استانبول).
ـ[435] وينسب البوطي هذا الكلام للجامع لأحكام القرءان للقرطبي (12/251).
ـ[436] زاد المسير (5/328).
ـ[437] روح المعاني (6/269).
ـ[438] (16/160).
ـ[439] تفسير الرازي (22/128).
ـ[440] ردود على أباطيل (1/304).
ـ[441] الإنسان مسيّر أم مخيّر (ص/132).
ـ[442] الإنسان مسيّر أم مخيّر (ص/135).
ـ[443] الإنسان مسيّر أم مخيّر (ص/136).
ـ[444] تفسير الرازي (22/127).
ـ[445] الإنسان مسيّر أم مخيّر (ص/137).
ـ[446] الفتاوى الهندية (2/263).
ـ[447] تفسير زاد المسير زاد المسير (طبعة المسمى المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة 1407هـ الجزء الخامس ص381).
ـ[448] زاد المسير (ص/383).
ـ[449] تأويلات أهل السنة (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1426هـ المجلد السابع ص370).
ـ[450] فتح الباري شرح صحيح البخاري (طبعة دار الريان سنة 1407ر الطبعة الأولى الجزء السادس ص604).